رغم مرور أكــثر من خمسين عامـــاً ..
لقاء أجرته : نادرة عبد القدوس رغم أنها لم تتجاوز التاسعة من عمرها ،عندما غنت لأول مرة في حياتها ، ورغم أنها لم تؤد في حياتها سوى بضع أغان للأطفال وأغنية عاطفية يتيمة ( هي التي قصمت ظهر البعير) إلا أنها نالت شهرة واسعة في المجتمع ، ولا يزال هناك من يتذكر اسمها ، خاصة عندما نقف على أغاني الأطفال في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي في بلادنا . [c1]الأغنية الفاصلة [/c] في لقاء قصير في بيتها المتواضع في مدينة المعلا بمحافظة عدن ، تشرفت بإجرائه مع الفنانة، سابقاً ، والمربية والمعلمة ، لاحقاً ، رجاء حامد ، احتسينا ذكريات ماضٍ جميل . هي رجاء حامد عبد الغني واحدة من رائدات الفن الغنائي في اليمن والجزيرة العربية ، إلى جانب نبيهة عزيم وفتحية الصغيرة ، ثم من تبعهن : صباح منصر ورجاء باسودان وأسمهان عبدالعزيز وغيرهن من مطربات الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم. لولا والدها لكانت حققت شهرة أوسع في سماء الفن ، لو طال بها الأمد في الحياة الفنية، ولكنها تركتها مرغمة بأمر من والدها الذي نالت منه عقاباً قاسياً بعد أن غنت في حفل عام أمام الجمهور. وتقول في هذا الصدد : “ غنيت أغنية “ يا ماما عايز أبويا” أمام الجمهور في حفل أقيم في مدرسة البادري بكريتر ، وهي أغنية مصرية قدمها لي الفنان أحمد قاسم بعد عودته من مصر ، وكنت،حينها،لم أتجاوز العاشرة من عمري .. وقد شارك في الحفل الفنان المونولوجست فؤاد الشريف وفتحية الصغيرة التي غنت “قلب حجر”.. ولم تكن المرة الأولى التي أغني فيها، ولكنها كانت المرة الأخيرة التي أقف فيها أمام المايكروفون ، ففي اليوم التالي للحفل ذهب أبي للصلاة في المسجد وسمع الخطيب البيحاني ، وهو العالم الديني المعروف ، منتقداً الأغنية وموجهاً لوماً لاذعاً لأهل المغنية، التي هي أنا (تضحك) ، وأفتى بتحريم أغاني الحب والغرام إلخ .. فعاد أبي إلى البيت وانهال عليّ ضرباً ، فقد كان رحمه الله محافظاً جداً ، ولم يكن يعلم بتأديتي للأغنية إلا من خطيب المسجد، مما اشعر أبي بالغضب “ .. توقفت فجأة عن الحديث وبدأت تترنم بتلك الأغنية ، الأخيرة في حياتها الفنية ، فشنفت أذني بصوت عذب صادر عن حنجرة نظيفة لا زالت تمتلك أحبالاً صوتية أصيلة لا تصدأ. ثم واصلت الحديث مبتسمة : “ ولكني لست الملومة لأنني اعتقدت أن أخي الأكبر محمد ، وكانت تربطه علاقة صداقة بالإعلامي علوي السقاف ، قد أخذ الإذن من أبي ، وهو الذي كان يأخذني إلى محطة عدن للإذاعة للمشاركة في برنامج ركن الأطفال الذي يعده ويقدمه علوي السقاف ، رحمة الله عليه ، المهم .. تلك الواقعة لم ولن أنساها طوال حياتي ، لأنها كانت المحطة الفاصلة بين مرحلتين، الأولى مرحلة الطفولة والبراءة والعفوية والشعور بالسعادة وأنا أغني ، والثانية مرحلة التحجب والاحتجاب عن الغناء والتمثيل كلياً ، لكن دون منعي عن مواصلة التعليم الذي أكملته إلى مرحلة الـ (جي سي إي أو الثقافة العامة) المقارنة بمرحلة الثانوية العامة اليوم، ثم الحصول على دبلوم من دار المعلمين بعدن ، بعدها الزواج والإنجاب والالتحاق بوظيفة معلمة في عدد من مدارس البنات بعدن حتى وصلت إلى مرحلة التقاعد “. سالت محدثتي عن رأيها في أغاني الأطفال بالأمس واليوم ؟ فردت باقتضاب : “ واقع اليوم غير الأمس ، كما أن شعراء الأمس والملحنين لم يفكروا بالمادة ولم ينتظروا أي مقابل غير الانتشار وإسعاد الأطفال والتعبير عنهم ، بعكس اليوم ، لذا كانت أغاني الأطفال تعبر بصدق عن براءة الطفولة والنص الشعري بسيط جداً ومفرداته هي ذات مفردات الأطفال التي يستخدمونها فيما بينهم، لذا كانت أغاني الأطفال صادقة ونالت الشهرة وبقيت حية حتى يومنا هذا “ . [c1]أغانٍ محفورة في الذاكرة[/c] عادت بي الذاكرة إلى حوالي أربعين عاماً ونيف ، حين كنا نتحلق حول المذياع لننصت إلى أوبريتات وأغاني الأطفال المختلفة التي كانت تبث من إذاعة عدن ، وكنا بعد انتهاء البرنامج نقوم بتأدية ما سمعناه ، وكان أوبريت “الأم أرنبة وبناتها” الأكثر تشويقاً بين الأوبريتات وأغاني الأطفال ، ويظل الأوبريت عالقاً في أذهاننا ، وما زال عالقاً ، لبساطة النص الذي أبدع في تصوير مشهدياته الأديب الشاعر أحمد شريف الرفاعي ، كما أبدع في تلحينه الفنان الموسيقي حسين فقيه. و يتحدث الأوبريت عن الأم أرنبة التي تخرج إلى الغابة، بحثاً عن الطعام لصغيراتها “تفاحة ، وردة وسفرجلة” ، فتوصيهن بالبقاء في البيت وبعدم فتح الباب لأحد ، لئلا يأكلهن الذئب ، حتى تعود إليهن ، لكن الأرنبة تفاحة تعصي كلام أمها ؛ فتخرج لتلعب بجانب البيت ،غير مبالية ؛ فيكون مصيرها الاختطاف من قبل الذئب، وعندما تعود الأم تكتشف غياب تفاحة ، فتذهب للبحث عنها لتجد ابنتها مربوطة في جدع شجرة من قبل الذئب ، وتسمع حوارهما وتوعّده لها بالتهامها حين يصحو من غفوته ، فتنتهز الأم الفرصة وتنجح في فك أسر تفاحة ، وتسرعان إلى البيت قبل أن يستيقظ الذئب . وقد قامت بتمثيل دور الأم الطفلة فتحية الصغيرة وبدور سفرجلة الطفلة رجاء حامد وبدور وردة الطفلة نبيهة شوالة، أما التي قامت بدور تفاحة فكانت الطفلة رجاء باسندوة ، وجميعهن عدا الفنانة فتحية الصغيرة اعتزلن الغناء في سن مبكرة. ليس غريباً أن تحتفظ ذاكرة الذائقة الفنية بفن ذلك الزمان، فقد كان الفن يترجم آمال وطموحات ومشاعر وأحاسيس الناس بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية والعمرية. وكان للفن تأثيره المباشر وغير المباشر على النفوس ، كما كان له الدور البارز في استنهاض الهمم وتأجيج الحماس الوطني ، وكذلك الحال بالنسبة للأغنية العاطفية التي تميزت بالكلمة الهادفة التي تدغدغ العاطفة الإنسانية ، وتربي في المرء فن التعامل بين البشر على أساس الاحترام المتبادل بينهم . [c1]الريادة في توثيق ألعاب الأطفال[/c] كيف تنسى ذاكرتنا أحمد قاسم وحسين فقيه وعبد الرحمن باجنيد ، أحمد شريف الرفاعي ، لطفي جعفر أمان ، علي محمد لقمان وعلوي السقاف ، وغيرهم من الشعراء والمؤلفين الذين أبدعوا في تصوير واقع الطفل والتعبير عن مشاعره بصدق ، وذلك من خلال أوبريتات كثيرة منها “ كتكوتة العكروتة ، الأرنبة الأم وبناتها ، إيسكريم يا ملَي ، بيع التيس ، وأغانٍ عديدة ، منها “ الأرجوحة ، كل الجيران ، بيدان بيدان حالي سويدان ، يا علي حسين طز البيسة ... إلخ ، بأصوات الصغيرات رجاء حامد ، نبيهة شوالة ، رجاء باسندوة ، فتحية الصغيرة ، نجاة مهيوب، صباح منصر ، أم الخير يوسف ، إلهام عيدروس ، رجاء باسودان ، نبيهة عزيم وغيرهن من الرائدات في فن الغناء والتمثيل الأوبريتي الإذاعي . ونؤكد في هذا الحيز أن لكل أولئك المبدعين الريادة في توثيق نوعية الألعاب من خلال تلك الأوبريتات التي كانت تذاع عبر إذاعة عدن ، مثل ألعاب “ بيع التيس “ ، “ بيدان “ ، “ علي حسين طز البيسة “ ، وهناك ألعاب لم يسجلها الشعراء والموسيقيون لكنها كانت منتشرة في ربوع بلادنا مثل “سبع الصاد “ ، “ عصى القات “ ، “الشبدلُّه“ ، وغيرها من الألعاب الجميلة التي سادت ثم بادت.