إذا كان عامة الناس قد عرفوا عبدالله هادي سبيت - رحمه الله - مدندناً طروباً في بعض أغانيه وأناشيده التي ترنم بها كبار المطربين في مثل قوله:أشرقي يا شمس في أرض العروبة [c1] *** [/c] إنها أرض الجلالقد صحا المارد مـن يــأمن وثوبـه [c1] *** [/c] فهـو قهار المحالإنـه الـــوعــي المنيـر [c1] *** [/c] بات يحتل الضميـرشعلة الله القدير (الظامئون إلى الحياة، ص17)وإذا كانوا قد عرفوه بشوشاً فرحاً متفائلاً بالحياة في مثل قوله :قم فإن الديك صاحــــا [c1] *** [/c] معلنـــــاً عيشوا صباحــــــاانهضوا فالليل راحـــــا [c1] *** [/c] انهضـــوا تلقوا فلاحـــــــــاوافلحوا الحقل فإن الحقل كنز الأمنيات [c1] *** [/c] ينزل الجو عليكم مطراً من رغبـــاتوانهضوا جمعاً وسيروا في اعتزاز وثبات [c1] *** [/c] وثبوا، فالخير كل الخير رهن الوثباتفالواقع أن ذلك الطرب والتفاؤل كان في مرحلة الصبا والشباب، حين أملت عليه الظروف أن يلامس الأوتار منشداً حماسياً ومطرباً عاطفياً وهي فترة عابرة في حياته، بينما معظم حياته أمضاها شريداً معذباً، لم يذق فيها لذة الحياة إلا قليلاً، ولم يشعر بالسعادة إلا برهة من الزمن، ذلك أنه أسهم في الحركة الوطنية إلى الحد الذي اضطر فيه إلى مغادرة بلاده ليبثها من بعيد حنينه وحبه وأشواقه، وبكاءه، وأحزانه.ولذا فإن نبرة الحزن واضحة في معظم شعره، فكان يبكي بدموع حرى كاوية، ولاسيما حينما كان يودع حبيباً أو عزيزاً أو رفيق نضال، أو شريك حياة، فالدموع الغزيرة التي سالت من عيونه في أيام البؤس والشقاء والنضال، لا تعادلها دموع، لان الحياة التي عاشها تستدعي هذا البكاء، ولكنه بكاء ممزوج بالإيمان الصادق بالله، الذي لم يغب عن وجدانه لحظة.وليس غريباً أن يسمي أبن هادي أول دواوينه (الدموع الضاحكة) وهو الصادر عن دار الجنوب العربي عام 1953م فهو يذرف الدموع منذ نشأته، ولكنه أراد أن يرى دموعه ضاحكة في بيئة مليئة بالمنغصات والمحبطات، ولأنه فنان، فقد أراد أن يبتسم ويرسم البهجة والفرحة للآخرين، بدافع من فطرته الإنسانية التي تحب الحياة وتغني لها، ولذلك قدم (أناشيد الحياة) - وهو أحد دواوينه ليكون بمثابة نبع يستقي منه (الظامئون إلى الحياة) - وهو أيضاً أحد دواوينه - ليفرح برؤية أحبائه وأصدقائه وناسه، وقد صحوا في فجر يوم باسم، ليعيشوا حياة جديدة، ملؤها السعادة والبهجة، فعم وإياهم (مع الفجر) - وهو أحد دواوينه - ليسمعهم ومضة من ومضاته التي يصفها بقوله :إنها ومضة آمالي وإشعاع رجائيإنها نفحة أحلامي على عود هنائيإنها جوهر دنياي وذرات هوائيفلكم حلقت في أجوائها عالي الإباء * * * حينما يسطع في أجوائها نور الحياةفهناك البعث يسري بين طيات الرفاتوهناك الفن صداح بحلو النغماتنفحات تفجر الإحساس من قلب الصفاةإنها اليقظة في أكنافها شط النجاة.لقد ولد ابن هادي ليكون فناناً بالفطرة، وسار الشعر في وجدانه منذ الطفولة، فهو كما خلقه الله شاعر موهوب، غير أن ظروف حياته البائسة حالت دون تنمية موهبته، ذلك أنه لم ينل من الناس حظاً وافراً، فأقصى ما ناله من التعليم هو المرحلة الابتدائية ومع ذلك ظهرت مواهبه الشعرية في سن مبكرة، ولولا ظروف حياته القاسية لكان شاعراً متميزاً في فنه ولغته وصوره، الني كان فيها متواضعاً، ومع ذلك لا ينكر أنه :مبدع قد قطع الألحان في آهاتهتائه قد أسكن الأكوان في طياتهحالم يستقطر الأحلام من أناته * * *في الروابي منه روح وصفاءهو في الروض ظلال جمعت صرعى الشقاءفي جنان الخلد يحيا دون حقد أو جفاء * * * يجرع البؤس ولكن في إباء وشممهو كالسحب ولكن ذوبه دمع ودمهو سحر يرسل الأنوار من قلب القلم.فهو شاعر موهوب، ولد فناناً والفنان بطبعه شديد الحساسية يتأثر - كما قيل - بالهواء والكلمة العابرة والفكرة الرصينة، فمحصوله الثقافي متواضع، فلم يتلق علومه في الجامعات، بل تلقاها في مدرسة الحياة التي عركته وعركها، ولشغفه بالعلم في بيئة يقل فيها العلماء عمد إلى التثقيف الذاتي، ومجالسة العلماء، وحضور مجالسهم، فالتقى عدداً كبيراً من علماء لحج وعدن وحضرموت، وأخذ منهم وتأثر بهم، واغترف من علومهم، كما التقى عدداً من أمراء لحج وسلاطينها، وكبار رجالاتها، وارتبط بصداقات مع بعضهم واكتوى معهم بنيران صراعاتهم، وقاسى من ظروف النفي والتشرد مثلهم من جراء الصراعات السياسية التي شهدتها المنطقة في الخمسينات والستينات وما بعدها من القرن الفائت. وكان يرى أصدقاءه وأحباءه ورفاق دربه في الكفاح يتساقطون في أتون الصراعات السياسية، وكان يرى كذلك شيوخه وأساتذته ورواد الفكر والتنوير في بلده يموتون واحداً بعد الآخر، في أحلك الظروف وأصعبها، وطفا على سطح الحياة أراذل القوم وأجهلهم، فوجد نفسه منبوذاً لا ينظر إليه ولا يكترث بوجوده، بعد أن كان يشار إليه بالبنان، ويتغنى المنشدون بأغانيه، وفي واقع سيء كهذا لم يبق أمامه سوى بث الشكوى والألم لما آل إليه حاله وحال الوطن. فيقول :يا من أمات الفـــؤاد منــي أما من قيامة؟ [c1] *** [/c] نظرة تشق الكفـــنأنا الذي أسمــــــع الأيام نوح الحمــامــــة [c1] *** [/c] أشكو صروف الزمنأشكو جحيم الجوى هجري، وربك ظلامه [c1] *** [/c] إني شهيد الشجـــنوالله لـــولا الدمــع أضـــحــى علامـــــــة [c1] *** [/c] مـا بات سري علـــن ولهذا السبب وغيره، اختفت من شعره ملامح البسمة والابتهاج، وبرزت فيه نبرة الحزن والكآبة والبكاء، وغلب على شعره قصائد الرثاء الحزينة، وأكثرها في ديوانه، (رجوعاً إلى الله) لقد كان الرثاء غرضاً رئيسياً من بين أغراض شعر عبدالله هادي سبيت، فأكثر من النظم فيه لكثرة المناسبات والمواقف الحزينة التي مر بها في حياته. فهو لم يترك مناسبة صغيرة أو كبيرة إلا ونظم فيها شعراً حزيناً.ويمكن تقسيم قصائد الرثاء لدى ابن هادي إلى ثلاثة أقسام : ندباً، وتأبيناً، وعزاء. وقد جعل الندب محصوراً في الأهل والأقارب، وفي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وخص التأبين للمواقف الرسمية فخص به القادة والساسة والعلماء والعظماء، وجعل العزاء يجسد حقيقة الموت، وفلسفة الوجود والعدم والخلود، ولهذا السبب غلب على شعره الاتجاه الديني، في محاولة منه للتكفير عن مرحلة عاش فيها حياته طولاً وعرضاً، ولكنه بعدها رجع إلى الله رجوع المؤمن الصادق، ولذلك لا غرابة أن يسمي ثلاثة من دواوينه بتسمية واحدة وهي (رجوعاً إلى الله) وهي الدواوين التي كان يزهو بها أكثر من سواها من الدواوين. وقد خصص الجزء الأخير من هذه الدواوين للمراثي.وأول ما يستوقفنا في هذا الديوان قصيدة قالها من وحي وقوفه أمام قبر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم حينما كان يؤدي العمرة في شهر رجب عام 1404هـ، قال فيها :قاصداً قد جئت يا سندي [c1] *** [/c] أنت بعد اللـــه معتمــديلا أريد الخير لي ولأهلي [c1] *** [/c] وحدهم، كلا ولا ولديبل لكل المسلمين وقـــد [c1] *** [/c] أصبحوا في قبضة الأسدها هنا جنب الضريح أرى [c1] *** [/c] أن روحي فارقـت جسـديكيف لا والنوح يصدر مـن [c1] *** [/c] كـل قلــب لاذ بالأحــدودموع النــازحيـن سقـت [c1] *** [/c] زهـرة الشهــداء في أحــد (رجوعاً إلى الله، ص4).وتتصدر قصائد الرثاء قصيدة قالها في رثاء الملك عبد العزيز آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية، كان قد ألقاها في مسجد العيدروس في الشيخ عثمان ليلة ختم دروس القرآن الكريم على روحه بعد مضي ثلاثة أيام على وفاته، قال فيها : أعبد العزيز اللابس التاج بعد أن [c1] *** [/c] له خفقت قبل القلوب المدافعيقولون أنفقت الخزائن مسرفاً [c1] *** [/c] وبين الحمى شاك وباك وجائعفأمسيت تعطي من له الله معطياً [c1] *** [/c] وهيهات تعطي من له الله مانعوتالله لو أنفقت منا لحومنا [c1] *** [/c] لخير لنا من موصل وهو قاطعيدس سموم البين بين صفوفنا [c1] *** [/c] فكل على نار المذلة قابع (رجوعاً إلى الله، ص8)وشاءت الأقدار القاسية أن تعصف بقطب من أقطاب الفن والأدب وصديق الشاعر وجليسه ذلكم هو الأمير أحمد فضل بن علي العبدلي (القمندان) ولفداحة الرزء وهول المصاب، فجع ابن هادي كغيره من الناس الذين حزنوا لفقد ينبوع من ينابيع الفن والأدب، فبكى بكاءً مراً، ولبس السواد وفاض أسىً حزناً عليه، ومما قاله فيه :أي خطب هذا الذي هز ركن الأرض فأرتاع عربه والأعاجم أيها الزارع الموفق، إن الغصن تبكي عليه تلك الغمائم كيف لا والنسيم ذاك العليل المذهب الحزن لن يثير النسائمأيها القائد المحنك إن الجيش فوضى وحوله الموت حائمكيف وليت والليالــي حبالــــى بالخطوب الجسام والجو قاتمفإلى من أسلمت أمر القوافـي وإلى من وكلت أمر الصوارمخسرت لحج فيـك شهماً فتيـــاً ضم في شخصه يراعاً وصارمقد رفعنــا بك الجبـــاه افتخـاراً يوم نلت الوسام والدهر راغم (رجوعاً إلى الله، ص13)وشاءت الأقدار كذلك أن يموت السلطان عبد الكريم فضل سلطان لحج السابق، فادلهمت الأجواء أمام ابن هادي، لأنه فقد الملجأ الذي كان يهرع إليه، واضطرمت نفسه، وتضاربت الأفكار في رأسه، واعتملت أحاسيسه وتباينت عواطفه، وهو يتلهف لسلطان جديد ارتبط به برباط الحب والصداقة، وهو السلطان علي عبد الكريم. فقال :جاءت على يدك الدنيا تصافينا [c1] *** [/c] فمـــا لهــــا قلبت ميزانهــــا فينــــاعبد الكريم فقدت الحلم آونـة [c1] *** [/c] من حين ما محسن جافى الأذلينـــا ذاك الذي شاد للأجيال مدرسة [c1] *** [/c] لمـــــــا تزل تمنح الآباء تطمينـــــاوبالقمندان كم ذا صلت آونـــة [c1] *** [/c] كذا العلي ابن علــوي المضامينـــــابهم كما بك قويتم مراسلنــــا [c1] *** [/c] جزاكـــم اللــه عنـــــــا الخير آمينــا (رجوعاً إلى الله، ص14) كما فجع ابن هادي بموت أستاذه العلامة احمد بن قاسم النخلاني مفتي الديار اللحجية وقتذاك، وكان معجباً به، ومشدوداً إلى خطبه ودروسه ومواعظه، فقال في رثائه :أبا علي لقد أديت ما وجبا [c1] *** [/c] حتى رفعت به عن فكرنا الحجبالو كان للمنبر المفجوع عاطفة [c1] *** [/c] لذوب النفس من أجفانه سحباكم من مواعظ قد أجريت سلسلها [c1] *** [/c] وكم علوم لها كرمت ذا الخشباكانت تطوف به أرواحنا زمناً [c1] *** [/c] كي تنهل الذكر والمأثور والخطبامن لي بتلك اليد البيضاء كم قطفت [c1] *** [/c] من روضة العلم آمالاً لمن طلبامن لي بمثلك في علم ومعرفة [c1] *** [/c] لم يحرم الشعر من عليائه نسباكم كنت تمنحني السمع الكريم وكم [c1] *** [/c] فجرت من روحي الإيمان والأدباهويت فيك التقى والخير فانطلقت [c1] *** [/c] نفسي تحطم في الشك والريبا منحتني الزهد في الدنيا وها انذا [c1] *** [/c] قد أصبح اليوم عندي صدقها كذبافيك ارتشفت من الإيمان ما طهرت [c1] *** [/c] روحي به فبلغت الشأو والأدبافيك التقينا بأقطاب الحديث [c1] *** [/c] فعشنا والبخاري ها هنا حقباوكـــم وكم كنت تلقي في مسامعنا [c1] *** [/c] قول الرسول فتسقينا بماء عذباوالترمذي والنسائي وابن ماجه مع [c1] *** [/c] أبي هريرة والزهري ومن صحبا. (رجوعاً إلى الله، ص17)
أخبار متعلقة