أثار الأستاذ المثقف : أحمد الحبيشي في تناولته الفكرية المطولة المنشورة على الصفحة الثالثة من عدد ( 13649) لصحيفة ( 14 أكتوبر ) الغراء بتاريخ السبت الموافق 27/يناير 2006م قضايا شديدة الحساسية بدأها بالشاعر الفرنسي رامبو الذي أضاف إليه الأستاذ الحبيشي صفة أخرى حيث نعته ( بالنخاس ) الذي كان يتاجر بالرق لصالح إحدى الشركات التي كانت تستغل بشراء العبيد من أفريقيا وبيعهم في سوق العمل بأوروبا في ذروة الثورة الصناعية الثانية وانتهى في سياق تراتبي غني بالمعلومات التاريخية المدهشة التي تختفي في زحمة الإيمان بأقوال الفقهاء حد التقديس الا على اللبيب المثقف ، انتهى بعرض مؤلم لازمة التأويلات التي جاء بها فقهاء الدين الإسلامي وأثبتت أنها كانت عائقاً صلباً لتحديث الشعوب الإسلامية وانهيار حضارتهم في نهاية المطاف . وهو ما ذكرني بأحاديث الزعيم الأممي المسلم ( مهاتير محمد ) رئيس وزراء ماليزيا السابق في تناولة مقتبسة عن كتاب من تأليفه قرأتها على صحفات مجلة (العربي) الكويتية عندما تحدث بألم مقارناً بين الثورة الصناعية النهضوية في أوروبا ففي الوقت الذي كانت فيه أصوات الآلات الصناعية المتطورة تخدم نهضة وحياة الناس وتسمو بهم إلى مصاف القوة العلمية وتدفعهم إلى مقدمة الشعوب .. كانت أصوات فقهاء الدين الإسلامي في المقابل تعلو وتولول على التجريم المباشر لدخول الكهرباء إلى المساجد وظل هذا التجريم قائماً لعقود . هذه المأساة أضافت إلى ذهني معلومات جديدة عن دور الفقهاء السلبي في الإفتاء بتجريم ( كتاب القانون ) للعالم الإسلامي ( ابن سيناء ) الذي نتذكره بفخر في مناهج التاريخ والطب دون الإشارة إلى الغزالي ، وأبن تيميه ) غفر الله لهما . وتوالى الفقهاء – بحسب الاستاذ الحبيشي – في عدم جواز التوقيع على معاهدة ويستفاليا حتى عندما دخلت المطبعة على يد محمد جلبي وابنه سعيد في منتصف القرن الثامن عشر واجه الاثنان مزيداً من الضغوط القاسية لكنهما تمكنا من اقناع الفقهاء في إصدار فتوى مشروطة بطباعة الكتب غير الدينية في عام 1728م .وعندما وجد فقهاء ذلك العصر انتشار كتب الطب والفلسفة وغيرها احسوا بالندم وأصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية . وما استغرب له وأرجو أن اقر له ذات يوم تبريراً هو ما السبب الديني في تحريم دخول المطبعة الذي استند إليه الفقهاء واعتبروه مفسدة ؟؟ وفيمَ ستفسدنا المطبعة (!!) .إن اعتبار الفقهاء لأنفسهم حراساً على العقيدة الإسلامية سمح بانتشار ثقافة لازالت بقاياها حتى الآن ومنها اعتبار ( الغريب ) من الصناعات ( بدعة ) .واتذكر مقاومة الفقهاء في اليمن والسعودية لانتشار اللاقط التلفزيوني ( الستالايت ) لاعتباره بدعة ومفسدة ، إلى أن تدخل متنورون كثر وجعلوا من هذه ( المفسدة ) ألة هادفة لنشر ثقافة الدين الإسلامي وحضارته ورفضة الانغلاق الهادم . وما كان على المقابل من يهود الدولة الإسلامية الذين استفادوا بذكاء اليهود المعهود إلى تسخير المطبعة لنشر ثقافتهم وعقيدتهم بطبع ترجمة عربية للتوارة ، فكانوا اسبق وانضج من فقهاء الإسلام الذين اولو كثيراً من المفاهيم وحولوها إلى رجس من عمل الشيطان الرجيم.إن تاريخ الدولة الإسلامية المتعاقبة تكشف أن العقلية العربية المسلمة قد اثرت كثيراً في هدم الحضارة الإسلامية وتحول شعوبهم إلى لقمة سائغة لاطماع الدول الاستعمارية الكبرى وأدى دور الفقهاء أيضاً إلى الانغلاق والانكفاء على الذات وبالتالي تأخرنا عن مواكبة النهضة العلمية العالمية لقرون.ومع ذلك أمل أن تساهم ثقافة الوسطية والدعوة إلى التحرر من عقلية (الفقيه) وفوضى (الفتاوى) المتزاحمة .. وأن تعمل قنوات الشباب الملتزمة بدعاة مستنيرين أمثال (عمرو خالد وعائض القرني والحبيب الجفري) إلى خلق ثقافة شبابية راقية لا تنكب على تكفير الآخر ولعنه واعتباره نجساً لا فائدة منه.وما النجاح الذي حققه الفنان البريطاني المسلم سامي يوسف في قلوب وعقول الكثير من أبناء جيلي إلا انتصاراً أولياً يؤكد السأم الكبير من محاصرة الفقهاء للحياة اليومية للإنسان.آمل ذلك وأتمنى أيضاً أن تسهم مؤسسات الدولة الإعلامية في نشر ثقافة الانفتاح على الآخر والاستفادة منه بما يحقق النهوض للأمة .. ويغير من عقلية (اصحاب الفتاوى) الذين يلزموننا بقبول فتواهم .. وهي في الأصل قابلة للأخذ والرد والتصحيح وربما يتراجع عنها (الفقيه) ويعتذر لأجلها (كما فعل المفكر الإسلامي حسن الترابي) الذي تراجع عن الكثير من فتاواه ورأى أنها كانت تحمل أخطاء مفخخة.. وقد فعل مثله عدد من فقهاء السلفية.تمنياتي للأستاذ الحبيشي بالإمتاع المتواصل لنا عبر نشره الكثير من القضايا الجوهرية الخافية على كثير من أبناء جيل الشباب وأن تسهم مؤسسته الموقرة في رفد المكتبة الوطنية بالعديد من قضايا الفكر العصري حتى نتمكن من محاصرة (العبودية الفقهية) والتحرر منها كما تحرر العبيد من تجار النخاسة.والله يتولى الصالحين.
أخبار متعلقة