قراءة في كتاب
استعراض / نادرة عبد القدوسقليلون في بلادنا الذين يهتمون بالبحث والتقصي في تاريخ المدن اليمنية التليد ، هذه المدن التي ما زال عبق الحضارة اليمنية يفوح في أرجائها من خلال عبقرية وجمالية المعمار اليمني الذي لا نشهد له مثيلاً في موطن آخر، مما جعل اليمن أرضاً ذات حضارة متفردة ذكرتها الكتب السماوية وكتب التاريخ والأسفار الاستكشافية التي قام بها عديد من الرحالة العرب والعجم منذ بداية التاريخ الإنساني. وكان القرآن المجيد قدم أرقى وأجمل مما جاء في أي كتاب قديم عن تاريخ اليمن وصوّر جزءاً كبيراً من تفاصيل الحياة البشرية فيه. وهل هناك أروع مما جاء عن قصة أصحاب الأخدود ؟ أو رجال الدولة السبئية الأشداء وملكتهم بلقيس ، التي أسلمت لرب العالمين وقصتها مع النبي سليمان ؟ أو قصة قبائل عاد وثمود وجرهم وجديس والعمالقة ؟ أو قصة الملك الصعب بن ذي مرائد بن الحارث الرائش بن حمير بن سبأ ، الملقب بذي القرنين، وحكايته مع قوم يأجوج ومأجوج ؟ أو قصة إرم ذات العماد ؟ أو قصة أصحاب الفيل وملكهم أبرهة الأشرم ؟ ولقد ذكر القرآن سورتين تحملان اسم منطقتين في اليمن هي “الأحقاف” “وسبأ”، لما لليمن من عمق تاريخي ضارب في القدم . بل إن غير واحد من الباحثين والعلماء يرجعون أصل البشرية إلى اليمن وبأنه البقعة الأولى التي هاجر منها اليمانيون إلى أصقاع الأرض ، فتكونت من أصلابهم المجتمعات البشرية . ومما جاء في الكتب ما أورده الباحث في علم الآثار المصري أحمد عيد في كتابه «جغرافية التوراة في جزيرة الفراعنة» ، الذي قدم له الأستاذ الدكتور/ أحمد الصاوي ، عالم الآثار المصري والأستاذ بكلية الآثار جامعة القاهرة ، أن أصل الفراعنة يعود إلى قبيلة العماليق وذلك من خلال النقوش الفرعونية التي لجأ إليها المؤلف لإثبات نظريته . والكتاب دراسة بحثية موثقة مرجعيتها النقوش والمخطوطات وأسماء الأماكن في شبة الجزيرة العربية وتحديداً اليمن، ومقارنة بالأسماء في مصر مع الرجوع للتوراة ، ويذكر الباحث أن العماليق قوم نزحوا من اليمن إلى شمال الجزيرة «اليمامة» وإلى مصر في عملية انتقال وهجرة عادية ، لا دخل للحروب أو الغزوات بها.. وأنهم نقلوا معهم أسماء الأماكن التي كانوا يسكنوها في اليمن.. وكذلك معتقداتهم ، سواء الديانات السماوية أو الوثنية ، كما يؤكد المؤلف أن لقب (فرعون) أصله باللغة العربية السبأية القديمة هو (فرعوم) ، وأن الهكسوس الذين حكموا مصر فترات طويلة قدموا كذلك من اليمن، وسموا الملوك الرعاة، وأن الحضارة المصرية لا تنفصل عن بيئتها المحيطة المكونة من مجموعة من القبائل اليمنية التي سكنت وادي النيل والصحراء الليبية الكبرى وشمال أفريقيا وموريتانيا. وفي العصر الحديث اهتمت منظمات دولية باليمن وبعدد من مدنها التاريخية ، ومؤخراً أعلنت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة الآيسيسكو (ISESCO)تريم في حضرموت عاصمة للثقافة الإسلامية للعام الجاري ، وهي من أهم مدن حضرموت ، تشتهر بكثرة مساجدها وعلمائها ، إذ فيها أكثر من 360 مسجداً وجامعاً . ولأهمية هذا الحدث أقدم الكاتب الصحفي المعروف ، الزميل سعيد صالح بامكريد على تأليف كتاب يزخر بالكثير من المعلومات القيمة عن الثقافة الإسلامية ومفهومها ومزاياها وشخوصها وشواهدها ، أسماه « تريم عاصمة الثقافة الإسلامية» . وقد قدم الباحث «إندونسيا» أنموذجاً لتوضيح تأثير الثقافة العربية الإسلامية على شعب هذا البلد الذي يقع في جنوب شرق آسيا، وبالذات تلك الثقافة التي حملها إلى شعبها اليمنيين الحضارم عن طريق التجارة والرحلات الدعوية الإسلامية ، فيقول تحت عنوان « إنجازات وشواهد من ثقافتنا الإسلامية» الذي جاء في الباب الأول: « إننا نجد مآثر وإنجازات وشواهد ثقافتنا العربية الإسلامية بوضوح في تأثيرها اللغوي والأدبي عند شعوب لا تتحدث العربية كما هو الحال عند الشعب الإندونيسي ..» ، ويضيف : « وتتضح هذه الشواهد بصور بالغة الجمال في العمارة الإسلامية التي انتشرت ليس في دول معينة ؛ بل قارات متباعدة ، كما هو الحال في أسبانيا بأوروبا ودول عديدة في آسيا .. ناهيك عن التطور المتصاعد في الخط العربي إلى يومنا هذا أمام التصاميم الهندسية والزخارف وأعمال النجارة البديعة في أمور ماثلة إلى اللحظة «. ويأتي المؤلف بنماذج من المفردات الفكرية والثقافية العربية الإسلامية المستخدمة في مجال الأدب ، خصوصاً ، وفي اللغة الاندونيسية الحديثة ، عموماً . ويفند المؤلف المآثر الإسلامية وتأثيراتها على شعوب الأرض في عناوين منفردة مفصلة وغنية بالمعلومات. وقد عبر الأخ صالح سعيد باعامر ، مدير عام مكتب الثقافة في محافظة حضرموت عن رأيه في الكتاب المكون من(246) صفحة مقسمة على خمسة أبواب والتي يقف عندها القارئ بكل حواسه، مأخوذاً بنفائس المعلومات المقدمة بسخاء من قبل الباحث ، في تقديمه له : « وجدتُ أمامي عملاً بحثياً مفيداً وكتاباً ثقافياً رائعاً مليئاً بالأفكار والمعلومات والرؤى الجميلة ، فقد استطاع في كتابه ( يقصد الكاتب ) أن يعطي صوراً واضحة وجلية عن جوهر ومحتوى وقيمة الثقافة الإسلامية باعتبارها نظرية سلوك وعمل ونشاط على ظهر البسيطة ، وليست اتجاهات إعلامية أو نظرية فلسفية مجردة ...» . إن الكتاب الذي بين أيدينا والذي أهدانا مؤلفه ، شاكراً ، نسخة منه ، يحمل في طياته المتعة والفائدة بأسلوب سلس ، بسيط وفائق التشويق ، يجعل تأجيل قراءته إلى حين مستحيلاً ؛ فالكاتب والباحث بامكريد أستطاع أن يلملم شذرات ثقافته الواسعة وقراءاته في أمهات الكتب التاريخية ، وقطوف جناها من أهل العلم والمعرفة ، لخدمة بحثه الذي يرفد به المكتبة اليمنية والعربية والعالمية . إن أشد ما يجذب القارئ في الكتاب القيم ذلك التراتب الذكي من المؤلف في ذكره لعواصم الثقافة الإسلامية الأولى التي تم اختيارها من قبل منظمة الأيسيسكو ، ابتداءً من مكة المكرمة عام 2005م وصولاً إلى مدينة تريم العاصمة السادسة بين العواصم العشر ـ حيث جاءت قبلها ، بعد مكة ، حلب السورية ، فاس المغربية ، الإسكندرية المصرية والقيروان التونيسية ، وتأتي بعدها نواكشوط في موريتانيا، النجف في العراق ، طرابلس في ليبيا وتلمسان في الجزائر ـ مقدماً فيض من المعلومات عن كل عاصمة والأسباب الموضوعية لاختيارها ؛ فعن مكة يذكر أن سبب اختيارها جاء «لأن مكة أقدس مكان عند الله تبارك وتعالى ، وعنده عباده المسلمين لأن فيها بيته الحرام ، وقد حظيت مكة لأهميتها وانتشار سمعتها بأسماء عديدة منها ( مهد الهدايا والبلد الحرام وأم القرى ) وخصها الله بآيات عديدة في كتابه الكريم ، وكذلك نبيه بأحاديث شريفة عظيمة». ويستشهد المؤلف بامكريد في ختام ذكره للعواصم الثقافية الإسلامية بجزء من حديث ضاف ٍ ، كما وصفه ، للدكتور عبد العزيز التويجري ، المدير العام لمنظمة «الآيسيسكو» عن أهداف برامج عواصم الثقافة الإسلامية بأنها تهدف في المقام الأول إلى « نشر الثقافة الإسلامية وتجديد مفاهيمها وانتعاش رسالتها وإلى تخليد الأمجاد الثقافية والحضارية لعدد من العواصم الإسلامية التي تم اختيارها وفق معايير دقيقة ، ومراعاة للدور الذي قامت به في خدمة الثقافة والآداب والفنون والعلوم والمعارف الإسلامية عبر مسيرتها التاريخية «. ثم يأتي ذكر المؤلف عن سبب اختيار تريم عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2010م قائلاً : «تريم بوادي حضرموت أصبحت بعد ظهور الإسلام مفصلاً مهماً في الحياة الدينية ، مركزاً كبيراً للعلوم ومزاراً يأتي إليه طلاب العلم وأساتذته من مختلف أنحاء العالم للتزود بالعلم والمعرفة ، ولا زالت تحتفظ تريم بدورها الأساسي والمهم في الحياة الدينية ومركزاً كبيراً للمعرفة الدينية ونشر الدعوة إلى الله فهاهو أهم أربطة المدينة وأقدمها « رباط تريم» الذي تخرج منه العلماء المشهورون والذين نشروا العلم في كثير من بقاع العالم ، لا يزال يقوم بنفس المهمة في تخريج الدعاة والعلماء» . ومن الباب الثالث في كتاب بامكريد الزاخر بكنوز المعرفة ، نولج إلى ربوع حضرموت أو الأحقاف التي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، وهي تعني الرمال الكثيفة . ويأخذنا المؤلف ، المبدع والعاشق لحضرموت ، إلى التاريخ البعيد لهذه البلاد الغناء ، الفواحة بعبق التراث والحضارة القديمة وأمجاد اليمانيين الأوائل ، فيعرفنا في البدء بالهوية الثقافية لحضرموت لتكون الانطلاقة إلى عوالم هذه الأرض الطيبة التي اشتهر أبناؤها بالتجارة ونشر الدين الإسلامي إلى أصقاع العالم . ثم يعرج بنا إلى الحدود الجغرافية لحضرموت وتواصل الحضارمة مع شعوب البلدان المجاورة والبعيدة عن طريق النشاط التجاري والاقتصادي وتأثر هذه الشعوب بأخلاق الحضارمة الحميدة مما مكنهم « من الحصول على مناصب عليا خصوصاً في القضاء والمالية والاقتصاد وغيره « . ثم يأخذنا الكاتب معه لنشهد معه صوراً تاريخية من نشاطات الجاليات الحضرمية في الخارج في مجال الثقافة والأدب والفكر والصحافة، وتأثيرها في بلادهم ، فيستوقفنا قائلاً : « هنا لابد من الإشارة إلى أن المجتمع الحضرمي قد تشرب تعاليم الإسلام السمحة وما تحمله من الإخاء الإنساني ومعاني التكافل الاجتماعي التي جاءت بها الشريعة الغراء ، وتسلح بالثقافة الإسلامية مدى العصور .. ومع توسع قاعدة التعليم بحضرموت في القرن العشرين تلاشت الفوارق الاجتماعية واسهم ذلك في رفع مستوى الكفاءة والقدرة للحضارمة في مجالات العمل المختلفة ، كما إن الهجرة الحضرمية إلى دول متقدمة ساعد في توسع وتطور التعليم بحضرموت خصوصاً عند عودة بعض المهاجرين إلى بلادهم يحملون تجارب وخبرات البلاد التي عاشوا فيها كما حصل في وادي حضرموت . كل هذه العوامل وغيرها أسهمت بشكل مؤثر في تشكيل المجتمع الحضرمي في القرن العشرين» . ثم نطوف مع الكاتب بامكريد في أرجاء أهم مدن وموانئ حضرموت ومعالمها التاريخية التي تزخر بها البلاد . كما لا ينسى الكاتب ذكر فن العمارة الطينية التي يتميز بها الحضارمة والقلاع والحصون في مدينة تريم التاريخية ، ليقف بنا أمام شواهد منها كـ (حصن الرناد ،سور المدينة ، حصن عوض ، حصن العز وغيرها من الحصون ) . أما في الباب الرابع فيفتحه لنا المؤلف لندلف إلى التعرف بشخصية تريم المكانية والزمانية واللغوية قائلاً : « لفظة تريم في لغة العرب تعني الفضل والعلو وبمعنى آخر فإن من يسكن تريم هم في الغالب أهل الفضل في العمل والسلوك والأخلاق فيمنحهم الله الخالق تبارك وتعالى العلو في المكانة والمقام ..». ويصف المؤلف شخصية تريم المكانية قائلاً : « أجده من حسن الطالع أن أقترن اسم تريم بلفظة « الغناء» وعند السؤال عن ذلك كانت الإجابة واضحة للعيان والمشاهد حيث سميت كذلك لكثرة الحدائق الخاصة المنسقة المليئة بالورود والأزهار والعصافير كذا والبساتين كثيفة الشجر متدفقة المياه والمزارع المنتشرة التي تحيط بالمدينة حتى انك لتجد منزلاً داخل حديقة ومصلى في قلب بستان ومسجداً يتوسط مزرعة بالغة الاخضرار وهكذا ..» . ثم يأخذنا معه ثانية ، لنروِّح عن أنفسنا ، بتخيل الفن المعماري الشاهد على عبقرية الإنسان الحضرمي ، لنقرأ عن أشهر مآذن ومساجد تريم مستعرضاً إياها بإسهاب . أما في الباب الخامس والأخير ؛ فيحدثنا المؤلف عن المؤسسات الثقافية والدينية والمدنية بتريم ، منها «مكتبة الأحقاف التي تكونت في العام 1972م بقرار حكومي قضى بضم جميع المكتبات الأهلية الخاصة وسميت بالأحقاف تيمناً بالوادي المبارك الذي ذكر في القرآن الكريم »، وغيرها من مراكز الدراسات والمكتبات والأربطة الدينية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة . وألحق المؤلف كتابه الرائع بملحق للصور منها للعواصم الثقافية العربية التي تم الاحتفاء بها وصور لعدد من مساجد وقصور تريم الحضرمية التراثية . كما ضم الكتاب أسماء المراجع التي عاد إليها المؤلف ليتحفنا برائعته ، والفهرس . أما الغلاف الخلفي للكتاب فنقرأ فيه سيرة المؤلف في سطور قليلة ، موجزة ، فنعرف أنه من مواليد مدينة المكلا عام 1958م ، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي بها ليحصل على بكلاريوس لغة إنجليزية من كلية التربية بجامعة عدن عام 1983م ، وهو يعمل في الصحافة منذ العام 1984م حتى اليوم . ونعرف من سيرته أن له كتابين سيصدران قريباً هما : «عدن فاكهة المكان وأغنية الزمان» و «الصحافة الثقافية في اليمن»، وندعو الله لزميلنا الكاتب الصحفي بالمزيد من التألق الثقافي والفكري .