أكثر ما يثير العجب، لا الإعجاب، في تداعيات فوز حزب العدالة التركي، بالأغلبية النيابية ومن ثم بموقعي رئاسة الحكومة والدولة، هو تبريكات وتعليقات كثير من إسلاميي العالم العربي.هذه التعليقات اتسمت بطابع الانتشاء بفوز(نا)، والشماتة من هزيمة خصومـ(نا) العلمانيين. لكن أحد هؤلاء المباركين المنتشين، لم يسأل نفسه وهو يشارك في الزفة: هل حزب أردوغان وخطاب عبد الله غل يعتبران إسلاميين، بمقاييس المبارك ؟!لماذا لا تعتبر «تنازلات» ومرونة وبراغماتية حزب العدالة التي لم تتوقف عند حد تكرير الاعتراف بمرجعية اتاتورك، وعدم الحيدة عنها، والتعهد بحماية الدستور التركي الذي ينص بلا مواربة على أن تركيا «علمانية ديمقراطية»، لماذا لم تعتبر هذه المواقف من قبل رمزي الحزب، اردوغان وغل، علمانية وزيغا وخنوعا للغرب وهزيمة نفسية أمام قيمه؟!إذا كان الرأي الرسمي لواحد من هؤلاء الدعاة هو اعتبار المطالبة بقيادة المرأة السعودية للسيارة نوعا من العلمانية والتآمر على الدين، وفي نفس الوقت يحتفي موقعه الرسمي على الانترنت، وفي كلمة الإشراف، بفوز اردوغان وغل باعتباره فوزا للطرح الإسلامي السياسي؟! فأي تناقض هذا في الأحكام ؟!بكل حال، فإن صعود حزب العدالة التركي الكبير، ومزاحمة الإخوان في مصر للنظام، وتقدم الإسلاميين في الكويت، ودويلتهم في غزة فلسطين، كل هذه الحالات، مع استثناء الحالة التركية، أو على الأقل تمييزها بسياق خاص، ليس هذا مكان التوسع في الكلام عنه، كل هذا لا ينفي إدراج هذه الحالات ضمن إطار أوسع، هو انتفاش حركات الإسلام السياسي وتقدمها في مساحات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي.هذا يقودنا إلى حديث لا يحبه كثير ممن هم مؤيدون لطروحات جماعات الإسلامي السياسي، هذا الحديث حول الإسلام السياسي، هو مصطلح إشكالي ومثير بطبيعته، فأبناء الجماعات السياسية الإسلامية لا يرضون بهذا الوسم، وان كان بعضهم بدأ لا يشعر بالحساسية إزاءه.نجد إسلاميا عتيدا، مثل الداعية السوري محمد العبدة.. يقول هاجيا من يستخدم مصطلح الإسلام السياسي:«اخترعوا مصطلح الإسلام السياسي وكأن هناك إسلاما اجتماعيا وإسلاما اقتصاديا، وإسلاما فقهيا... وهذه تجزئة غير بريئة، وهم ممن يجعلون القرآن «عضين»، الإسلام كل هذا، وهو لا يدخل في السياسة إذا كانت تعني: الدجل والكذب والخداع» (خواطر في السياسة. د. محمد العبدة ص 34).الغريب أن للعبدة كتابا نشر قبل حوالي عشر سنوات، اسمه «حركة النفس الزكية، دروس وعبر"وهو استعراض لثورة احد أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن عبد الله، الملقب بالنفس الزكية، على الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، وقد ثار النفس الزكية هو وأخوه إبراهيم، الأول في المدينة المنورة، والثاني في العراق، من أجل خلع الخليفة العباسي وإقامة حكم «المهدي المنتظر»، ولكن الثورة أخفقت، ونجحت قوات الخليفة العباسي في قمعها والانتقام ممن قام بها، الدكتور العبدة في كتابه ذلك، واذكر أنه كان منتشرا ومؤثرا في أوساط الإسلاميين في السعودية، وربما غيرها، استعرض أسباب إخفاق الثورة، وهو متعاطف معها طبعا باعتبارها نموذجا تاريخيا يمكن احتذاؤه في الثورة الإسلامية السياسية، لكن الحركة فشلت بسبب «مثالية» قائدها الزائدة، كما كان رأي العبدة، ومبالغته في التمسك بأخلاقيات ومثل لا يملكها خصمه أبو جعفر المنصور.لكن محمد العبدة في كتابه الأخير هذا «خواطر في السياسة» الذي صدرت طبعته العام الفائت 2006، يقول إن الإسلام لا يدخل في السياسة إذا كانت تعني: الدجل والكذب والخداع؟!فأيهما الصحيح، مثالية النفس الزكية، ولا عمليته، المنتقدة قبل بضع سنوات، أم نقاء السياسة المطلوب الآن، كما في الكتاب الأخير؟!الحق أن السياسة شيء فوق أسر الشعارات، ورغم اختلاف تعريفاتها إلا أنها في نهاية الأمر ممارسة دنيوية بحتة، وليست بالضرورة خاضعة للمثل والقيم والمبادئ، أيا تكن مصادر هذه المثل، وإذا ما توخينا أكثر التعريفات رواجا فإنها فن تحصيل الممكن، وإنْ كان هذا التبسيط لا يعجب أهل العلوم السياسية الذين يرون أن السياسة علم قائم بذاته وليست فنا أو مهارة تمارس، بل هي علم كبير يتفرع منه مجالات مثل النظريات السياسية، وتاريخ الأفكار السياسية، وعلم النفس السياسي، وترتبط به جملة من العلوم الأخرى مثل علم الاجتماع ... الخ. غير ان السياسة، رغم هذا كله، تخضع للسقف الدنيوي، وتقوم على علاقات المصالح وموازنتها، وليست مجرد عربة أو مركبة تقاد من أجل الوصول إلى محطة مثالية «نهائية» هي محطة فردوس الحكم الإسلامي النقي، كما تبشر أدبيات أهل الإسلام السياسي.ومع أن مصطلح السياسة، باعتباره دالا على ممارسة الحكم، يعتبر مصطلحا غير قرآني، ولم يرد في النص القرآني مصطلح السياسة بهذا المعنى، بل ورد مصطلح «الأمر»، ربما يكون هو اقرب مصطلح لما يريد منا إسلاميو اليوم أن نفهمه منهم، مع أن مصطلح الأمر يحمل نفس الحمولات الأيديولوجية التي يحملها مصطلح السياسة حاليا.في القرآن جاء: «فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر» (آل عمران 159) ، وجاء أيضا : «وأمرهم شورى بينهم» (الشورى 38) ، وجاء أيضا :«وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» (النساء 59).وفي كل هذه المواضع تأتي الدلالة على معنى إدارة شؤون الجماعة وتصريف «أمرها» بما يحقق المصالح، ويحفظ الفائدة، ويمنع وقوع الضرر في «أمر» الجماعة.جاء مصطلح الأمر بهذه المعاني، رغم أن مصطلح السياسة وارد ومطروق في النصوص العربية المزامنة لفجر الإسلام، فهذا هو الشاعر «المخضرم» الحطيئة المتوفى سنة 650 ميلادية يقول في شعر له:لقد سوست أمر بنيك حتىتركتهم أدق من الطحينوجاء في لسان العرب:" والسوس: الرياسة (...) أنشد ثعلب: سادة قادة لكل جميعساسة للرجال يوم القتالإذن فمصطلح السياسة هو مصطلح لاحق على المصطلح الإسلامي القديم، وحتى ذكر السياسة بمعنى «الأمر» جاء في المعاجم العربية المتأخرة كصدى لما طرأ على المصطلح وتم «التواضع» عليه، كما يلاحظ المفكر المصري سعيد العشماوي في كتابه (العقل في الإسلام).وفي هذا الكتاب يقدم العشماوي مطالعة مثيرة حول اللحظة التي لوثت فيها السياسة وصراعاتها، معنى الدين الخالص، فيقول متحدثا عن أحداث الفتنة الكبرى التي بدأت في عهد الخليفة عثمان بن عفان (644 ـ 655 ميلادي) بعدما ثار أهل الأمصار على الخليفة بحجة محاباته لأقاربه الأمويين، وما جرى بعد ذلك من قتل للخليفة ثم صراع بين علي ومعاوية ثم خروج الخوارج على الطرفين... الخ.يقول العشماوي:«الخلاف بين معارضي عثمان وبينه لم يكن خلافا على شعيرة دينية أو على فريضة شرعية، لكنه كان على ما يعرف في أي نظام للدولة بأنه من عمل الإدارة، إذ اتهم بأنه حابى أقاربه».ويضيف :«هذا الخلاف لو لم يشتعل بالعواطف ويلتهب بالمشاعر لكان قد أدى بالمسلمين إلى وضع تعريفات واضحة صريحة للدين والشرع والخلافة والإدارة والسياسة، وما مثل ذلك من ألفاظ ومعان، بما كان لا بد أن يفضي إلى تحديد ما هو من الدين وما يكون من السياسة» (العقل في الإسلام ص 42)، وبناء على هذا الاستخدام والتراشق بالحجج الدينية والنصوص المؤسسة للإسلام، بين أطراف الصراع السياسي في الفتنة الكبرى، الأمويين ومعسكرهم، وعلي ومعسكره، والخوارج، أدى ذلك إلى استنزاف تام للجامعة الدينية وصدع كبير تخلل الدين والسياسة معا...هل من اجل ذلك رأى عبد الله غل، رئيس الدولة التركية الجديد، القادم من خلفية عمل إسلامي سياسي أن: «الخلط بين الدين والسياسة يضيرهما معا. فالمبدأ الديني محصن بطبيعته من أي تغيير، أما السياسة فتتغير باستمرار استجابة للواقع» (من ورقة قدمها عبد الله تركماني في المغرب، يونيو 2006).هذا الوعي الذي قدمه «الرئيس» عبد الله غل، حول تغير السياسة، وثبات «المبدأ» الديني، وأن الخلط بينهما ضرر محض، هو وعي جديد، وكل الرجاء أن يكون وعيا استراتيجيا عميقا، لا تكتيكيا سطحيا، لأنه يعني ببساطة أن غل واردوغان هما مسلمان تركيا يمارسان السياسة، وليسا «إسلاميين» يتوسلان بالسياسة وأدوات لعبتها من اجل برنامج أيديولوجي عقيم.فليت إسلاميي المشرق العربي الذين هللوا لصعود الحزب التركي يقفون عند هذه الدلالات، وليتهم أيضا يعرفون كم جنت السياسة على الدين، والدين على السياسة، منذ أحداث الفتنة الكبرى الى يومنا المعاصر، والى غدنا أيضا، ما دمنا على هذه الحال، وبهذه الأفكار[c1]*نقلا عن /صحيفة (الشرق الأوسط ) اللندنية[/c]
هواجس غير تركية
أخبار متعلقة