صحيح أن قمة الرياض العربية ينتظر منها حلحلة وتحريكا لحالة الجمود والاختناق في الملفات التالية : العراق، لبنان، وإيران أيضا، بوصفها صارت من «أهل الدار»، لكن علينا الاعتراف أن قدرة المشكلات على البقاء أكبر من قدرة الحلول على الفعل، ومع ذلك فشيء من التفاؤل ليس سيئا.قمة الرياض، تأتي في سياق تاريخ مشحون من حكاية القمم العربية، منذ ان بدأ العرب يكتشفون آلية القمة لبحث شؤونهم ومشكلاتهم، التي لم تتغير كثيرا، إلا في بعض المحطات والأزمات الخارجة عن المألوف، مثل غزو العراق للكويت أو عقد مصر السادات منفردة لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وبعض الحروب الداخلية العربية مثل حرب لبنان، وحرب الأردن مع الفدائيين الفلسطينيين في أيلول الأسود.سوى هذا، بقيت الأجندة هي الأجندة، واحتلت المسألة الفلسطينية صدارة القمم العربية منذ قمة «أنشاص» المصرية في عهد الملك فاروق في 28 مايو 1946 إلى قمة الخرطوم في مارس العام الماضي. ولم يحدث في المسألة الفلسطينية أي «حل حقيقي»، حصلت مسكنات وتضامنات لا تسمن ولا تغني من جوع، لا بل انه اذا ما قدم بعض الزعماء العرب مشاريع حل حقيقية ونافعة للشعب الفلسطيني، سرعان ما تجابهها دول الرفض «المزمن» كما حصل مع مبادرة الملك فهد الشهيرة التي قدمها في قمة فاس المغربية في نوفمبر1981، لكن انتهت القمة بعد 5 ساعات فقط، لأن سوريا رفضت، وبشكل مسبق، مبادرة الملك فهد لحل أزمة الشرق الأوسط، مع أن القمة عقدت لاحقا في فاس.لماذا تعقد القمم اذا كنا، ومنذ حوالي ستين عاما، نطرح ذات القضايا، ولا نصل الى حلول، لا بل إننا نتأخر أكثر على صعيد قضية فلسطين والتضامن العربي والسوق العربية المشتركة وتعزيز الوحدة العربية... الخ هذا الكلام الكبير، ونرى أن القمم العربية لم تصنع شيئا يذكر إلا عندما تناولت قضايا محددة أو «طارئة» حقا، ووفرت للقرارات المطلوبة قوة الدعم، والحشد، وطوعت كل الظروف لها، مثلما حصل في قمة القاهرة الشهيرة في أغسطس 1990 عندما احتل صدام حسن الكويت وبات على مرمى حجر من الحدود السعودية وعلى مسافة عود ثقاب مشتعل من نفط الخليج، عندها صدرت من قمة القاهرة مواقف حازمة ترفض غزو صدام للكويت وتشرع لعملية إخراجه بالقوة، رغم وجود معسكر يميل إلى تمييع القضية، بدعوى الحل العربي، وكاد بعض الزعماء العرب أن يجعل من قضية الكويت قضية مزمنة مثل قضية فلسطين لولا حزم الملك فهد وصرامة إدارة الرئيس حسني مبارك، وخطرة الأزمة، بل المصيبة، التي لا تقبل هرطقات من هذا النوع، وحررت الكويت وطرد جيش صدام منها، ولم يصبح تدخل الجيش الأمريكي كفرا، ولم يقاطع العرب الرياض أو القاهرة، فالضرورات تبيح المحظورات، ومقاطعتهم من قبل لم تفعل شيئا، لا مع مصر، ولا مع غيرها.هل الغرض من هذا القول إنه لا فائدة من القمة العربية؟! أبدا، ليس هذا هو الغرض، ولكن ماذا لو استفاد العرب من تجربة ستين عاما من القمم العربية منذ قمة أنشاص أيام الملك فاروق، وقرروا أن يحدث تركيز أكثر، وواقعية أكثر في الاجتماع على شيء محدد وقابل للتطبيق حقا، وليس من ضرورة ذلك أن يكون الموضوع المطروح سياسيا، نعم السياسة تفرض نفسها دوما، ولكن لا بأس بإيلاء الاقتصاد والتنمية السياسية وتنمية المجتمع العربي، قدرا من الأهمية و«الطارئية» يوازي، أو يقارب على الأقل، القضايا العربية المصيرية الأخرى.لا ريب أن الوضع في المنطقة العربية متوتر الآن (ومتى استقر أصلا؟!) فالعراق وضعه محبط، ولبنان على شفا بركان، وإن كان هذا البركان في حالة فتور، وسوريا تتخبط من اجل الخروج من حصارها، وإيران النجادية تتحفز للمواجهة، ناهيك من السودان ومحكمة دارفور التي قد تطيح برؤوس النظام. ماذا بقي أيضا؟! نعم الصومال وحرب المحاكم الإسلامية وإثيوبيا، ، وآخرين كما يقال... وغيرها.. ، هذه قضايا كبيرة، فأين منها تخصيص وقت لطرح مسألة الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتعليمي، هذه قضايا قابلة للتأجيل، أو ربما يتم تناولها بشكل جانبي (المشكلة أنها مؤجلة منذ أزيد من نصف قرن!).إذا أردت ان تكون واقعيا، فلا تستطيع أن تتجاهل أهمية الحرب الحاصلة في العراق، أو التي ستحصل في إيران، أو التي تخشى منها سوريا، لا تستطيع أن تقلل من أهميتها، أو تطالب الدول العربية بتأجيل البحث فيها، خصوصا الفاعلة منها مثل السعودية ومصر والأردن والإمارات وحتى المغرب. ولكن إذا أردت أن تكون واقعيا، أيضا، فإنك تعرف أن هذه المشكلات العرب هم طرف فيها، أو بعض العرب للدقة، ولكن هناك أطرافا أخرى إقليمية ودولية لها نفس النصيب العربي إن لم يكن أكثر، فمثلا مشكلة العراق لإيران، كطرف إقليمي، النصيب الأكبر فيها، ولأمريكا وتتبعها بريطانيا، النصيب القيادي فيها. وفي لبنان، فإسرائيل طرف إقليمي رئيسي في سياق الملف اللبناني، باعتبار أن وضع حزب الله وسلاحه يعتبر موضوعا حيويا بالنسبة لإسرائيل، دعك من أمريكا، وهكذا في الصومال وعلاقة إثيوبيا بمشكلتها، التي هي قطعا أهم من علاقة الكويت، مثلا، بمشكلة الصومال... لكنها قضية مهمة لدولة عربية مثل اليمن... وهكذا العالم العربي ليس موحد الهموم، ولا المصالح. إذن فليس هناك تحرك عربي خالص وصاف، هناك أطراف عربية معنية بشكل مباشر بهذه الملفات وأطراف عربية، مثل موريتانيا، معنية بشكل غير مباشر، فليس لنا أن نساوي السعودية ومصر في درجة اهتمامهما بالمسألة العراقية أو اللبنانية، بطرف بعيد عن نيران هذه الأزمة.نعني من هذا كله أنه، وحتى في المسائل السياسية، فالواقعية والبعد عن الشعاراتية، وإدراك مساحة الحركة والدور والقدرات، هي المفتاح الرئيس للحل، أو المضي للحل، على الأقل.بكل حال، وعلى الرغم من الإقرار بخطورة هذه القضايا السياسية، إلا أن السؤال يظل قائما: ماذا عن «التركيز» على مسألة بعينها ومحاولة حلها بدل هذا الشمول والاتساع الذي يضعف تكتيل الجهد وتركيزه في محل واحد؟ ماذا لو عقدت قمة عربية تبحث فقط كيفية استقرار العراق، والعراق فقط، ودعمه بالمال والسياسة بعدما تحول الى حفرة كبيرة تمتص كل مياه نقية ويتعثر فيها كل المشاة ؟! وإذا ما أردنا التواضع أكثر، فماذا لو عقدت قمة أخرى تبحث فقط في قضية التعليم وكيفية إصلاحه، أو في قضية البيئة؟ وإذا كانت قمم عادية من هذا النوع متعذرة، بسبب «اللحظة المصيرية»، و«المنعطف التاريخي» الذي تمر به الأمة العربية، فماذا لو عقدت قمتان، واحدة للقضايا المصيرية، وواحدة للقضايا غير المصيرية مثل التعليم والاقتصاد والبيئة..؟!أما أن نقول، كما يخبرنا السيد عمرو موسى في لقاء سابق له مع جريدة «الحياة»، إن القمة العربية الحالية لن تكون «قمة بيانات»، ولكن في الوقت نفسه ستبحث «كل» المسائل المطروحة في العالم العربي («الحياة» 13 مارس الحالي)، فهذا يعني أننا لن نخرج بشيء، لأنك إذا أردت أن تعالج كل شيء، فهذا يعني أنك لن تعالج أي شيء!وكما في بداية المقال، التفاؤل هو أكسيجين الحياة، ونحن لا بد أن نحيا، فعلى الأرض ما يستحق الحياة كما قال محمود درويش، من أجل ذلك نقول إنه وفي الرياض عاصمة العقلانية في السياسة العربية الإقليمية، وبقيادة الملك عبد الله بن عبد العزيز صاحب مبادرة السلام العربية، والرجل الصريح والمباشر، الذي رعى مصالحة مكة بين حماس وفتح، وأصبح مركز الثقل العربي الحقيقي الآن، يصبح الأمل حيا، وصديقا لنا.كلنا حلم أن تكون قمة الرياض مختلفة، لأننا نعيش في زمن مختلف وتحديات مختلفة، تتطلب عملا مختلفا.نحن نستحق كشعوب، على الأقل الأجيال الشابة، أفضل مما نحن فيه، ولكن وبسبب عشقنا «الخالد» للأخطاء ـ وتكرارها بعينها ـ وكرهنا للصراحة وخضوعنا للعاطفة، ربما يكون ما جرى لنا من خيبات، شيء نستحقه، جزاء وفاقا... وربما يكون طريقنا للنور، يوما ما، فطريق الأمل معبد بالألم... أو هكذا نحلم.ـــــــــــــــــــــــــــــــــ[c1]نقلاً عن صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية
هل تصبح قمة التواضع ؟
أخبار متعلقة