نبض القلم
مثل بعض الحكماء الحقيقة بجماعة من العميان انطلقوا نحو فيل ضخم، فوضع كل واحد منهم يده على جزء من جسد هذا الفيل، ووصفه بالصورة التي تصورها.فقال الذي وضع يده على رجل الفيل: إن هذا الحيوان هيئته كالنخلة الطويلة المستديرة، وقال الذي وضع يده على ظهر الفيل: إن هيئته أشبه ما تكون بالهضبة العالية والأرض المرتفعة، وهكذا وصف كل واحد منهم الفيل بالوصف الذي مسته يده، وهو من هذه الناحية صادق، ولكنه من حيث تكذيبه للآخرين مخطئ.ونفهم من ذلك أن الحقيقة نسبية يختلف الناس بشأنها، إذ لا يستطيع أي واحد أن يدعي أن رأيه وحده هو الصواب، ورأي الآخرين خطأ، ومن هنا فإن الآراء تختلف بشأن المسألة الواحدة، وهو أمر فطري في الإنسان قديماً وحديثاً، وذلك لوجود الفوارق الفردية بين الناس، سواء في الفهم أو القدرات أو المعارف أو التصورات، أو الاستيعاب، وكذا في وجهات النظر والتفكير والقدرة على العمل، بالإضافة إلى المؤثرات الأخرى كالبيئات الاجتماعية والثقافية والسياسية.. الخ. وهو ما يؤكده القرآن الكريم بقوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (هود 118، 119).ولقد ميز فقهاء الإسلام بين طريقتين في إبداء الرأي، هما:- طريقة تؤدي إلى الخلاف.- طريقة تؤدي إلى الاختلاف.وقالوا: إن الخلاف يكون في الأمر الذي لا يستند إلى دليل، أما الاختلاف فيكون في الأمر الذي يستند إلى دليل. فمثلاً لو حكم قاض في مسألة خلافية، ورفع ذلك إلى قاض آخر فإنه يجوز له فسخه، لأنه وقع في أمر لا يجوز الاجتهاد فيه لمخالفته الثوابت المتمثلة في الكتاب والسنة. في حين أن الاختلاف يكون عادة له ما يسوغه من الحجج والذرائع، وقالوا: إن الخلاف مرفوض، أما الاختلاف فمقبول إذا ما روعيت ضوابطه.ومن هنا فإن دعوة الأخ الرئيس/ علي عبدالله صالح للحوار الوطني يراد منه بحث جوانب الاختلاف لا جوانب الخلاف، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال الحوار في الثوابت الوطنية المتمثلة في العقيدة الإسلامية منهجاً وشريعة، والانتماء للوطن والولاء له، وكذا النظام الجمهوري كأساس لنظام الحكم باعتباره تجسيداً لأهم مبدأ من مبادئ الثورة المباركة، والذي ضحى شعبنا من أجله بآلاف الشهداء، وأهم من ذلك كله لا يجوز الحوار حول مسألة الوحدة اليمنية والتراجع عنها باعتبارها أهم منجز حققه شعبنا اليمني في مسيرته النضالية التي بذل من أجل تحقيقها كل غال ونفيس، وضحى في سبيل تثبيتها بآلاف الشهداء، بحيث أصبحت من الثوابت التي لا يسمح المساس بها أو التراجع عنها تحت أي ظرف من الظروف. وفي الوقت نفسه يصبح الخلاف حولها محرماً شرعاً وقانوناً.أما بقية المسائل الأخرى فيجوز الحوار حولها لأنها تدخل في نطاق الأمور المختلف بشأنها، وليست من مسائل الخلاف المحظورة. ذلك أن الحوار بين القوى السياسية على اختلاف مشاربها الفكرية وتباين وجهات نظرها من أجل نصرة الحق وشيوع العدل، ومكافحة الفساد أمر تستلزمه مصالح الناس، وتقتضيه أحوالهم ومنافعهم، فهو يندرج في إطار الاختلاف لا الخلاف، وفي هذه الحالة يكون الاختلاف مقبولاً، لا مذموماً.وحتى لا يؤدي الحوار إلى فتنة في المسائل المختلف بشأنها لا يجوز الخوض في الأمور المخالفة لصريح الوحي الإلهي، أو التعرض لعقيدة المجتمع، أو المساس بالوحدة الوطنية أو التراجع عنها، أو المساس بالنظام الجمهوري وسيادة الوطن.ولابد من التأكيد هنا أن الحوار يحتاج إلى عمق في الطرح ورؤى ثاقبة، وأفكار مستنيرة، من قبل شخصيات وطنية مؤهلة ومخلصة، ولاؤها للوطن لا للحزب أو القبيلة.ولا ينبغي أن يكون الاختلاف في الحوار حول أية قضية بدافع الهوى الشخصي، أو التعالي على الآخرين، أو الرغبة في المجادلة والظهور والشهرة، أو المخالفة لمجرد المخالفة، ولابد أن تتوفر في الحوار صدق النية من قبل المتحاورين، والإخلاص في السعي للوصول إلى الحقيقة.ولا ضير في أن يختلف المتحاورون إذا كانت نواياهم حسنة ومقاصدهم سامية، والتزموا بالمبادئ الأخلاقية للحوار والمتمثلة في الضوابط الآتية:تجنب الجدل البغيض، والبعد عن الانفعالات المقيتة، امتثالاً لقول الله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل، 125).- الالتزام بالكلام الطيب، والترفع عن ألفاظ السوء، والابتعاد عن التعرض للآخرين أو ذمهم، أو قدحهم، أو الانتقاص من قدرهم، امتثالاً لقول الله تعالى: {لا يسخر قوم من قوم} (الحجرات، 11).- احترام الرأي الآخر، والتأدب مع أصحابه، وإحسان الظن بهم، والثناء عليهم أمام الناس وأجهزة الإعلام، والتواصل معهم، امتثالاً لقول الله تعالى: {اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} (الحجرات، 12).- تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الشخصية أو الحزبية أو القبلية، والقبول بالرأي الآخر، والرجوع إليه إن كان حقاً، وعدم التعصب للرأي، والعدول عنه عند تبين خطئه. قال عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: “لا يمنعنك رأي رأيته بالأمس فراجعت فيه عقلك، وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع عنه إلى الحق، فإن الحق قديم، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.وعليه، فإن الحوار الوطني الجاري في بلادنا إذا ما تم فيه الالتزام بالضوابط ومبادئه الأخلاقية، فسيكون له منافع كثيرة منها:إنه سيفتح المجال أمام العقول النيرة، والخبرات المجربة، إلى الافتراضات المتعددة لحل المشكلات الراهنة.إتاحة الفرصة أمام الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، والمفكرين من ذوي الطاقات الذهنية المبدعة، لتقديم تصوراتهم حول الوضع الراهن، واقتراح الحلول الممكنة لكل مشكلة من المشكلات التي يتم مناقشتها بصدق وموضوعية.إيجاد الضوابط المتعددة لكل واقعة من الوقائع، أو ظاهرة من الظواهر، ليهتدي بها الناس لمعالجة وقائع أو ظواهر أخرى، حتى لا تتكرر الأخطاء.[c1]* خطيب جامع الهاشمي - الشيخ عثمان[/c]