عندما تم القبض على الطبيب الأردني في لندن على خلفية اتهامه بأنه العقل المدبر للاعتداءات الأخيرة الفاشلة على لندن وجلاسجو، ضمن خلفية من ثمانية أعضاء معظمهم أطباء، كان رد فعل والده - المقيم في عمان - أمام الصحافة: "ابني ليست له علاقة بهذا الموضوع - الإرهاب - وهو ليس له هدف إلا إكمال تعليمه والحصول على الاختصاص"! ثم قال مبرراً القبض على ابنه: "ليس من المعقول أن يكون أي مواطن عربي إرهابياً، المواطن العربي في العالم الغربي يداس ولا يَسْألُ عنه أحدٌ كونه عربياً"! أما الأم فتعالى صراخها وعويلها على ابنها. وإذ نتعاطف مع مشاعر الوالدين المصدومين ونتمنى براءة ابنهما ومن معه، فإننا لا نعتقد أن العرب مهانون في أوروبا ولا متهمون، فهناك ملايين العرب، يمارسون حياتهم الطبيعية ويحظون بالاحترام والتقدير، بل ويتمتعون بحقوق وحريات وامتيازات غير متاحة لكثير منهم في أوطانهم الأصيلة، إلا أننا نتصور أن هذا الأب المفجوع آخر من يعلم عن ابنه! فقد ذكر صديق لابنه أنه "كان يبدو وكأنه أصبح من أنصار الحركات الإسلامية في بريطانيا، حتى شكله كان مختلفاً، مع لحية طويلة كالتي يحملها عادة الإسلاميون المتطرفون".وعلى العموم فموقف هذا الأب ينسجم مع مواقف كثير من الآباء الذين لا يعلمون شيئاً عن أبنائهم، ولعلنا نتذكر موقف والد محمد عطا (قائد غزوة مانهاتن)، والذي أنكر تماماً علاقة ابنه باعتداءات سبتمبر على أميركا، وأصر - أمام القنوات الفضائية - على اتهام " الموساد" بخطف ابنه، ولا أدري هل ما يزال ينتظر عودته غير مصدِّقٍ أنه وبقية الكتيبة فجروا أنفسهم في البرجين مسببين قتل ثلاثة آلاف نفس بريئة، إنه أب مفجوع، إنه آخر من يعلم! أما البلجيكية الحسناء، مورييل ديغوك، والتي تزوجت أصولياً مغربياً وأسلمت وسمت نفسها مريم وأصبحت مجاهدة وذهبت إلى العراق لتفجر نفسها في قافلة أميركية، فقد اتهم والدها، زوجَها المغربي بأنه "غسل دماغها"! إنه أيضاً أبٌ آخرَ مفجوع... لكنه آخر من يعلم! أما المشهد الأكثر مأساوية فهو حالة مئات الآباء المنكوبين الذين لا يعلمون شيئاً عن أبنائهم الذين انضموا لـ"القاعدة" في العراق أو تسللوا إلى لبنان ليحاربوا مع التنظيمات المتطرفة، مثل تنظيم "فتح الإسلام"، هؤلاء الأبناء ذهبوا من دون علم الوالدين ومن دون إذن من دولهم، لأن فتاوى مشايخ الإرهاب والمواقع الإلكترونية المتطرفة، زينت لهم طريق الموت، وقالت لهم إن الجهاد (العيني) لا يلزمه إذن الوالدين وولي الأمر. ذكر جنرال أميركي في العراق، مرة أن 25 % من الذين يُقتلون في مواجهات مع القوات أو في عمليات انتحارية، شباب يحملون جنسيات مغاربية! هؤلاء المجاهدون (المتطوعون) يغادرون أوطانهم خفية، من دون علم أسرهم، باحثين عن جبهات نزاع وتوتر ليقاتلوا... لماذا؟! لأن الفتاوى الدينية من ناحية، ومقررات التربية الإسلامية من ناحية أخرى، والمشايخ المحرضين من جهة ثالثة، قالوا لهم "يجب على المسلم أن يكون مستعداً دائماً للقتال وخوض المعارك في سبيل الله، لأنه ما ترك قوم الجهاد إلا ذُلوا"! أهالي هؤلاء الانتحاريين لا يعلمون شيئاً عن أبنائهم، وهم يعيشون في قلق الانتظار وعذاب الترقب حتى يأتيهم اتصال هاتفي بعيد يقول لهم إن ابنهم استشهد مع وصية "لا تقيموا عزاءً"! هكذا تستمر الحياة في الأرض العربية في سلسلة من المواجع والمآسي الحزينة لأن الآباء أصبحوا - بفعل التحريض الإلكتروني الجهادي وسطوة مشايخ الجهاد - لا يملكون من أمر أبنائهم شيئاً! ستستمر نكبات الآباء ومواجع الأمهات، ما دام الإرهاب قادراً على خطف فلذات الأكباد من أحضاننا! سيظل الإرهاب نشطاً فاعلاً مدمراً حتى تصل مجتمعاتنا إلى قناعة عامة بأن دفع الأبناء إلى مزيد من الهلاك لن يرد مظلمتنا ولن يشفي غيظنا ولن يثأر لكرامتنا ولن يعيد عزتنا وكبرياءنا، بل سيدمرنا. سيظل هذا الإرهاب يفتك بأبنائنا إلى أن نراجع خطابنا التعليمي والديني والإعلامي ونعيد النظر فيه. وللمرء أن يعجب من تناقضات مشايخ التحريض، يرسلون أولادنا للموت ويمنعون أبناءهم. لقد انتهك هؤلاء براءة الطفولة حين حولوا الأطفال الفلسطينيين قنابل ملغومة، هل تصدقون ما قاله أحد هؤلاء الأطفال؟ "إذا استشهدت، انتقل إلى حياة جميلة تنتظرني 70 حورية"! هكذا شحن عقله خطيب المسجد. والمشكلة أن الآباء لا يعلمون! يقول أب مفجوع في رسالة دامية "اكتبها بقلب يعتصر ألماً وعيون لا تكفكف دموعها، لقد فقدت ابني البكر - 17 ربيعاً - غرر به رفاقه، زينوا له طريق الموت، وأقنعوه بتفجير نفسه". من يتحمل مسؤولية هؤلاء الضحايا؟! وما فعلت تلك التضحيات الكبيرة للقضية الفلسطينية؟! دعونا ننتقل إلى مشهد مأساوي في إسلام آباد؛ مئات الطلبة المتحصنين بالمسجد الأحمر، يتحدون الدولة وقوات الأمن التي تحاصرهم منذ عدة أيام، وقد كتبوا وصاياهم لأهاليهم استعداداً للشهادة، أما زعيمهم الذي حرضهم، فقد تركهم لمصيرهم وفر في زي امرأة منقبة! كان هذا المسجد ومدارسه الدينية الملحقة، وكراً للفكر الطالباني ومركزاً للإرهاب والتطرف، أحرق طلابُه المتشددون محلات الفيديو والموسيقى، وخطفوا ستّ صينيات كنّ يعملن في دار للتدليك، واتخذوا أربعة من الشرطة رهائن للضغط على الدولة بغية تنفيذ مطالبهم، وأقاموا محكمة للشريعة في تحد لمحاكم الدولة ورفضاً لقانونها العلماني، وانحاز زعيمهم لـ"طالبان". ويقوم المحتوى المعرفي لمناهج المدارس الدينية التابعة للمسجد الأحمر على تعليم تعصبي ضد جميع مظاهر الحضارة وحقوق المرأة والفرق المخالفة، وضد الديمقراطية..! والسؤال الآن: من المسؤول عن تحويل مئات الطلبة إلى انتحاريين؟ هل هم الآباء الذين ارتضوا هذا التعليم الظلامي؟ أم المناهج التعصبية؟ أم الأساتذة المتطرفون؟ أم البيئة الحاضنة؟ أم الحكومة التي تغاضت عن مثل هذا التعليم؟ إنه جناية الآباء والأهالي الذين لم يحرصوا على تعليم إنساني متفتح لأبنائهم، وجناية الأسر المفككة التي لا تعْلَم عن أبنائها شيئاً، وجناية التعليم الظلامي ومشايخ التحريض والمواقع الأصولية المتطرفة، وجناية الدولة التي تتغاضى من أجل تحالفات سياسية وكسب شعبي زائف. سيسقط مزيد من الضحايا بسبب تفضيلنا ثقافة الموت على ثقافة الحياة، وبسبب العنتريات الفارغة - وأيضاً - حماقة ركوب الرأس والتحدي، لكن الآباء آخر من يعلم![c1]نقلاً عن جريدة "الاتحاد" الاماراتية [/c]
الآباء ... آخر من يعلم !
أخبار متعلقة