هالة القحطانيدخلت عليه وهي عابسة ووقفت أمامه في منتصف الغرفة ونظرت إليه نظرة أشعرته بالذنب، وقال: خير يا أمي: هل من شيء أغضبك؟، ردت قائلة: ما الذي أعادك مبكراً من المسجد؟ قال: لقد انتهت صلاة العصر فعدت. قالت: وفضلت الجلوس أمام جهاز الكفار هذا على سماع تحديث الإمام!، قال: لا يا أمي، ولكن التحديث بعد صلاة العصر غير محبب لكثير من المصلين وينبغي علي أن أنهي البحث المطلوب مني تسليمه غداً في الجامعة. وقاطعته: الجامعة، وهذا الجهاز أهم من ربك وصلاتك؟، قال: ولكنني أنهيت صلاتي يا أمي على أكمل وجه، ما الذي أغضبك بالتحديد، قالت: جاراتي يباركن لأم مصعب استشهاد ولدها في العراق، كنت أزورها هذا الصباح فشعرت بريح الجنة في منزلهم وشعرت لوهلة بالغيرة منها، قال: أتغارين لوفاة ابنها، قالت له بغضب: نعم لأنه استشهد، أتعلم معنى الشهادة، وما الذي وراءها، جنة، وحور عين، وأشياء ولا في الأحلام، ألا تقرأ القرآن أنفع لك من هذه الكتب العقيمة، غادرت غرفته وهي تتمتم بكلمات لم يفهمها ولكنه كان يعرف بأنها كانت تدعو ربها بنيل الشهادة في سبيله.قد تكون هذه صورة مبالغ فيها أو متخيلة، ولكن مثل هذه الأم يوجد كثيرات يختبئن بأفكارهن بيننا نحن معشر النساء، ينشرن فكرة الجهاد بين أطفالهن منذ الصغر، وتدور معارك في حلقاتهن أشد ضراوة من المعارك الكلامية التي يخوضها بعض الشباب الدعاة المتحمسين، وكل واحده تخيلت نفسها الخنساء قبل أن تفقد ابنا، نحن الآن في عصر مختلف انتهت فيه الغزوات والكرامات التي تكدست في عقول أبنائنا، لن تتكرر مرة ثانية غزوة بدر ولا أحد ولا الخندق، لا يوجد الآن صحابة، ومات خالد بن الوليد، ولا توجد خنساء أخرى في هذا الزمن الذي كثرت فيه الشبهات واللغط، ولا وجود لتلك الكرامات التي كرم الله بها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المجاهدين وقت نشر الإسلام، نحن الآن في عام 2007، ولا أدري كيف شمت تلك الأم رائحة الجنة؟، لم أقرأ وصفا لنوع رائحة الجنة، ولا أدري من أين أتى العديد منهم ومنهن بذلك الوصف وكأنهم فعلا قد شموا رائحة الجنة من قبل ويستطيعون تمييز رائحتها.الحرب في روسيا والعراق والشيشان وأفغانستان ليست كما الحرب في تلك الغزوات الواضحة التي درسناها والمعروف سببها، الحروب الآن فيها العديد من الأخطاء والفتن، أليست كثرة الحروب في الأرض من علامات الساعة؟ فإلى متى نمشي وراء الحلم بنيل الشهادة في غير محلها؟، ومع صعوبة السفر إلى البلدان التي تخوض حروبا مدمرة، هل الجهاد توجه إلى الداخل ليتم هكذا وسط الناس الآمنين، ومن قال إن تفجيرات الرياض أو الخبر فاز مرتكبوها بالجنة، حين ترى الأم التي تتمنى أن تلقب بالخنساء فلذة كبدها يسبح بدمائه في التلفزيون والشريط الإخباري يقول: "مقتل الإرهابي الذي نفذ التفجير"، ما هو الشعور الذي ستشعر به؟.في مكان آخر وفي الوقت نفسه كانت هناك أم واعية خافت على أبنائها حين استشعرت بقرب الخطر ففكرت كيف تحميهم خاصة أنهم اقتربوا من سن المراهقة وبدأوا بتكوين أفكار خاصة بهم مستوحاة مما يتعلمونه في المدرسة، فجاء أحدهم مثلا ليقول: هذا حرام على أحد البرامج التي تبدأ بموسيقى في التلفزيون، وتارة أخرى هذه الملابس حرام، فراع ذلك الأم وأقلق منامها، جلست تفكر ماذا تفعل لحمايتهم،.وبفطرة أي أم وجدت الحل هو في إبعادهم عن التطرف الفكري الذي غرر بالبعض من أبناء هذا البلد إلى الغلو وقادهم إلى الإرهاب- قالت: لا أريد أن أفقد أحد أبنائي يوما، ولا أريد أن أفاجأ بابني وهو يحدد ماذا أفعل، ويقول لي يا ماما هذا حرام وهذا حلال، لا أريد أن أفقد أطفالي بحجة حماية الدين والفوز بالجنة، أريد أن أربي أبنائي على الوسطية، لا أريد تركهم يخوضون تجربة عشوائية أساسها الخطاب الديني المتطرف الموجه للصغار المندفعين بطريقة غير مدروسة الأبعاد والنتائج حصدنا بعضها في المجتمع، كانت تريد أن يستقي أبناؤها العلم دون تجاوز حدود العلم والتدريس إلى الإفتاء بالحلال والحرام، العديد من الآباء يعتمدون على المدرسة فقط في زرع الأساسات وكأن كل شيء يأتي من المدرسة صحيح ولا تشوبه شائبة، والمصيبة أنها لا تخلو من الشوائب القديمة التي نأمل تحديثها بأسرع وقت، أحاطت تلك السيدة بأبنائها وحاولت صرف نظرهم عن تلك المواضيع بزرع حب الوطن بالفعل الهادف فأنشأت نادياً معنوياً أسمته (نادي الأصدقاء) جمعت فيه أصدقاء أبنائها المقربين وأسست لهم عدة أنشطة اجتماعية ورياضية وخيرية يقوم بها الأطفال بأنفسهم ويستمتعون بها، لاقت تلك النشاطات أثراً كبيراً على نفسية الأطفال الذين أصبحوا أكثر تفاعلا وحيوية وحماساً في عمل كل مشروع، من ضمنها مشروع تفطير صائم، زيارة جمعية (دسكا) لمتلازمة داون، زيارة مركز الحياة للتأهيل، قاموا بعمل مبيعات منزلية جمعوا فيها عشرة آلاف ريال، قاموا بالتبرع بها لمركز الحياة وجمعية دسكا، قاموا بطلاء حائط مشوه بالألفاظ البذيئة في حديقة الواحة، ومن نشاطاتهم الهادفة أيضا عمل مطويات ومنشورات عن النظافة وقاموا بتوزيعها على رواد الحديقة.أليس هذا أجمل من زجهم في أماكن لا ندري ماذا يدور بها، أليس نشاط هؤلاء الصبية جميلاً، أليس ذلك أجمل من تلقينهم قضايا لا تقوى عقولهم على استيعابها في عصر أصبحت فيه بعض التقنيات مثل التلفزيون والهاتف والكمبيوتر محرمة من قبل البعض، والأولاد يسمعون من بعض زملاء الدراسة وبعض المدرسين المجتهدين بأن ذلك حرام، وحين تسأل الولد عن السبب يقول لك: ما أدري بس أمي قالت لي هذا حق كفار، لماذا لا تكتفي المدرسة بتعليم الأساسيات وما اتفق عليه من حلال وحرام.استمرت تلك السيدة في تشجيع أطفالها على نشاطاتهم وهي تراقبهم عن كثب، ومن المضحك أنه حين تمت الإشارة لهذا النادي الصغير في إحدى المجلات قال الابن الأصغر لأمه (فشيلة يا ماما لقد أصبحنا مشهورين) فردت أمه قائلة: الحمد لله أنك أصبحت مشهورا بشيء يرفع الرأس وليس مخجلاً كالإرهاب.وأنا بدوري أقول للسيدة الفاضلة (هدى الرشيد) لقد أسستِ أجمل شيء ممكن أن تفعليه لحماية أبنائك من التيارات التي لا ندري متي ستركد، وللشباب الصغار أقول لا بد أن ترفعوا رؤوسكم اليوم وتفخروا بما حققتموه وعجز عنه الكبار.تركتها وفي حال نفسي أمنية أن ألحق أبنائي بنادي الأصدقاء هذا، ولكن للأسف النادي في الرياض لذلك تمنيت أن يتقدم أحد المسؤولين الكبار في الدولة لدعم فكرة نادي الأصدقاء الذي تشرف عليه أمهات الأطفال أنفسهم من أجل حماية وتربية جيل جديد تحت أنظار أمهات يمتلكن ميزة الإحساس بقرب الخطر حين يقترب من أطفالهن، واعيات يقدن المركب بعيدا عن مصادر الزوابع التي عرضت العديد من السفن في أزمنة قريبة من الغرق، وتوصيل ذلك النشء إلى بر الأمان بعقول سليمة خالية من وهم رؤية الحور العين بعد نزع صمام الأمان من الحزام الناسف. ---------------------- [c1]نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية[/c]
إلا ابني، لا تطرف ولا إرهاب
أخبار متعلقة