فريد الأطرش .. الأصالة والإبداع
الموسيقار فريد الاطرش (1915 - 1974م ) علامة بارزة ، في تاريخ الموسيقى والغناء الشرقي ، ومدرسة من مدارسها التي اثرت تطويراً وتجديداً ، في تراثنا الغنائي والموسيقى ، حيث استطاع وعلى مدى اكثر من اربعين عاماً ، رفد الموسيقى العربية بعطاءات رائعة وفريدة ، لتكون في مجملها تراثاً فنياً حياً ومتجدداً ، يثري وجدان الامة العربية ، وليصبح هذا الموسيقار علماً من اعلام الطرب ، تهتز وتهفو اليه افئدة الملايين ، من الخليج حتى المحيط .نجومية فريد الاطراش ، وخلود اعماله ، انما هي حصيلة كفاح ، وحب واخلاص لفنه ، وسعيه الدائم لتقديم الافضل والاجمل لجمهوره العريض ، اذ دأب على تطوير الموسيقى والغناء العربي ، مع التزام جلي بالحفاظ على اصالة ، ومكونات الموسيقى الشرقية ، وكان هذا التطوير الواعي من قبله ، يزيد من روعة وجمال تلك الموسيقى ، ويبعث فيها روح التجدد ، وفي اجمل حللها ، ازهى صورها ، حيث كرس فريد الاطرش كل متطلبات الابداع ، من موهبة وذائقة ومعرفة ، في ادخال بعض الالآت الموسيقية ( الكلارنيت ، الاورغن ،الجيتار ) للاستفادة منها ، او من خلال توظيفية لبعض من الوان الغناء الغربي في الحانه وموسيقاه : ( كالفالاس ) في اغنية ( ليالي الانس ) ... او ( التانجو ) في اغنية ( مش كفاية ) ... او ( الرمبا ) في اوبريت ( الشرق والغرب ) ، او في ادخالة ( الهارموني ) على الموسيقى الشرقية في ( يازهرة في خيالي ) و ( حبيب العمر ) ، بل انه في هذا الجانب التطويري ، كان اول من وظف ( الكورال ) في تاريخ الغناء العربي ، في اوبريت ( انتصار الشباب ) سنة 1941م . واذا ماكان فريد الاطرش ، قد وظف بعضاً من موسيقى الغرب في موسيقى الشرق ، فذلك لانه رأى ان الموسيقى الشرقية ، مقارنة بالموسيقى الغربية ، هي الاكثر تعقيداً وصعوبه ، أكان من حيث اوزانها او مقاماتها ، ولذلك ايقن ان الموسيقى الشرقية ، وبما تمتلك من مجالات اومع للاستيعاب والتعبير الوجداني ، وبما لها من آفاق رحبة ، يمكنها وبسهوله ، ان تستوعب الموسيقى الغربية ، وتكيفها بما يتفق مع روحها ، في حين ان الموسيقى الغربية ، تفتقد تلك الخاصية ، كونها لاتمتلك مقومات الموسيقى الشرقية ، وبالتالي لايمكن لها ان تستوعب الموسيقى الشرقية . تلك هي نظرة فريد الاطرش ، ورؤيته للعلاقة بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب وهي رؤية مبنية لصالح الموسيقى الشرقية لذلك فإن فريد الاطرش ، حتى وان بدأ لنا منفتحاً على الموسيقى الغربية ، وموظفاً لبعض منها ، الا انه ينجرف في تيارها ، بل انفتح عليها انفتاح الواعي المدرك ، المتذوق ، والعالم الذي يمحص وينتقي مايناسب ومايفيد شرقية موسيقاه ، ويجدد تألقها ويزيد جمالها وانتشارها ، وعلى هذا ، يمكننا فهم نظرة فريد الاطرش لمفهوم التجديد والتطوير ، في الموسيقى الشرقية ، فهو " ..... لم يطوع الموسيقى العربية للغناء الغربي كما فعل محمد عبدالوهاب ، وانما طوع الموسيقى الغربية ، للاغنية العربية خاصة ، والموسيقى الشرقية بصفة عامة " (1)لقد نظر فريد الاطرش ، الى تطوير اساليب الموسيقى والغناء ، نظرة المحافظ الواعي ، الذي يستفيد من الآخر ، دون ان يتلاشى ، اويتوارى خلف ذلك الآخر ، وان لاينساق وراء التطوير والتجديد ، الا وفق معايير محدودة واولها الحفاظ على اصالة الموسيقى الشرقية ، وتجذيرها ونشرها ، من خلال تطوير مكوناتها وخصائصها .. ولعل هذه الرؤية الاطرشية ، هي ذات ما اكده الموسيقار محمد عبدالوهاب ، في تناوله لقضية تطوير الموسيقى الشرقية عند فريد الاطرش بقوله : " ان فريد بدأ فنياً بمحاولة تطوير الاساليب السائدة في الموسيقى والغناء .. لكي يضطر بعدها الى توقيع هدنة .. او التوصل الى حل وسط .. يجعله يمارس محاولته للتطوير في حدود الموجود فعلاً " (2) ويستطرد محمد عبدالوهاب قائلاً : .. " إنني ربما استطيع ان اضرب امثله عديدة في هذا الاتجاه من بين اعمال فريد الاطرش مثل " وياك .. وياك .. " .. او مثل اغنية " يازهرة في خيالي " .. التي اثبت فيها فريد الاطرش مدى تفتحه المبكر على الموسيقى الغربية ، ومدى قدرته على التطوير في الحدود التي لاتخرج موسيقانا عن طابعها الاصيل واطارها الشرقي " (3) .ان اصالة موسيقى والحان فريد الاطرش ، واستنادها على مرجعية شرقية ، انما نابعة من تكوينه الفكري والنفسي ، وتقديره الشديد للتراث الموسيقى الشرقي ، حتى صار دون منازع - علماً خفاقاً ومعلماً لموسيقى الشرق ، فهو من وظف طاقاته الابداعية ، صوب تطويرها وتجويدها من داخلها ، وبما تحتاجه هي من تجديد وتطوير ، ايماناً منه ، بأن خروج وتقديم الموسيقى الشرقية الى العالم لايجب ان يكون على حساب اصالتها ، وطابعها الشرقي المتميز ، يرى انه لو استطاع الموسيقيون العرب ، الخروج بالموسيقى الشرقية الى العالم ، ولو حتى بتقديم طقطوقة او اغنية صغيرة ، فإن ذلك يعد انتصاراً ، وبداية صادقة وناجحة ، لعالمية الموسيقى والغناء الشرقي . لقد اكد فريد الاطرش ، بمالديه من عبقرية موسيقية ، وروح شرقية منتمية لتراثها ، ان الموسيقى الشرقية ، قادرة على التجدد والتطور ، واستيعاب معطيات العصر ، وتلبية متطلباته الفكرية والنفسية ، والتفاعل وتحقيق جماليات الواقع ، والتجاوب مع ذائقة المجتمع ، دون اية مؤثرات خارجية ، ودون ارغامها ارتداء اثواب لاتناسب طبيعتها .. ولعل اعمال فريد الاطرش الغنائية خير دليل على ذلك ، فالناقد الفني المعروف ( كمال النجمي ) في تناوله لالحان فريد الاطرش ، اشار الى ان الموسيقار فريد الاطرش ، عمل بوضوح على تطوير الاغنية العربية ، ومدها بالروح العصرية ، بشكل خلاق ومبدع ، ورأى ان اغنيتي ( اضنيتني بالهجر ) و ( لاوعينيك ) تجسيد واضح لقدرة فريد الاطرش ، في تحديث وتطوير الموسيقى والغناء العربي ، واخراجه في اطار التخت الشرقي ، الى رحاب التوزيع الاوركسترالي ، المعبر عن طبيعة العصر ، والمتسم بالقدرة على التجدد ، مع تمسك مدروس ، ومحافظة واعية ، لعظمة الموسيقى الشرقية ، وادراك علمي لمكوناتها وخصائصها . وليس الى الشك سبيل ، في ان هذا الاعتزاز بموسيقى الشرق لدى فريد الاطرش ، هو الذي دفع الغرب وجعله مهتماً بتقديم اعماله الموسيقية والغنائية ، إذ اقدم الموسيقار ( فرانك بورسيل ) على توزيع موسيقاه : نجوم الليل - زمردة - حبيب العمر - ياجميل ياجميل ، وتقديمها للغرب . هذا هو فريد الاطرش ، الذي امتلك الموهبة والانتماء الروحي والفني للشرق ، فاستطاع تحقيق معادلة الابداع ( الاصالة - والتجديد ) ليقدم لنا فناً رائعاً خالداً لايختلف عليه اثنان.الهوامش :1- عادل حسنين / فريد الاطرش لحن الخلود ، الناشر : امادو ، القاهرة 1996، ص 65. 2- مجموعة كتاب : فريد الاطرش بين الفن والحياة ، دار المعارف ، القاهرة ، ص 15 . 3- المرجع السابق : ص 17 .