نقد أدبي
قصتان في عدد الجمهورية الثقافية رقم (428) بتاريخ 3/ 4/2008م أجبرتاني على قراءتهما أكثر من مرة واستأثرتا بما وفرته الأسابيع من مشاعر حزن واسى وإعجاب في نفس الوقت لما أكنه شخصيا لبعض الأقلام التي تتواصل مع الجمهورية الثقافية خاصة، وبعض الصحف الأخرى على قلة كتابات هذه الأقلام، أنما تحس مع ما تكتبه هذه الاقلام تفرض احترامها عليك حتى وإن كانت هذه الكتابات نثرية إخبارية تخالف أو تصب في مجرى السياسة وتبتعد عن الكتابات الأدبية التي هي محط اهتمامي.ولا يعني هذا أن بقية المواضيع والكتابات القصصية لم تجد لها متسعا على سطح الاهتمامات كلا فأنا أقرأ الجمهورية من النهاية إلى البداية وأحس باهتمامها بهذا الجانب المهمش من القائمين على الخطاب الثقافي، واعتبر إطلالتها الأسبوعية بمثابة زاد ذهني لاغني عنه تتزود منه الذاكرة وتلامس مختلف الاهتمامات الفكرية والأدبية والاجتماعية والسياسية لتعمل على أن تظل هذه الذاكرة متقدة ومتجددة وخاصة بعد أن همشت القراءات المنظمة.ليس ذلك فحسب بل هي فتحت صفحاتها ليطل من خلال هذا الملحق الأسبوعي عالم من الكتابات الأدبية والفكرية تأسر الوجدانات والأحاسيس وتؤكد حضورها الأدبي شعراً وقصة وفكراً مستنيراً وأن بدت في حلتها الجديدة أكثر تراجعاً.أعود إلى القصتين اللتين استأثرتا بأحاسيسي ووجداناتي وهما قصة للكاتبة القصصية نجاح حميد الشامي بعنوان ((موعد)) والأخرى أطلق عليها كاتبها القاص حميد قاسم السياغي ((ارحموا عزيز قوم ذل)).ويلاحظ من خلال عنواني القصتين وقراءتها إنهما يند غمان فيما يطلق عليه بعض النقاد من أن يكون دائما لغة تحمل معنى أو عدة معاني، وإذا كان المعنى هو الهدف الأسمى للغة فأنه من هنا تبرز العلاقة بين اللغة والحكاية كما هو الحال في النصين اللذين نحن بصدد الإحاطة بهما، وفي تقديري فان الهدف يكون أكثر قرباً من المدرسة الواقعية تلك المدرسة التي احتلت وجدانات المثقفين والسواد الأعظم في العديد من أنحاء العالم بما فيها تلك البلدان التي يطلق عليها بالدول الرأسمالية وهيمنة القلة القليلة على نختلف مقدرات تلك البلدان في هذه الدول كان للمدرسة الواقعية والمدرسة الواقعية النقدية حضور غير عادي.بعض الطرف عن الأدب القصصي والروائي لأدباء الاتحاد السوفيتي العظام وللعلماء اللغويين وعلماء اللغات والمناطقة الروس الذين يعود الفضل إليهم في العديد من المدارس الأدبية، وفي إثراء الأدب النثري الإنساني علي مدى عقود من الزمن في هذا الاتجاه فان هناك العديد من الكتابات الأمريكية والأوربية أثرت الأدب الإنساني وجسدت معاناة الإنسان في تلك الدول ..... بل لقد كشفت عن الأنياب الخفية لتلك الأنظمة، من خلال الكتابات الشعرية والنقدية للعديد من العباقرة الأمريكان والغربيين، فهم من رفد هذه المدرسة الإنسانية بقيم المحبة والآلفة ودافع وتبنى القيم الإنسانية وجسدها في الكتابات الأدبية والفكرية والحقوقية.ولكي لا أطيل على القارئ العزيز واخرج عن ما أنا بصدده من عنوان ((موعد)) للقاصة نجاح الشامي،((واحموا عزيز قوم ذل)) للقاص السباعي، فتجاه الاختصار أو عدم الاطاله أقول بأن قصة موعد، هي موعد حقيقة، موعد مع التكثيف وموعد مع الصور، وموعد حقيقة مع الواقع الانتهازي السائد، أو قل إللامبالي ... ذلك أن الباطن يقول بأن هناك علاقة سابقة على هذا الموعد وأن هناك أموراً جعلت من المرأة والماكياج وصندوق المجوهرات ودولاب الملابس، كل أوليك ينتشون ويهللون بقدوم هذا الموعد الذي عاد على الوفاء وعلى المروءة بشيء أو قل بكل الحسرة والحزن والأسى.هكذا قالت :: الجميع يتحدث دون أذن مني، خذلوني جميعهم قلبي، عيناي جوارحي، تحدثوا جميعهم كل الوقت ألا أنا لم يبق لي متسع من الوقت لأقول شيئاً.وتضيف :: كان منهمكاً يقلب بين اصابعة كأساً من الزجاج رسمت على واجهته أشكال مبهمة وخطوط متداخلة ....وهنا يتبادر السؤال الذي لم تقله القاصة، حول هذه الخطوط المبهمة والمتداخلة والتي هي ربما بإيجاز شديد يمكن أن تجعل من المتلقي يتحسس تلقائياً أنه سيواجه شيئا ما أو أنه أمام عقدة ما أو حدث مهم يحتاج إلى التأمل والتدبر من أجل فك شفره هذا التداخل والإبهام.ذلك أن القصة القصيرة يختلف التكنيك فيها عن القصة الطويلة أو الرواية، ثم أننا بصدد القصة الشورت التي تعتمد على التكثيف والأجلاء والتنامي غير المبالغ فيه وإشراك القارئ في الخروج من مأزق ألازمة ....فنحن بعد أن أحطنا في كليمات أو عبارات وصور أدبية رائعة بالحال الذي كان عليه من هو على موعد مع خيال القاصة خيالها الراقي والإنساني بعد أن شاهدت اهتماماته تنصب حول الكأس الذي يداعبه بيده وكان يرسم على واجهة أشكال مبهمة .... فترى ما هي هذه الأشكال المبهمة ومن أين قدمت هل من مدرسة الإنسانية، أو من الفحولة التي اتكأ عليها وهو لا يعرف حق قدرها؟؟؟؟؟؟ أو أنها تنتمي إلى عصور خلت في العلاقات ألإنسانية في العديد من البلدان.وأنها وأن كان لها وقع في بلادنا فان مصيرها سيؤول إلى متحف العلاقات الإنسانية فقصة ((موعد)) كما هو واضح من العنوان الذي تعمدت القاصة فيه إلى حذف لام التعريف واعتبرته موعداً مثله مثل أي موعد آخر بعد أن لملمت قلبها الذي بدأ مكسور الخاطر ثم عادت تجر ما تبقى لها من الم وخيبة آمل... ترى أي صنف من الشباب هذا الذي جعل قلب الكاتبة يستقل دراجة نارية ليسبقها إلى حيث من أوهمها بحبه وهيامه وهو في الأخير يبدو على تلك الشاكلة من البحث عن مبلغ سلف .... يا للهول .... يالمفارقة يا للحسرة على مثل هكذا شباب .. خاصة بعد أن تحدث الجميع القلب والجوارح والعينين، وهولاء الأجهزة هم مكونات الإنسان بما يجيش به من أحاسيس وعواطف..فالقلب يركض بشدة معلناً فرحة بملاقات من أفصحت عنه هذه الجوارح، والأخيرة تضطرب شوقاً ولوعة بعد أن تؤكد لها العينان لقاءها واحتدامها بمن كانت على آمل اللقاء به ليكون لقاء وردياً ورومانسياً وليس كما هو الحال في هذا اللقاء الذي يبحث فيه عن سلف.القصة في مجملها تحمل قفشه من القاصة لتمسك بتلابيب منهم على شاكلة طالب السلف وما أكثرهم في أيامنا، وما السلف سوى رمز لأمثال هذا الشاب الوغد أن جازت العبارة ذلك لان الزمن الذي تربى فيه الناس واكتسابهم مختلف القيم الإنسانية والنبيلة والراقية في إنساننا العربي واليمني على وجه الخصوص لم يعد لها رواج في أوساط بعض الشباب بفعل تسارع الحياة في اتجاهات ضبابية وطغيان الجانب المادي على سواه من القيم النبيلة التي سادت العقود السالفة على القرن الواحد والعشرين وكذا الهجمة الشرسة للأفكار الظلامية ونهجها الذي يعتدي ويكفر مختلف المناهج التنويرية، ويخرج عن النهج الإسلامي القويم الذي ينمي كل الأفكار الخيرة وكل أراء المحبة ولوئام.؟.... ومن هذه الأفكار بلورة وإشاعة تتعلق بان الفتاة المتعلمة والتي تقيم زمالة مع هذا الشاب ربما يكون لها علاقة مع شاب آخر وأفكار أخرى أكثر ظلامية لا تنظر إلى المرأة نظرة إنسانية بل هي تنظر إليها نظرة دونية لا تتجاوز حدود الصرة تحت.بل لقد بلغ بهذه الأفكار الظلامية إلى حد فيه شيء من التجني على بناتنا وزوجاتنا وأمهاتنا، وهن بناتهم وزوجاتهم وأمهاتهم، بل لقد بلغ بهم الحد إلى القول بأقوال .... يخجل الإنسان أن يتلفظ بها أو بأمثالها.ولربما يكون هذا الشاب في قصة ((موعد)) لا يخرج عن هذا التصنيف وأنه هناك منها الحالات الكثير التي أرادت القاصة أن تجليها لنا في قفشتها تلك التي أبرزت صفاته فارس الأحلام إلى هذه الدرجة فأدركت القاصة حركة يده مع الكأس التي مرسوم عليها خطوط مبهمة لتقول ::- قلبي الذي كان منتشياً بين يديه .... هذه المرة انتظر متوسلاً قبل أن يسمع أولى كلماته... أي عرفت صلافتك ونشوتك نحو مبلغ السلف، والقاصة في نفس الوقت تقول في قفشتها لهذه الأشكال العدمية ::- كفوا عنا فقد ضمينا قلوبنا وعدنا من حيث أتينا.فا بداعية نجاح الشامي تتمحور في مساحة لغوية ضيقة أو كما يطلق على أمثال هذه النصوص بالقصة الشورت وهي تبتسم بالبساطة في التركيب والمفردات المنتقادة هي كذلك سهلة غير أنها الحال الذي أضحى عليه بعض الشباب وبصورة فنية وثرية.اما القاص المبدع حميد السياغي صاحب الإمساك بتلابيب هذه الأيام، على حد زعم العبارات المصرية القوية الواردة في كتابات العديد من عمالقة القصة والرواية المصرية،((فعبارة تلابيب)) تعني تقريباً النفس الأخير لحياة المقفوش عليه وليس المقبوض عليه ............بمعنى آخر فإن بساطة العبارات الدالة على المعاني الكبيرة والمغزى الاجتماعي والإنساني ذلك ما صور فيه قاصانا بل لقد كان أكثر إبداعاً في قفشته لمعظم الحالات التي تصادفنا في الجولات وعلى الأرصفة وفي الجوامع الصغيرة والكبيرة ......تذكرت وأنا اكتب حول إيداع ولد السياغي وسخريته الجميلة والرائعة التي بدأها بقولة ما أن سلم الأمام حتى انتصبت واقفاً ..... يستبيح المكان هدوء فائق، الوجوه واجمة والعيون ترمقني نظرات فاحصة ..... صمتي زاد عن حده ..... كحيت وأنا أضع يدي على فمي وكأني أتأهب لإلقاء موضوع مصيري.... ويستطرد قائلاً : فاجتزت غلاف الصمت وقلت ((ارحموا عزيز قوم ذل)) بداية قوية منحتني الثقة بالنفس ... للتو أخرجت ورقة من جيبي وتركتها تنسدل لتلامس أصابع قدمي ...المشهد هنا يتنامى، يكبر تعتريه كم وافر من الجدية في البداية ومن السخرية كذلك ليست من ممتهنين هذه التي تتنامى وتزداد يوماً بعد آخر، ويكون القائمين عليها في غاية من الذكاء والتخصص، بل السخرية من الحضور الذين تنطلي عليهم مثل هذه الحركات وتراهم يتزاحمون متعاطفين مع المشهد.أما قاصنا فما يضجره ويغضبه غير صرير تلك الفلسات المزعج وهو ينظر إلى جيوب المصلين المنتفخة بالنقود الورقية، كما يضجره كذلك عدم الاحتراف حين قدم ذلك العجوز من الطرف الآخر للمسجد ليردد ((ساعدوا عمكم الحاج)) هكذا تحارب المواهب، ردد هذه العبارة في حينه بتلقائية لا تخلو من الإدراك للحال وللمواهب التي تقدر وتحترم من ذلك العجوز الذي افرزتة العقود السالفة بكل مسابقها في مختلف إشكال القيم النبيلة والحال الذي أضحت علية هذه القيم ... مقزمة ... محبطة معانية، غير مدركة للحال الذي سوف يأتي علية القادم. أي قفشه ساخرة مثل هذه والمواهب هنا تحارب لان التسول لم يعد كما كان في الأيام الخوالي يأتي نتيجة للحاجة والعوز، بل هو اليوم أضحى صناعة، ولابد لكل صناعة من أدوات تساعد على تقويم لإنتاج في أحسن صورة وتأثير مذاقه ولذلك فأن التسول في أيامنا هذه يحتاج إلى الموهبة وإلى الصنعة، كي تكون الفاعلية مجدية، والمردود مجزي كذلك والآمر يتنامى ليصل بالعجوز المحتاج حقيقة أن يقدم ما حصل علية من نقود للمحترف، فلقد أثر علية خطاب المحترف وقدارته على اسر نفوس الحضور وجيوبهم...........هكذا اندفع العجوز ليقول في حزن واسى :: خذيا ولدي فأنا ساتدبر أمري مع طفلي ورمى له بالنقود التي حصل عليها وانبرى يردد لقد كان كلامك مؤثراً والمني كثيراً ما حلت بك من ظروف قاهره ..........يا إلاهي ...............هذا هو الإيثار، هذه هي القيم التي تربى عليها سالف الجيل، أما الجيل اللاحق علية، فانا ندعو له بأن يمنحه الله القوة للتغلب الحياة وعلى التعامل معها أي الحياة بشيء من الوفاء والصدق والمرؤه كي لا ينفع في شباكها المادية الصرفة بطغيانها الذي لا يرحم.فالقصة موحية بدلالات ولقطات ساخرة ورائعة في نفس الوقت للحال الراقي الذي بلغة مجتمعنا من الخداع والغش وفن الغواية حتى التسول ناهيك عن ممارسة هذه الفنون في التعامل مع حياتنا المعيشية وفي علاقاتنا الاجتماعية القائمة لدن البعض على شيء من الحذلقة والخداع ........... والقصتان تجد في مضمونهما أحاله على الواقع الاجتماعي الذي يفرز أشكالاً من العلاقات الإنسانية خاصة تلك التي تدعي قرباً لها من الإسلام الحنيف الداعي إلى المحبة والألفة والصدق والمرؤة فأين نحن مما كشفته لنا القصتان من نماذج بشرية وحياتية مليئة بالقبح ....... على الرغم من أني لم اقرأ لهما إلا لأول مرة غيراني أتنبئ لهما بمستقبل قصصي مبهر ومدهش يضحكنا على أنفسنا كما قال كما قال الكاتب المسرحي العظيم برخت.