يومان فقط يفصلان بين ذكرى اغتيال المهاتما غاندي، واليوم الذي تحدث فيه خالد مشعل، رئيس مكتب حماس السياسي، عن خطوات حركته الاصولية المقبلة، بعد أن حققت فوزها الكبير في الانتخابات التشريعية الفلسطينية. يومان في تراتب حوليات شهر يناير، فيوم أمس 30 يناير، يوافق ذكرى قتل داعية اللاعنف وقائد المقاومة الهندية الشاملة للاحتلال البريطاني. قتل غاندي عام 1948، حينما اخترق شاب هندوسي متطرف الصفوف نحو «روح السلام» الذي كان يقبض يديه على صدره علامة التحية الودودة، تقدم ناتورام غودسي، الصحافي الهندوسي المتعصب، وأشهر مسدسه مطلقا ثلاث رصاصات قتلت العجوز، لحظتها تمتم غاندي: «هاي رام»، أي: يا رب. ثم رحل عن العالم. هذا قبل أكثر من نصف قرن من الآن، وقبل ثلاثة ايام، 28 يناير الحالي، أعلن خالد مشعل في مؤتمره الصحافي الذي عقده في دمشق، للتعليق على انتصار حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، مشيرا لسلاح حماس، أن حركته تسعى الى «حماية المقاومة التي صنعتنا وأعطتنا كل هذا المجد». وبرنامج المقاومة الذي يتحدث عنه مشعل هنا، يقع السلاح في القلب منه، كما قال لبرنامج «نقطة نظام» في تلفزيون العربية، شارحا موقع السلاح من منظومة المقاومة: «في عمقها». ثم قال: «من يسوّق الحديث عن الوسائل السلمية هذه، ثبت أن (وجهة نظره) غير مجدية». (20 مارس 2005). في الهند، حصل تحرير، ورحل المستعمر، وقامت حياة سياسية ثرية في بلد عملاق في مساحته وسكانه ودياناته ولغاته.. وفقره ايضا، بطريقة سلمية. حصل التحرير مع أن قائد المقاومة وضميرها، كان هو عراب فلسفة المقاومة السلمية أو «ساتياغراها» (ساتيا، أي: حقيقة، وأغراها، أي قبض). وهي فلسفة لا تعني العصيان المدني حصراً، بل سعي هادئ لا يقاوَم إلى الحقيقة. ويوضح غاندي اللاعنف بأنه ليس عجزاً أو ضعفاً، ذلك لأن «الامتناع عن القصاص ليس عفواً، ما لم تكن القدرة على القصاص موجودة أصلاً»، وهو كذلك لا يعني الاستكانة للظلم عن خوف أو عن جبن، بل ذهب حتى الى تفضيل العنف على الجبن والخنوع قائلا: «إنني قد أخاطر باستعمال العنف ألف مرة ، بدلاً من خصاء عرق بشري بأكمله». ( بحث ديمتري افييرينوس، ك. غاندي). ربما يبدو حديثنا هذا، وفي ظل ظروف الاحتلال الاسرائيلي الصعبة والظالمة التي يعيشها الفلسطينيون، ضربا من الاستهانة بآلام الناس، وعدم إحساس بمدى المعاناة اليومية، او أنه تهويم دخاني في حلقات متصوف شرقي موغل في ثقافة الهندوس، ذات النزوع العرفاني، ولكنها لن تجدي مع آلة القمع الصهيوني، كما أن الانجليز غير الاسرائيليين.. وبكلمة: فإن فلسفة غاندي ما «تنفعناش». ضع هذا الكلام كله في ظل هذا الصعود الكبير للايدلوجيات اليمينية في العالم كله، بحيث وكأن العالم كله يسمع نداء موحدا يقول: «الى اليمين در!». خصوصا في عالمنا الاسلامي، الذي أخرج مهدي عاكف واخوانه المسلمين في مصر، والزهار وحماسييه في غزة والضفة، والحكيم والصدر وشيعتهم في العراق... إذا راقبنا كل هذه التحولات الاصولية التي سيكون لها ما وراءها، وسنلمس آثارها على بقية الحركات الاصولية في العالم الاسلامي، وقد بدأ غيثها بتصريح عزام الهنيدي، رئيس كتلة الاخون المسلمين البرلمانية في الاردن، بأنهم جاهزون للحكم الآن (الحياة/ 30 يناير الحالي). فالحديث عن غاندي و «ساتياغراها» يصلح في جلسة سمر على ضوء القمر، فهي لغة هامسة لا تنفع لضجيج اللحظة! لكن، وبصرف النظر عن قناعتي الشخصية بهذه الفلسفة، أو ايماني بها، فهذا بحث آخر، فإن برامج الحركات الاصولية المسلحة، سواء المحدود منها بقطر مثل حماس وحزب الله، او المنتشر في الارض كلها مثل القاعدة، قائمة، مرحليا، على المواجهة والمنازلة العسكرية، وكل ما سوى ذلك فليس الا من باب «التخديم» على الهدف الجوهري، وهو إنجاح برنامج الحركة او الجماعة، الذي يصبح فيه التخلص من العدو الشاخص أمام بندقية الحركة، هو الهدف الحاضر والنشط، باختصار: هدف المرحلة. ففي حالة حماس، الهدف هو الاحتلال الاسرائيلي، وكذلك الشأن مع حزب الله ، الهدف هو تحرير جنوب لبنان من اسرائيل (الآن بقيت مزراع شبعا، ولا ندري بعدها ما الذي سيبقى؟)، واما في نموذج القاعدة، فالهدف هو العالم كله تقريبا، وعلى رأسه امريكا والدول الحليفة لها. هذا هو الهدف العسكري المرحلي، وهو لا يكشف عن «الهدف الصلب» لجماعات الاسلام السياسي، وهو ما يسمى باستئناف الحياة الاسلامية على النقيض من الجاهلية الحالية! فحماس مثلا تريد، بعد طرد الاحتلال، وربما بموازاة هذا، إقامة دولة اسلامية في فلسطين، باتجاه إقامة الخلافة الكبرى. لكن ماذا لو أن حماس وصلت الى غايتها في تحرير الارض، ولن نسأل مشعل، كما سأله صائب عريقات: أي أرض؟ أرض 67، او كل الارض من البحر للنهر؟. فهل سينتهي مشروع حماس العسكري عند حدود استرداد الارض الواقعة ضمن حدود 67، ام ان ذلك لا يعني سوى محطة على الطريق، وصولا الى إلقاء اليهود في البحر؟. نحن هنا نتحدث بمقاييس الممكن واللاممكن، وأيضا بمعايير الانساني واللاانساني. حسنا ولنفترض ان حماس جندت كل طاقات الفلسطينيين، ومن معهم، وحالفتها ايران ايضا، (مشعل قال في 16 ديسمبر الماضي اثناء زيارة طهران: «اذا ما شنت إسرائيل هجوما على ايران فسوف نصعد ونوسع نحن ساحة المعركة».) فماذا سيعقب ذلك، مثلا، فيما يخص نموذج الحياة الاجتماعية «الصالحة»، وفق مقاييس حماس داخل فلسطين؟! أنصار المعسكر الاصولي، او المعسكر العدائي للغرب، يفركون ايديهم شماتة، ولسان حالهم يقول: «هاه! ألستم من انصار الديموقراطية، ارضوا بها اذن»، كما كان يقولها مشعل في مؤتمره الصحافي في دمشق، وهو يبتسم نصف ابتسامة. في تقديري، لو كنت في مكانهم لسخرت مثلهم، فهذا هو الموضع المثالي للسخرية من دعاة الديموقراطية. لكن الحق، أن المشكلة أعقد من مشكلة تصويت او عدم تصويت، او وجود صناديق اقتراع او لا. المشكلة هي إزالة الظروف المعيقة لوجود قدرة حقيقية على النقد والتفكير والتنشئة الفكرية الصحيحة، وهذه شروط سابقة على وجود الديموقراطية، فالليبرالية اولا، الديموقراطية ثانيا، كما يقول فريد زكريا، وليس ذلك بمعنى إلغاء الالوان الفكرية الاخرى، ومن يستطيع ذلك اصلا ؟! بل بمعنى ايجاد ضمانات دستورية، والاهم تكوين تربية فكرية، تقر بأساسات الممارسة السياسية التداولية وانتقال السلطة، أساسات مثل: نسبية الحقيقة، وحق التعبير عن الرأي، وحق البحث... الخ. يبدو حديثنا هذا نوعا من الحكي عن المستقبل، او احتجاجا مبطنا على ان الديموقراطية لم تأت بمن نشتهي، بل جاءت بمن سيزيد الانكماش الحضاري للمسلمين والعرب. ربما يكون الامر كذلك، ولكنه حديث يعبر بشكل حقيقي عن اقتناع كاتب هذه السطور، وهو ان كثيرا من إصلاحيي العرب المعاصرين يتلهون بالحديث عن الديموقراطية، ولكنهم لا يعلمون: على أي ارض يتحركون؟! ثم تجدهم يصرخون او يذهلون حينما يصل امثال مهدي عاكف او الزهار للحكم عن طريق صندوق الاقتراع؟! البعض سيرى ان هذه المقاربة السلبية للممارسة الديموقراطية، تعني ديمومة الانظمة العربية التي بَلي كثير منها، وتفسخ كثير من رموزها بالفساد، وجثم جلادوها على صدور الناس بحجة منع وصول الاصوليين، محبي الحروب والاستشهاد والانتحار، وكارهي النساء... والحق ان الامر ليس كذلك، بل ان هذه المقاربة هي تقريع لهذه الانظمة والنخب العربية «شبه العلمانية»، التي ركبت على موجة الحداثة من دون استبطان حقيقي لها، واكتفت من الحداثة بقشورها، وصحّرت الحياة الفكرية، وبعضها سعى الى عسكرتها... هو تقريع بذات الدرجة من الرثاء لحالة الارتداد الى المكونات الاولية للمجتمعات العربية المتمثل بالجماعات المتطرفة... والتطرف درجات! في الاخير، لن أقول الآن مبروك لحماس او للاخوان في مصر، لأنني لست سعيدا بوصولهم. ومع الاحترام لأشخاصهم، فلست بحاجة لتزوير مشاعري، ولكني أحاول رؤية نصف الكوب المليء، وهو ان حداثة إسلامية حقيقية، ونابعة من أحشاء المجتمع ربما تكون منوطة ومشروطة بحكم الاحزاب الاصولية ووصولها للسلطة بشكل مباشر، حتى تكتشف هي، وبفعل تفاعلات الحياة، الفرق بين جنة الشعار ونار الواقع... حينها ربما نتذكر قول أبي تمام: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تُنال الا على جسر من التعب! من يدري؟! وأشك ان ولادة طفل النور البهي من رحم الاصولية، ستتم في حياتنا القريبة. ولكن هذا هو قدرنا، ولو بعد حين، حينها ربما يفرح الفرحون بفوز حماس وامثالها، ولحظتها يصبح من الملائم أن نقول: مبروك.. ( كاتب سعودي )
مبروك «مؤجلة» لحماس وأخواتها !
أخبار متعلقة