كان الصديق الشاعر الاستاذ لطفي جعفر أمان يختلف اختلافاً كبيراً عن غيره من الشعراء في عدن في تعامله مع الغناء.، وأهل الغناء.فالشعراء الآخرون كانوا لايكتبون الشعر للغناء واذا كان من بينهم من يكتب الزجل، فإنه لايكتبه من أجل ذلك ايضاً ، كالشاعر الاستاذ علي محمد لقمان ، واذا لحن احد الملحنين شعرهم ، او زجل بعضهم- بإذن او بغيره - فإنهم لايلقون بالاً ، ولا أهتماماً ، اذا استثنينا من هؤلاء الشعراء الدكتور محمد عبده غانم صاحب الريادة في كتابة الزجل للغناء في عدن ( المستعمرة) عند ظهور " ندوة الموسيقى العدنية" وكان احد المؤسسين لهذه الندوة 1949م. واختلاف الاستاذ لطفي امان عن زملائة الشعراء انه كان يكتب الشعر ويكتب الزجل احياناً من اجل الغناء وله رأي في هذا الاتجاه يجده القارئ في مكان آخر من هذا الموضوع.[c1]أغنية هات يدك على يدي[/c]عندما يكتب الاستاذ لطفي الشعر او الزجل للغناء يخص الملحن والمؤدي لشعره او زجله، ولا يتنازل قيد أنملة في هذا الاختيار والدليل على هذا، حين بلغ سمعه انني انوي تسجيل هذه القصيدة (هات يدك ) للاذاعة بصوت الفقيد محمد صالح عزاني، وكنت قد غنيتها قبل ذلك في حفلات عديدة ، كتب اليّ رسالة فيما يلي نصها:بلغني انكم تنوون ان تسجلوا للإذاعة اغنية " هات يدك على يدي" التي الفتها لكم قبل مدة .. فسررت لذلك سروراً عظيماً لاسميا وان لحنها الرائع لايزال خالداً في القلوب حتى اليوم .. وسيظل كذلك لاجيال واجيال ولكنني .. وبكل صراحة : تألمت حين علمت بانك لن تؤدي الاغنية بصوتك . وانما سؤديها الاخ عزاني.وانا مع احترامي الشديد للعزاني واعجابي به .. اقول بان الاغنية اصلاً اديتها انت .. وغنيتها بصوتك في شتى المناسبات .. وانطبعت في قلوبنا ، واذهاننا بصوتك انت .. فليس هناك اي مبرر لتسجيلها بصوت آخر مهما كانت روعته ، لاننا ألفنا سماع الاغنية بصوتك . انني لا احب مثلاً ان اسمع عبدالحليم حافظ يسجل للإذاعة اغنية كان عبد الوهاب قد غناها اصلاً في حفلات ومناسبات مهما كان اعجابنا بعبد الحليم.ارجو ان تفكر في رأيي هذا حرصاً منا جميعاً على مستوى روعة الاغنية وشكراً . ارجو مخلصاً ان لايتاثر العزاني من رايي هذا وان يفهم غرضي وله اعجابي وسلامي.[c1]اخوك : لطفي جعفر امان[/c]1960/12/14موكان الاستاذ لطفي شديد الحرص ان يكون هو اول من يستمع للحن شعره او زجله، وان يأتي الملحن الى بيته ليسجله او يأتي اليه باللحن مسجلاً ، وقد كان هذا الموقف الدائم معي واظنه كان يفعل ذلك مع غيري من الملحنين .(1) في لقائي مع الاستاذ قلت له : لقد غنى عبدالحليم اغنية سبق ان غناها الاستاذ الكبير وهي اغنية " لست ادري".وربما يطلب من المحلن بلطف - وكان هذا معي - بعد ان يعيد التسجيل اكثر من مرة، ان يكون اداؤه لجملة لحنية معينة باسلوب كيت وكيت ، او ان يقترح تعديلاً موسيقياً معيناً، وغالباً ماتكون اقتراحات سليمة.وللعلم- لمن لايعلم- ان الاستاذ لطفي كان رساماً وممثلاً ، وعازفاً على العود ، وملحناً جيداً ، وقد لحن لمطربة ، او مطرب لا اذكر اسمها او اسمه ، وسجل هذا اللحن للإذاعة، واظنه بعد فترة طلب من الاذاعة عدم اذاعته نظراً لمكانته الادبية.لذلك بعد ان اكتشفت موهبته الموسيقية كنت احرص عندما يرسل اليّ قصيدة من قصائده. او يسالني الزيارة لمنزله من اجل قصيدة جديدة، اطلب منه ان يسجل القصيدة بصوته لاني اصبحت موقنا ان الرجل لابد ان يكون قد وضع تصوره للحن قصيدته، ومن هذا الالقاء اقف على هذا التصور- وللأمانة- اعترف ان مفتاح كل لحن جديد كنت التقطه من إلقائه البديع المعبر عن تصوره للحن قصيدته. وعندما القاه لأسمعة اللحن الجديد كنت الحظ الارتياح على قسمات وجهه، وكأنني اعطيته ماكان يأمل، إلا أن الملاحظات المفيدة، والصائبة كما قدمنا تبقى واردة. وكم اسفت لعدم احتفاظي بالقائه المسجل حيث كان بالامكان ومن خلال برنامج اذاعي تاكيد هذه المزية الموسيقية لديه، ومقارنة ذلك بالبداية اللحنية لكل لحن وضعته لقصائده.كان من عادة الاستاذ لطفي اذا ما انتهى من كتابة قصيدة ما ، ان يفكر بالملحن الجديد بتحلينها وهذه العادة نتعرف عليها من رسالة هل ننشرها في مكان اخر في هذه الحكاية ونسرد هنا حكاية غريبة مع شاعرنا لم يشهد الغناء العربي- قديماً وحديثاً- نظيراً لها .ولقد جرت العادة ان اقدم له اغنية في حفلاتي الموسمية المقرر لها عيد الاضحى المبارك،على مسرح مدرسة (البادري) في ( كريتر) وهذا هو الاسم المشاع للمسرح ايامئذ. واستلمت القصيدة بعنوان ( مش مصدق)، وفوجئت في العشر الاواخر من شهر رمضان يطلبني بالتلفزيون للزيارة ،وذهبت وسألني عن القصيدة فقلت لقد قطعت شوطاً لاباس به في تلحينها واذا به يتحدث عن حرج وقع فيه بسبب اصرار الاخ احمد قاسم على تلحين القصيدة ( مش مصدق) لتقديمها في حفلاته الموسمية التي تهل قريباً في عيد الفطر المبارك. وهذا الاصرار من جانب الاخ احمد قاسم كما قال : إنه يعيش حالة عاطفية عبرت عنها ( مش مصدق) بالتمام والكمال ،وفهمت من نقاشنا الطويل حول الموضوع ان شاعرنا وان كان يعترض على الطلب الا ان الاصرار من قبل الاخ احمد قاسم جعله يرى في قبوله على ان نخوض معاً تجربة فنية الاولى من نوعها في ساحة الغناء العربي ، ثم انها - التجربة- ستثير ضجة اعلامية لا اول لها ولا آخر، وتضاعف من الاقبال الجماهيري على حفلاتنا،وتبين - الاقدر- على العمل الفني المناسب للقصيدة . عند سماعي هذا الموقف من شاعرنا والذي يبعد كثيراً عن منطق الامور ويخالف مبدأه المعروف في توزيع قصائده على الملحنين لإدراكة بقدرات المللحنين على نحو ما فصلنا بداية بمواهبه المتعددة، وبالموسيقى بوجه خاص ، واختلافه كلية عن بقية الشعراء في معاملته مع الغناء والمغنين فقد احسست على التو بان الفكرة اعني فكرة - التجربة- قد استهوته جداً على اثر اصرار الزميل كما قال ، او انه خطط لهذه التجربة على سبيل التسالي واقول على سبيل التسالي لان شخصاً بحجم الاستاذ لطفي لايمكن ان يفكر بغير ذلك لانه لم يكن بحاجة الى الدعاية لنفسة. وفي نهاية الامر لم يكن في وسعي الا القبول بالفكرة من باب التحدي اولاً - والتحدي حياتي في الحياة- ومجاملة للاستاذ لطفي ثانياً ،لانه كان سيد الغناء في تلك الفترة، وكان يشجعنا بحضوره في حفلاتنا ويلقى قصيدته في الليلة الافتتاحية بالقاء مؤثر بديع يهيىء الجماهير لاستقبالنا بحماس منقطع النظير.وبعد ، فان القطيعة التي كانت بين الاخ احمد قاسم وبيني لم تسمح لنا بالاتصال لمعرفة الحقيقة ، حقيقة اصراره التي رواها شاعرنا والذي كان بمقدوره ان يرفضها ويكتب له قصيدة اخرى او حقيقة احساسي بان الفكرة اساساً من تخطيط شاعرنا النابغة واقنع الاخ احمد قاسم ان يخوض التجربة للاسباب التي ذكرها لي سيما وان حفلاته الموسيقية المقرر لها عيد الفطر المبارك لم يبق عليها الا ايام معدودة .. لا ادري !! المهم .. ماكادت الصحافة المحلية تسمع بالفكرة والا وقامت القيامة بالتهليل والتكبير وعلا الضجيج الذي ما بعده ضجيج واصبحت الفكرة حديث الناس في كل مكان وجاء عيد الفطر ، واحتشدت الجماهير في حفلات الاخ احمد قاسم لسماع لحنه للقصيدة اياها وارجات الصحافة الفنية تعليقاتها حتى موعد اللحن الآخر في عيد الاضحى موعد حفلاتي وجاء دوري وعاودت الصحافة الفنية ضجيجها واحتشدت الجماهير وشهر الكتاب اقلامهم بعد ذلك لاكثر من اسبوع في تناول العمل الفني بين الطرفين ونشرت احدى الصحف او المجلات رأي الاستاذ لطفي في العملين واسدل الستار على اللعبة الفنية او التجربة الفنية بوصف شاعرنا المحبوب.وعجبي.. ان هذه اللعبة قد طار صيتها الى الجزيرة والخليج، وعرفت ذلك من الفنانين عند زيارتي للمنطقة ويستغربون حدوثها واستغرابهم نابع من تقليد راسخ في الاوساط الفنية في العالم العربي يرفض هذا المسلك الذي لامعنى له تحت دعاوى التنافس وافراز الاقدر وخلافة وكان عليّ ان اقدم التبريرات لهذا المسلك وما هي الا واحدة من حالات كثيرة لاتعلم ولاتعترف بالتقاليد الفنية الغنائية عند العرب والعالم واحساس عام بعدم الجدية على كل المستويات وقد تلاشى الاستغراب عندما نبهتهم الى الاوضاع السياسية القائمة وقتذاك والتي لاتمكنا على ارساء تقاليد فنية اسوة بالبلاد العربية التي انهت الاوضاع المماثلة.وتدعونا المناسبة ان نقول ان الاوضاع الفنية التي كانت سائدة في العهد الاستعماري ظلت سائدة بعد الاستقلال الوطني وحتى يومنا هذا بل خلقت اوضاعاً ومفاهيم جديدة تناولناها في كتاب (صفحات من الذكريات).وعودة الى شاعرنا الاستاذ لطفي امان الذي لم يحدث خلاف بيني وبينه الا مرة واحدة ، وذلك عندما نشر لي حديث طويل في صحيفة (الفجر) 1957/5/20م، وكان السؤال من الصحف: على من تقع المسؤولية في انسلاخ الاغاني المحلية وفي عدن بالذات عن الحياة العامة ومن تصوير مبتذل للعواطف الشريفة الى انعزالية معينة عن كل مايجري من صراع شريف؟!.. وكان الجواب : » المسؤول الاول هو المؤلف ، ومؤلف الكلمات التي يغنيها الفنان بصفته اكثر وعياً بما يحتاجه مجتمعه ولكن هذا لايعني ان الفنان الملحن لايتحمل اي مسؤولية ، يجب ان نعتبر انفسنا اليوم في معركة ضد قوى الشر والطغيان ويجب علينا ان نجند كل قوانا وكل امكانياتنا حتى نكسب المعركة.غضب الاستاذ لطفي عندما اوحى اليه احد الذين تعجبهم مداعبته بانه المقصود في هذا الحديث فلم ادر الا وهو يتجشم عناء الرحلة الى الاذاعة ليقدم سلسلة من الاحاديث عن اللغة في الاغاني وخصني بحلقة واحدة منها عدد فيها الهفوات اللغوية في بعض كلمات اغنية ( اراك طروباً) ، وانتظرت حتى فرغ من حلقاته وهدأت ثورته فتوجهت برسالة هادئة اليه وكان رده عليها سريعاً ومن هذا الرد ولدت قصيدة ( هات يدك على يدي) واننشره هنا كاملاً كي يطلع القارىء على نثرة الجميل كما اطلع وانبهر على الدوام باشعاره الفصيحة الرائعة:وافتني رسالتك الرقيقة والممت بمضمونها وكانت ملامحك الشخصية واحاسيسك الفنية تلمع بنصوع في ثنايا الفاظ رشيقة في اسلوب رشيق واهتز لك القلب وانت تمده بروافد من المشاعر الطيبة التي تنبع عن مشاركة فنية بيننا فباركت اواصر الاخوة التي تربط بيننا وهي تشتد وتقوى .ولاحقت ثورتك على كلمات اغانينا وانا طبعاً معك وان كنت لا اريد هنا ان اخوض المعمعمة، وليس افتخاراً مني ان اصرح بانني ملم بالمشكلة غاية الالمام . بل إن لي قصيدة بعنوان " حب ..وقلب .. ومعركة" نظمتها قبل يومين وستصدر في ( فتاة الجزيرة) بعدد الاحد القادم وفيها اصور مشكلة الحب الخالدة وافلسف بعض جوانبها ثم اشيد بالعواطف الانسانية النبيلة التي تصنع تواريخ الشعوب فالحب قد يموت واما القلب فيظل يخفق ويدق مع جرس الزمان، مادامت هناك رسالة انسانية واجيال تتجدد وتتطور ومواكب الزمان ابداً صاعدة صاعدة،والقصيدة- طبعاً - لاتصلح للغناء.وهنا مشكلة ان اساليب الشعر الذي يقدم للغناء يجب ان تكون ذا طابع مميز اننا يجب ان نتناول العواطف النبلية والمعاني العامة المتداولة التي تشكف عن اهداف راقية ثم نستلها في اسلوب سهل ولكنه قوي فنحن مثلاً في عدن في طور التكتل والتآزر نحن يجب ان نضع كفاً على كف ونتعهد بالاخاء ثم نسير في الطريق الذي يجب ان نسير فيه وجميل لو صيغت هذه المعاني في الفاظ عامية قوية تبعث على الشعور والاهتزاز والتأثر:هات يدك على يدي تعاهدني واعاهدك واكون لك على عهدي وتكون لي على عهدك.نعم لنضع كفاً على كف ونقسم يمين الاخلاص لمصالحنا المشتركة التي تجنح عن المصالح الفردية :هات يدك اقسم لك ببلادي وتقسم لي باتكون لي واكون لك اخلص لك وتخلص ليفاذا استطعنا ان نقسم يمين الاخلاص ونتعهد بان نوحد امالنا فاننا نضمن معنى المشاركة الوجدانية الحقيقي:-آمالك ترويني وجروحك تجرحنيوشجونك تشجيني وسعادتك تسعدنيوهو نفس المعنى الذي يكشف عن معنى الحب النبيل حين تتوحد الآمال وتكون السعادة واحدة والألم واحداً ان التفرقة بيننا هي سبب ضياع كل منا وبؤسة وميوعة بكائه ، إننا نسعى لأجل ان نتحد اولا ولو اتحدنا لما ارقنا الدموع في سكون الليل ، ولما نحنا كالنادبات في المآتم:ضاع عمري ونا وحدي مابينك وبيني شكيلويدك على يدي ماببكي ولابشكي .. الختلك ابيات عامية نظمتها قبل ايام وكتبتها لك هنا عن غير قصد وربما قدمتها ليحيى مكي لتلحينها ربما وان كنت اشعر في قرارة نفسي انك جدير بتلحينها ولكنني فهمت منك ان لديك اكداساً من القصائد وفهمت من بقية الملحنين والمغنين ان لكل منهم ملفاً مشحوناً بالحبيب الفاتن والحبيب الغادر والهاجر والصابر وفهمت ان عدن قد انقلبت الى مصنع للأغاني كولا تماماً كبقية مصانع للأغاني كولا تماماً كبقية مصانع الكولا تنتج اغاني مثلجة.انا لا امانع من ان تكون لنا اغانٍ غزلية شعبية عليها طابع من حياتنا وبيئتنا ولها ملامح خاصة بنا وقد نشرت في ( القلم العدني) قبل العدد الماضي قصيدة بعنوان ( في جفونك).كان بودي ان اطيل انني اجد عزاء في ان اكتب اليك ولكنني متاثر بحمى الانفلونزا التي اقعدتني اربعة ايام في المنزل نعم كتبت هذا الخطاب تاريخ 24 يونيو واتمه اليوم 28 ، كنت حقاً في حالة اعياء وعياء شديدين.هذا ما عندي لك الآن. إنني اكتب والحمى تفتت عظامي وتلهب برأسي الصداع على الرغم من انني في مرحلة النقاهة بعد ان لزمت الفراش ومع هذا اشعر بدافع غريب يحثني على الاستمرار في الكتابة اليك لاجل ان تقوى اواصر الصداقة بيننا وختاماً ارجو لك نجاحاً موفقاً في كل ميدان من ميادين الحياة الشريفة كما ارجو الا تنقطع الصلة بيننا ولو بالمراسلة.لطفي جعفر امان1957/6/28م
|
رياضة
المرشدي وحديث الذكريات عن لطفي أمان
أخبار متعلقة