في أواخر من ديسمبر سنة 1938م وبداية يناير سنة 1939م ، بزغت في آفاق سماء الفكر والثقافة اليمنية مجلة " الحكمة " اليمانية والتي استمرت أكثر من عامين تضيء أنوار الوطنية ، والتحرر ، والتقدم . والحقيقة لقد كانت المجلة المدرسة الوطنية التي تخرج الكثير من المثقفين والأدباء ، والكتاب المستنيرين والذين كان لهم دور كبير في تجديد الفكر اليمني ومشاركته في الحياة السياسية مشاركة فعالة، ونتجرأ ونقول أنّ أفكار ، وآراء المجلة كانت بمثابة الأجواء التي مهدت لقيام ثورة 48م العظيمة . وفي فبراير/ مارس 1941م بكاها المثقفون الوطنيون الأحرار بكاءاً حاراً ، فقد توقف نبضات قلبها عن الخفقان ، ولفظت أنفاسها الأخيرة وتوارت في الثرى بهدوء وصمت، فقد أصدر الإمام يحيى حكماً بإعدامها . كان وراء سبب توقفها عن الإصدار هو أنّ الإمام يحيى ملك المملكة المتوكلية ، كان يخشى " الحكمة " بسبب طرحها لقضايا مهمة وخطيرة تمثل له خطوطاً حمراء لا ينبغي تجاوزها وهي الدستور ، الشورى ، الديمقراطية ، العدل، والنزاهة تلك الكلمات الرائعة والباهرة لم تكن موجودة في قاموس سياسته الاستبدادية . ومن القضايا المهمة التي طرحتها المجلة على صفحاتها بعمق ودقة هي الوحدة اليمنية .[c1]" الحكمة " و حكمتها العميقة[/c]والحقيقة أنّ مجلة " الحكمة " في طرحها لقضية الوحدة اليمنية اتسمت بالرؤية الثاقبة ، والحكمة العميقة ، فقد تناولتها بأسلوب موضوعي دقيق ، فهي ( أي : الحكمة ) ، تقول بما معناه : " بهدف أن تكون الوحدة اليمنية مبنية على أسس صلبة وقوية ينبغي أنّ يكون نسيج المجتمع اليمني متين ومتماسك على تباين مشاربه الاجتماعية ، وهذا لن يتم إلاّ بعد نزع فتيل المذهبية ، والطائفية ، والقبلية من المجتمع " . وهذا ما دفع بعض الأقلام في " الحكمة " أنّ تؤكد عنه وهو أنّ الاتحاد، والتآخي ، والتآلف ، والوحدة بين المجتمع هو جوهر الإسلام أو بعبارة أخرى أنّ الإسلام حريص على وحدة المجتمع . ولقد كتب ( نزار ) في مجلة " الحكمة " - وهو مدرس عاش فترة طويلة في اليمن - في وحدة المجتمع ، قائلاً : " ليس من مصلحة الإسلام والمسلمين إيجاد النفور والبغضاء فيما بينهم ، والتفريق بين بعضهم باسم سني ، وشيعي , وشافعي ، وحنفي ، وحنبلي ، ومالكي ، وزيدي وغير ذلك من اسماء لم تخرج بشيء عن حقيقة الإسلام ، ولا تعدت ما جاء به كتاب الله وعمله ورسوله، ليس من مصلحة الإسلام والمسلمين اتخاذ المذاهب وسيلة للطعن وأداة للتباعد وعاملاً للتناحر والتراشق بقوارص الكلام والاعتقاد بأسوأ الظنون مادام الجميع بوحدانية الله يؤمنون وبرسالة نبيه يدينون " . [c1]نبذ الطائفية ، المذهبية ، والقبلية[/c]ونستخلص من ذلك أنّ صاحب المقال ربط ربطاً ذكياً بين موقف الإسلام من وحدة المجتمع ، وأن تلك الوحدة تعد من جوهر ، وطبيعة الإسلام ، وأنّ الإسلام ينبذ الطائفية ، والمذهبية ، والقبلية ، والعصبية التي تدعو إلى الفرقة ، والتناحر ، والتمزق مما تنعكس آثاره السلبية والخطيرة على المجتمع الإسلامي . والحقيقة أنّ تلك الرؤية للوحدة تدل دلالة كبيرة على مدى ما تحلت به هيئة مجلة " الحكمة " اليمانية من بُعد نظر في تلك الفترة التاريخية. ولقد أدركت " الحكمة " أنّه من أجل بقاء واستمرار وحدة تراب اليمن يجب العمل على محو الخلافات الطائفية ، والمذهبية ، والعصبية محواً تاماً . [c1]اليمن وفلسطين[/c]وكشفت - أيضاً - مجلة " الحكمة " اليمانية النقاب عن أساليب , ومكائد الاستعمار البريطاني في تجزأة تراب وحدة اليمن الغالي والضارب جذوره في أعماق تاريخ اليمن البعيد. وأوضحت " الحكمة " أنّ الأساليب السياسية التي تتبعها بريطانيا في اليمن بهدف فصل جنوبه عن شماله هي نفس الدور التي تعلبه على الأرض الفلسطينية حيث تعمل على تجزأة ، وتقسيم كيانه الواحد بهدف تمرير مصالحها السياسية الخبيثة في المنطقة من ناحية وفتح أبواب الهجرة على مصراعيها لتفق اليهود على فلسطين من ناحية أخرى . والحقيقة أنّ ذلك الربط بين قضية الوحدة اليمنية والتي تعمل بريطانيا على إجهاضها بشتى الطرق والأساليب والقضية الفلسطينية تدل دلالة واضحة بأن الأحداث الخطيرة التي تقع في منطقة من المناطق العربية تنعكس أيضاً على المنطقة العربية الأخرى ، وبتعبير آخر أنّ الأهداف الاستعمارية سواء في اليمن أو في فلسطين فهي واحدة ، هدفها تمزيق الوطن العربي حتى يكون لقمة سائغة لها تستطيع تمرير مخططتها الإجرامية فيه بكل سهولة ويسر , وبسط سلطانها السياسي عليه . [c1]نقداً لسياسة الإمام يحيى[/c]الحقيقة أنّ كشف " الحكمة " لمؤامرات وسياسة بريطانيا في اليمن من خلال العمل على تفتيت أجزائه ، كان أيضاً نقداً لاذعاً لسياسة السلطة المستبدة في اليمن المتمثلة بالإمام يحيى والذي لم يحرك ساكناً ، والذي ترك مسألة الحدود اليمنية بينه وبين إنجلترا معلقة لمدة 40 عاماً وذلك في معاهدة صنعاء عام 1934م . وقد يفهم أنّ " الحكمة " تناولت نقد الإمام بصورة مباشرة بل تناولتها بصورة مغلفة حتى لا تثير ثائرة الإمام يحيى الذي - كما قلنا سابقاً - يكن العداء الصريح لمجلة " الحكمة " نظراً لتوجهها التحرري الذي يقوم على ضرورة الإصلاح لكافة نواح الحياة في اليمن، وعلى ضرورة إقامة حياة نيابية في اليمن وتلك الأفكار ، والآراء المستنيرة تعد بالنسبة للإمام يحيى خطر يهدد سلطانه السياسي على مملكته المتوكلية . وعندما حانت الفرصة على توقيف صدورها لم يتردد لحظة واحدة في ذلك ، فعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، عادت " الإيمان " للظهور مرة أخرى والتي كانت حال لسان الإمام. أمّا مجلة " الحكمة " ، فقد " لاقت حتفها في صمت وسكون دون صدام أو ضجة ، ومما أدى إلى أنّ ابتلع (( المحررون )) الغصة في هدوء وصمت أيضاً لأنهم لم يستطيعوا مواصلة رسالتهم وجنى ثمار جهودهم ، كما ألمح مشرفها أحمد المطاع ... في افتتاحية السنة الثالثة للمجلة ، وهي السنة التي لم تكتمل لتوقف المجلة فيها " . [c1]" الحكمة " واختراق الصعوبات[/c]والحقيقة لقد اخترقت الحكمة " اليمانية حواجز الصعوبات والعراقيل التي كان الإمام يضعها في طريقها الواحدة تلو الأخرى , وعلى الرغم من تلك العوائق الجمة والضخمة ، عبرت بقوة وجرأة عن صوت المثقفين المستنيرين والوطنيين الأحرار اليمنيين الذين كانوا ينشرون آرائهم ، وأفكارهم المضيئة في صفحات المجلة ومن بينها قضية الوحدة اليمنية . [c1]إنجلترا وسياسة الخداع[/c]نشرت " الحكمة " على صفحاتها موضوعاً بعنوان ( إنكلترا لا تعترف بحقوق العرب ) ، وفيها تطرقت إلى أساليب السياسة الإنجليزية إزاء القضية العربية ، والتي كانت تتآمر عليها بصورة دائمة ، وكانت دائماً وأبداً تخدع العرب الذين وقفوا معها في أصعب الأوقات وأحرجها في الحرب العالمية الأولى . فعندما انطلقت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين وقلبت الموازين العسكرية والسياسية في الجزيرة العربية لصالح إنجلترا في الحرب ضد السلطنة العثمانية بصفة خاصة وألمانيا القيصرية بصفة عامة فإنها ( أي إنجلترا ) لم تف بوعودها ، وذهبت تلك الوعود أدراج الرياح بل الأمير فيصل بن الشريف الحسين رفضت دول الحلفاء مشاركته في مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919م والذي كان له الدور الكبير والمؤثر في سير العمليات العسكرية الناجحة لإنجلترا ضد العثمانيين في جزيرة العرب في إبان الحرب العالمية الأولى - كما أشرنا سابقاً - . [c1]إنجلترا وتجزأة المنطقة[/c]وأشارت المقالة بأنّ إنجلترا كانت ملتزمة بعدم تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، فإذا هي تفتح أبواب فلسطين على مصراعيها للهجرة اليهودية . ولقد أشرنا في السابق ، أنّ مجلة " الحكمة " ربطت ربطاً عميقاً دور إنجلترا الاستعماري سواء في اليمن أو في فلسطين الأولى ، في القضية الأولى عملت على تجزأة كيان اليمن الواحد ، وفي القضية الثانية عملت أيضاً على تفتيت فلسطين إلى أجزاء ، وإجهاض أية حركة نضالية ضد سياستها ، وشجعت الهجرة اليهودية إلى فلسطين . ولقد لخص الدكتور سيد مصطفى سالم ما ذكرته مجلة " الحكمة " اليمانية حول سياسة الخداع التي قامت بها إنجلترا ضد العرب ، قائلاً : " فقد سطرت هيئة التحرير ... مقالة طويلة بعنوان : " (( إنكلترا لا تعترف بحقوق العرب )) ، أشارت فيها إلى خديعة إنكلترا للعرب وعدم التزامها بوعودها التي قطعتها لهم خلال الحرب العالمية الأولى ، كما حدث بالنسبة لثورة الشريف حسين ، ومثل ما حدث في فلسطين ، عندما فتحت باب الهجرة أمام اليهود . وقد نشرت (( المجلة )) هذه المقالة بمناسبة دعوة بريطانيا لعقد مؤتمر الدائرة المستديرة بلندن لحل القضية الفلسطينية ... " ويضيف ، قائلاً: " ولكن ما يهمنا هنا هو الإشارة إلى أنّ المجلة ربطت في مهارة بين سياسة بريطانيا في كل من شمال الوطن العربي أي فلسطين وجنوبه أي اليمن ، للتدليل ‘على أطماع إنجلترا في المنطقة ، وسعيها إلى تفتيتها إلى أجزاء : (( لتحول بين العرب وآماله ، وتشغل كل جماعة بما يلهيها عن الاهتمام بشئون الأخرى ، وصدها عن التفكير في توحيد المساعي ، وتوطيد العلاقات والسير في طرق التقدم )) " .[c1]معاهدة صنعاء سنة 1934م[/c]هاجمت مجلة " الحكمة " بقوة سياسة إنجلترا إزاء تثبيت أقدامها في المحميات التي أتاحت لها معاهدة صنعاء 1934م ذلك التي وقعت بين الإمام وبينها ، والمستمرة سريانها40عاماً ، " وأوضحت أنّ إنجلترا لم تكن حسنة النية تجاه المعاهدة التي تنص على إبقاء الأوضاع في جنوب اليمن كما هي دون تدخل الطرفين بشأنها خلال هذه المدة . غير أنّ إنجلترا أخلت بالتزامها ، فأخذت تقيم المنشآت ، والمطارات الحربية ، وتعمل على التفريق بين الأهالي بعضهم البعض ، وبينهم وبين باقي الشعب اليمني في الشمال . واستطردت المجلة في مهاجمة خطوات إنجلترا التوسعية على الحدود حتى أنها تحاول أنّ تتعدى الحدود التي كانت قد وضعتها مع الحكومة العثمانية عام ( 1914م ) والتي تحتج بها لدى الإمام وتجاه العالم الخارجي " وتضيف المجلة، قائلة: " ثم مازالت الحكومة البريطانية تتمادى في سبيل عدم احترام المواعيد والمواثيق إلى أنّ مدت يدها إلى قبيلتي (( بالعيد )) ، و (( الكرب)) التي من قراها (( شبوة )) ، وقبيلة (( الصيعر )) ، تحاول السيطرة عليها من دون أن تحسب للحق أي حساب ، وتتخذ التفرقة وصله لها لبسط نفوذها على تلك الربوع، وتجبر بعض الرؤساء على إمضاء بعض أوراق لا صحة لها ، وهي تعلم حق العلم أنه لا حق لها في ذلك " . [c1]إخفاء مواد نصوصها [/c]والحقيقة أنّ " الحكمة " عندما هاجمت سياسة إنجلترا في المحميات بعد معاهدة صنعاء ، كانت في الحقيقة تغمز وتلمز السلطة الإمامية التي تركت المحميات والتي هي جزء من تراب اليمن مشكلتها معلقة مع إنجلترا تراب اليمن الواحد والذي لا يمكن التفريط فيه بأي حال من الأحوال. وألمحت المجلة أيضاً إلى شيء هام وهو أنّ تلك الاتفاقية الذي يستمر سريانها 40 عاماً سوف تمنحها فرصة ثمينة في تثبيت أقدامها ( إنجلترا ) في جنوب اليمن طالما مشكلة الحدود معلقة . وأغلب الظن أنّ معاهدة صنعاء لم يطلع على بنود نصوصها سوى الإمام يحيى والمقربين إليه من أركان نظامه . ومن المحتمل إنّ إخفاء نصوص موادها ، كان متعمداً من قبل الإمام حتى لا يثير ثائرة المعارضة من المثقفين والمستنيرين واليمنيين الأحرار ضده ، وضد نظام حكمه القمعي . ومن أهم ما جاء في معاهدة صنعاء هي " إتمام جلاء قوات الإمام عن 64قرية في إقليم العوذلي ، وثمانية قرى في إمارة الضالع ، والإفراج عن الأسرى والرهائن من أهالي المحميات ، وإعادة فتح طريق التجارة بين المحميات البريطانية في اليمن " . ونستخلص من ذلك أنّ الإمام يحيى ملك المملكة المتوكلية ، كان متخاذلاً مع إنجلترا إزاء مشكلة الحدود حيث جعلها معلقة لمدة أربعين عاماً ، ولم يقدر عواقبها الوخيمة والخطيرة على وحدة تراب اليمن .[c1]معاهدة صنعاء والفرصة الثمينة[/c]والحقيقة أنّ معاهدة صنعاء التي أبرمت بين الإمام يحيى وإنجلترا في الرابع من سبتمبر سنة 1934م ، كانت تمثل للطرفين الإمام ، وإنجلترا فرصة ثمينة لهما ، فكل منهما كانا يرغبان بتهدأت الأوضاع السياسية والعسكرية بينهما وتحديداً على خطوط الالتماس ، ونقصد بها المحميات المتاخمة للمناطق الشمالية من ناحية والواقعة جنوب اليمن ، فالإمام يرى أنه لا طاقة له في مواجهة إنجلترا عسكرياً , وقد كان يرغب بشدة للقضاء على المشاكل الداخلية التي كانت تعكر صفو نظامه المستبد ولن يتم ذلك في ظنه إلاّ بعد أنّ يفرغ من مشاكله مع إنجلترا، و كان من مواد تلك المعاهدة هو اعتراف إنجلترا بحكم الإمام في اليمن والاعتراف باستقلال بلاده . ونظراً لأهمية تلك المعاهدة بين الإمام وإنجلترا وتكشف لنا مدى تخاذل الإمام إزاء وحدة اليمن أرضاً وشعباً ، وكيف كانت تلك المعاهدة نصراً مبيناً لإنجلترا. فنورد ما ذكره الدكتور سيد مصطفى سالم حول أهم ما جاء فيها ، فيقول : ... فالطرفان (الإمام يحيى وإنجلترا ) قبلا التفاوض ، وحرصا عليه للوصول إلى الاتفاق النهائي دون أنّ يميلا إلى الدخول في معارك حربية عنيفة . وكانت حجتهما في اتخاذ هذا الخط بالذات أنّ الإمام كان مشغولاً بمشكلات أخرى داخلية وخارجية لا تقل أهمية عن مشكلته مع إنجلترا ، لذلك فهو من ثم غير مستعد لفتح جبهة جديدة في الجنوب " . [c1]المحميات وعدن[/c]ويرى سيد مصطفى سالم أنّ إنجلترا لم تفكر في السيطرة على اليمن ( المملكة المتوكلية ) نظراً أنّ السيطرة عليه سيكلفها الكثير من الجهد والرجال والمال ، ولقد اتخذت تلك العبر والدروس من الحكم العثماني في اليمن الذي عانى الأمرين في تلك المنطقة وأيضاً أنّ اليمن لم تثير شهية إنجلترا بسبب أنه إقليم فقير ، وكان اهتمامها يهتم في الاحتفاظ بالمحميات لكونها تمثل الدرع الواقي أو البُعد الاستراتيجي لمستعمرتها عدن سندريلة الإمبراطورية البريطانية - على حسب تعبير الساسة البريطانيين - " وكان اليمن نفسه من وجهة نظر إنجلترا إقليماً لا يثير طمعها فيه ، لأنه إقليم فقير ... فهي ( إنجلترا ) لم تنس بعد ما لاقاه الترك من متاعب أثناء وجودهم في اليمن . لهذا كله كانت إنجلترا حقيقة لا تطمع في احتلال اليمن ، بل كان كل ما يهمها ألاّ يثير اليمن أية متاعب لها في المحميات ، كما يهمها في الوقت نفسه أنّ تحتفظ بالمحميات تحت سيطرتها باعتبارها منطقة خلفية تحمي ظهر مستعمرة عدن، وكان كل ما تريده من الإمام هو أنّ يتخلى عن مطالبه في هذه المحميات " . [c1]الإمام و معاهدة صنعاء [/c]ولقد ذكرنا في السابق : أنّ معاهدة صنعاء سنة 1934م ، كانت تمثل بالنسبة للإمام يحيى فرصة كبيرة ليلتفت إلى المشاكل الداخلية التي أطلت برأسها في بداية حكمه ، وكان الإمام يدرك تمام الإدراك ، أنّ إنجلترا ليس لها أطماعاً في بلاده ، وكل الذي تريده منه هو أنّ يتخلى عن مطالبته للمحميات لكونها تمثل بعّد استراتيجي لمستعمرة عدن - كما قلنا سابقاً - والحقيقة أنّ الإمام وجد نفسه أنه لا قبل له في مواجهة قوة إنجلترا العسكرية والتي كانت أقوى دولة على وجه الأرض - حينئذ- ، وتلك العوامل مجتمعة دفعت الإمام على ما يبدو على الموافقة السريعة على التوقيع على بنود معاهدة صنعاء بينه وبين إنجلترا في الرابع من سبتمبر سنة 1934م . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : " وكان الإمام من ناحيته يتمنى لو تقبل إنجلترا عقد معاهدة لتسوية هذه المشكلات على نحو يرضى الطرفان ، وكان يدفعه لهذا إمكانياته المحدودة القليلة التي لا تقوى على مواجهة جميع مشكلاته مع الجهات المختلفة حتى يتفرغ لمعالجة الشؤون الداخلية ، وكانت إنجلترا ترى ، هذا أيضاً بالنسبة لوضعها في المحميات حتى تقوي قبضتها ونفوذها هناك . لذلك تلاقت الرغبتان في السلم " . [c1]تعليق مشكلة الحدود [/c]ومن القضايا المهمة التي تطرق إليها سيد مصطفى في مواد نصوص معاهدة صنعاء هي مشكلة الحدود بين الطرفين التي لم يبث فيها أو بتعبير أخر تم تعليقها. ويظهر سيد مصطفى سالم استغرابه من موقف الإمام يحيى من مشكلة الحدود مع إنجلترا في جنوب اليمن التي ظلت معلقة لفترة طويلة من الزمن والتي كانت سارية المفعول لمدة 40 سنة وهي في الحقيقة تغاير تماماً طبيعة شخصيته التي كانت تنص على أنّ تكون مواد المعاهدات الأخرى مثل مع إيطاليا ، والإتحاد السوفيتي للفترة زمنية محدودة وغير طويلة الأجل . وفي هذا الصدد ، يقول : " وهذه المدة الطويلة تخالف في الحقيقة عادة الإمام في تحديده مدة معاهداته مع الدول الأجنبية بعشر سنوات فقط في الغالب " . [c1]تثبيت نفوذ إنجلترا في المحميات[/c] ويذكر سيد مصطفى التداعيات الوخيمة على تعليق مشكلة الحدود بين الأمام وإنجلترا ، أنّ الأخيرة تستطيع أن تثبت أقدامها ، السياسي والعسكري في محميات الجنوب اليمني ، وتعبير آخر أنها في إمكانها التدخل في تلك المحميات بشتى الطرق والوسائل في الوقت الذي لا يستطيع الطرف الآخر وهو الإمام يحيى أنّ يتدخل من قريب أو بعيد في مناطق تلك المحميات . وفي هذا الشأن ، يقول سيد مصطفى سالم : " ليست الخطورة في طول المدة فحسب ، بل في ارتباط هذا الطول بحل مشكلة الحدود ، أي في أنّ تظل مشكلة الحدود معلقة دون حل طوال هذه المدة الطويلة . وتنبثق هذه الخطورة من نقطة هامة يجب ملاحظتها ، وهي أنّ الأجزاء المتنازع عليها من المحميات كلها ، ستبقى تحت نفوذ إنجلترا طوال هذه المدة أو حتى يعقد بشأنها حلاً مرضياً . وهذا هو الخطر ، إذ أن ذلك سيعطي إنجلترا أكبر فرصة لتثبيت بأقدامها في المحميات ، وتنظيم وتدعيم من الداخل بشكل يبعده تماماً عن باقي أجزاء اليمن " . [c1]اتحاد الجنوب العربي[/c]ومن التداعيات الخطيرة على اليمن التي ترتبت عليها تعليق مشكلة الحدود بين الإمام وإنجلترا لفترة طويلة وهي 40 عاما - كما أشرنا في السابق - هو أنّ الإمام يحيى أعترف بسياسة الأمر الواقع بحقوق إنجلترا في المحميات . وفي هذا الشأن يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " فلا نبالغ إذا قلنا أنّ معاهدة 1934 ، كانت بداية النهاية بالنسبة لمطالب أو حقوق الإمام في المحميات ، وذلك لأنه سلم لإنجلترا بحقوق جمة ، عندما وقع هذه المعاهدة ، وإن ظل الإمام لا يؤمن بذلك ، بل كان يعتقد أنّ توقيع المعاهدة لا يعني أكثر من تأجيل البت في مشكلة الحدود أو موضوع ملكية المحميات " . ويمضي في حديثه : " وستتضح آثار هذه المعاهدة على مر الأيام ، فقد عملت بريطانيا على تنظيم المحميات وتقوية قبضتها عليها ، حتى إذا أحس الإمام بخطورة الموقف ، كانت إنجلترا قد أصبحت هي صاحبة اليد العليا في كل المواقف وأصبح لها الانتصار دائما في معارك المحميات سواء كانت هذه المعارك ساخنة أو باردة " ويضيف ، قائلاً : " بل واستمرت إنجلترا في تقوية قبضتها حتى خرجت علينا بعدة مشروعات لتنظيم خضوع هذه المحميات لها ، وكان أخرها إعلان قيام اتحاد الجنوب العربي " .[c1]واهتزت صورة الإمام [/c]والحقيقة أنّ حركة المعارضة اليمنية رأت بموافقة الإمام يحيى على معاهدة 1934م المبرمة بينه وبين إنجلترا هو تخلي صريح عن وحدة تراب اليمن حيث علقت تلك المعاهدة - كما أشرنا سابقاً - قضية الحدود لفترة طويلة جداً تصل إلى أربعين عاماً وبتعبير آخر لقد وضعت المحميات في جنوب الوطن تحت رحمة نفوذ إنجلترا السياسي والعسكري مما يثبت أقدامها في المحميات والتي هي جزء لا يتجزأ من نسيج الوطن اليمني الكبير . والحقيقة أنّ تلك المعاهدة كما ظن الإمام يحيى أنّ الموافقة عليها سوف تمكنه أنّ يتفرغ إلى مشاكله الداخلية وعلى وجه التحديد إلى إخماد جذوة حركة المعارضة التي أخذت تتململ من سياسة حكمه القمعية من ناحية وتخاذله في سياسته الخارجية والمتمثلة وتوقيعه على معاهدة صنعاء مع إنجلترا من ناحية أخرى . وكان من أثر ذلك أنّ اهتزت صورة الإمام أمام أعين الناس بسبب تفريطه بحدود جنوب اليمن ( المحميات ) " وقد أدت هذه الأحداث إلى أنّ انطلقت الألسنة من عقالها لنقد الوضع والجهاز المعتمد عليه الإمام وحكمه ، إذ دون شك اهتزت صورة الإمام في أعين الأهالي ، ولم يعد ذلك الرجل الذي تخفق فوق جبينه ألوية انتصارات سابقة ( ضد الأتراك ) . [c1]المعارضة ومعاهدة صنعاء[/c]والحقيقة لقد أفرزت معاهدة صنعاء سنة 1934م ، معارضة قوية على تباين مشاربها الاجتماعية ضد حكم الإمام يحيى المتهالك ، والمتخبط . فقد اتسمت سياسته الخارجية بالضعف والتخاذل ، وأمّا سياسته الداخلية فكانت فبضته قوية وقاسية على كل من يرفع صوته يطالب بالتطوير والتقدم في شتى نواح الحياة في اليمن . " فقد بدأت العناصر المستنيرة وهي قلة تعمل في سبيل إصلاح سياسي ، كما كانت العناصر الساخطة خليطاً من عناصر متفرقة - فردية وأسرية وقبلية - جمعت بينهم الرغبة في الإصلاح وتطوير البلاد وإتباع قواعد الإسلام الصحيح " . ونستخلص من ذلك أنّ معاهدة صنعاء ، كانت بمثابة القوة الدافعة التي حركت كافة الساخطين على تنوع طبقاتها الاجتماعية واختلاف تياراتها السياسية على سياسة الإمام يحيى في جبهة وطنية بعد أنّ فرط بالمحميات لإنجلترا لمدة أربعين عاماً . وكأن الإمام أعترف ضمنيا في بنود ومواد معاهدة صنعاء لإنجلترا بحقوق إنجلترا في المحميات - كما أسلفنا - .[c1]شبوة من اليمن [/c]وهاجم أحمد عبد الوهاب الوريث رئيس تحرير مجلة " الحكمة " بقوة بعض الذي يزعم أنّ شبوة من حضرموت وليست من اليمن ، فقد جاء فيها : " إنّ من الحق البين والسفه الواضح أنّ يسأل كاتب غيره أو يتساءل : أشبوة من اليمن أم من حضرموت ، وأنّ يظن اليمن شيء ، وحضرموت شيء آخر ، فالله جعل لليمن حدوداً طبيعية لا يدخلها لبس ، ولا يعتريها غموض ، إذ أحاطه بالبحر من غربه وجنوبه وشرقه ، وكل ما شملته هذه الحدود إلى أطراف الحجاز الجنوبية فهو اليمن ، فهل رأى حضرموت جزيرة منقطعة في أوساط بحر الهند حتى يسوغ له أنّ يقول : شبوة من حضرموت لا من اليمن أو من اليمن وليست من حضرموت" . [c1]" الحكمة " والمشاعر الوطنية[/c]والحقيقة أنّ مجلة " الحكمة " ألهبت حماس الوطنيين الأحرار وعلى صفحاتها انطلقت مشاعرهم الساخطة ضد حكم الإمام الاستبدادي الذي عزل اليمن عزلاً سياسياً ، فقد كتب الكثير من المثقفين المستنيرين العديد في السياسية ، الاقتصاد، التاريخ ، والأدب وبعضهم الأخر نشر القصائد في حب الوطن وأمجاده الغابر التليد، وكانت تلك المقالات والقصائد تدور حول محور واحد وهو أن ترتقي اليمن إلى سلم الرقي و التطور والتقدم وأنّ تكون في مصاف الدول العربية المتقدمة . " وهكذا عبرت الحكمة عن الجانب الوطني خير تعبير ، فطرقت نواحه المختلفة ، وشاركت في قضاياه المتعددة . فقد تحدثت عن الوطن والوطنية بصورة مثالية مجردة ، واهتمت بتقوية الجيش باعتباره دعامة وطنية ، وتتبعت خطوات الحكومة في تطوير مرافق الحياة في بالبلاد لتشيد بها ، ولتحث على المزيد منها ، ودعت إلى الإصلاح في شتى المجالات وفي مختلف المناسبات . وتعرضت للناحية السياسية بقدر استطاعتها - وبحذر - لتنادي بالدستور والشورى والديمقراطية والعدل ، وحسن التصرف بأموال العامة أي بإعلان ميزانية للبلاد ، ودافعت عن الوحدة الوطنية - بجانبيها - بكل ما تملكه من حماس واندفاع " . [c1]الوحدة والآفاق الواسعة[/c]والحقيقة أنّ الحديث عن دور مجلة " الحكمة " اليمانية في قضية الوحدة اليمنية أو وحدة تراب اليمن مرتبط ارتباطا شائجاً ووثيقاً بالقضايا السياسية الداخلية فلا يمكن فصل قضية الوحدة اليمنية عن القضايا الداخلية التي نادت بها المجلة المتمثلة بالدستور ، الشورى ، العدل ، والنزاهة فتلك الثوابت الوطنية تعد القاعدة الصلبة القوية التي تنطلق منها الوحدة إلى آفاق واسعة في سماء الازدهار ، والبناء والنماء . لسنا نبالغ إذا قلنا إنّ المجلة كان لديها رؤية واسعة ، وحكمة عميقة ، ونظرة ثاقبة لقضية الوحدة أو وحدة تراب اليمن في تلك الفترة التاريخية ، عندما نشرت على صفحاتها بأن وحدة تراب اليمن يجب أنّ تبنى على أسس متينة وهي كسر معاول الهدم في المجتمع المتمثلة بالطائفية ، والعصبية ، والقبلية ، والمذهبية لأن تلك أدوات هدم خطيرة على كيان تراب اليمن الواحد . فيجب أنّ يقر في عقولنا وقلوبنا أنّ الوحدة حلقة متصلة بسلسلة من القضايا السياسية المتنوعة والمختلفة وهي الدستور ، والعدل ، والشورى ، والعدل ، والحفاظ على الأموال العامة - كما أشرنا في السابق - ولن تنجح الوحدة - على حسب قول المجلة - إلاّ بعد نشر أجواء ربيع الحرية على ربوع اليمن . وهذا دليل على مدى ما تحلت به " الحكمة من عمق في الرؤية في قضية الوحدة اليمنية . [c1]" الحكمة " والنهر الثقافي الكبير[/c]والحقيقة أنّ مجلة " الحكمة " اليمانية كانت بمثابة النهر الثقافي الكبير التي استقى منه الكثير من المستنيرين المثقفين اليمنيين الذين نشروا أفكار التطور والتقدم بين الناس وبتعبير آخر لقد بذروا البذور الأولى في تربة اليمن الثقافي من خلال مجلة " الحكمة " التي كانت مدرستهم الأولى الذين تخرجوا منها ليبشروا بالدستور، العدالة، الديمقراطية ، والشورى . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ أفكار " الحكمة " اليمانية المستنيرة ، كانت الأرض الخصبة التي مهدت لقيام ثورة 48م . وعلى الرغم من توقف صدورها نهائياً في 1941م إلاّ أنّ مبادئها لم تختف بين المثقفين المستنيرين الذين كانوا يتطلعون إلى أنوار فجر الحرية ، وتحطيم القيود ، وكسر الأغلال ، فبعد سنوات معدودات ، ظهرت في الأفق الثقافي اليمني ما يعرف ب- ( البريد الأدبي ) الذي كان يدور في مراحله الأولى في الثقافة بصورة عامة ، وبعد فترة اتسعت دائرة المناقشات ، فصار المثقفين والكتاب يتحدثون عن الحياة السياسية والاجتماعية فيغلفونها بالأسلوب الأدبي ، وغير المباشر ، خوفاً من بطش سلطة الإمام يحيى. الذين كان يراقب ويترصد ويتربص بالمثقفين المستنيرين . ولقد ضحى عدد من هؤلاء المثقفين بأرواحهم في سبيل تحقيق العدالة بين الناس أمثال زيد الموشكي ، أحمد المطاع ، والحورش وغيرهم ، وبعضهم الآخر زُج به في غياهب السجون المظلمة الموحشة . [c1]" الحكمة " والتراث الثقافي [/c]والحقيقة أنّ العديد من كُتاب ( البريد الأدبي ) قبل توقف مجلة " الحكمة " عن الصدور كانوا يكتبون على صفحاتها مقالاتهم , والبعض الآخر كان ينشر قصائده وبعبارة أدق كانت " الحكمة " المدرسة - كما أشرنا سابقاً - التي تتلمذ المثقفين على أيديها معاني وقيم ، ومبادئ الدستور ، والشورى ، والديمقراطية ، والنزاهة ، والعدل . حقيقة كانت هناك روح وطنية تكمن في نفوس المثقفين المستنيرين , ولكنها لم تخرج إلى حيز النور والوجود إلاّ بعد أنّ بزغ نور مجلة " الحكمة " في سماء الفكر اليمني فرسم هؤلاء المثقفين المستنيرين على صفحاتها آمالهم ، وأحلامهم ، وطموحاتهم لوحة زاهية مضيئة ساطعة عن يمن الحرية ، والدستور ، والشورى ، والعدالة ، والنزاهة عن يمن مزدهر ، و متطور ومتقدم في مختلف نواح الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية . لقد جسدت " الحكمة " تجسيداً حياً وصادقاً عمّ كان يجيش في نفوس الشباب المثقف الذي كان يسعى سعياً حثيثا إلى إخراج اليمن من النفق المظلم إلى آفاق واسعة رحبة إلى حياة جديدة واعدة بالتطور والتقدم. لقد صارت المجلة جزء لا يتجزأ من نسيج التراث اليمني الفكري والثقافي . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " فقد استطاعت " الحكمة " أنّ تعبر عن الاتجاه الجديد المتنامي في المجتمع اليمني في تلك الفترة ، وأنّ تمثل الدعوة الإصلاحية المتطورة حينذاك ، وأنّ تكون جزءاً من التراث اليمني - الفكري والثقافي - المشرق - على الرغم من عمرها القصير في تاريخ اليمن المعاصر " .[c1]الهوامش : [/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ مجلة الحكمة اليمانية ، الطبعة الثانية 1988م ، مركز البحوث والدراسات اليمني صنعاء .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ تكوين اليمن الحديث ، الطبعة الرابعة 1993م ، دار الأمين للنشر والتوزيع - القاهرة - .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البريد الأدبي ، سنة الطبعة 1425هـ / 2004م ، الناشر الجمهورية اليمنية - وزارة الثقافة والسياحة . صنعاء .
|
ثقافة
الوحدة في ( الحكمة ) اليمانية
أخبار متعلقة