دخل يعقوب بيري الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك في أواخر العام 1966 إلى قرية باقة الغربية المحتلة وعاش - على ذمة كتاب مذكراته ( القادم لقتلك) في بيت زكي عبدالله عويسات بصفته طالبا في الجامعة العبرية يبحث في عادات العرب وتقاليدهم ونمط حياتهم. وليس بيري الوحيد الذي دخل بيوت العرب وعاش بين ظهرانيهم كطالب جامعي . جلس مع النساء في المطابخ ، وغنين الأغاني الشعبية على مسمعه وحفرن الكوسا على مقربة منه . كيف لا وهو طالب جامعي ويبحث، ولا بد من مساعدته في هذا البحث.ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فزكي عويسات المضيف عميل للمخابرات الاسرائيلية ويعرف من هو بيري، لكن أهل القرية لا يعرفون شيئا سوى أن بيري قريب للعويسات. وكانوا يطلقون عليه اسم يعقوب العويسات.وهذا الأمر _ أيضا على ذمة بيري نفسه- كان معروفا أيضا حتى للحاكم العسكري الأسرائيلي نفسه.فقد دعا الحاكم العسكري للمنطقة ضباطه للاجتماع، وذهب بيري إلى هناك مما أثار حفيظة الحاكم العسكري الذي استشاط غضبا وقال: أريد أن أعرف كيف تسلل هذا العربي إلى هنا؟"طبعا تأتي هذه الحكاية كلها في سياق تأهيل الشاباك لبيري لتسلم القسم العربي في الجهازأي قسم التجسس على العرب.بغض النظر كان هذا الحديث حقيقة أم انطوى على شيء من المبالغة واستعراض الذكاء، إلا أنه وكغيره من الحكايات الكثيرة التي أوردها قائد الشاباك هذا في مذكراته يفيد شيئا واحدا وهو أن الجامعات والأبحاث كانت وما تزال تلعب الدور الكبير باعتبارها غطاء مهما وملائما وناجحا في ذات الوقت للتغطية على النشاطات الاستخبارية.أي أن الغطاءات الأكاديمية والعلمية وصفة ناجعة أثبتت فاعليتها لأجهزة المخابرات.باسم " الأكاديميا" يدخلون مطابخنا، يباح لهم ما هو موجود في حرمات البيوت، يطلعون على الخبايا ويكشفون المستور. وربما هذا وحده يعتبر سببا كافيا وقاطعا ومانعا لرفع وتبني شعار المقاطعة الأكاديمية.كثير من دعاة " الانفتاح الأكاديمي" يبررون دعواتهم الانفتاحية هذه بداعي الاستفادة من خبرات الآخر يقولون : نأخذ منهم ولا نعطيهم، نتعامل معهم بحذر ، نحن منتبهون ، وادعاءات أخرى من نمط هؤلاء يمثلون اليسار الاسرائيلي، متعاطفون مع قضية شعبنا، رافضون لسياسة حكومتهم.. أو..أويسوقون كل المسوغات لتصبح علاقاتهم مع الاسرائيليين مستساغة ومقبولة. مهما يكن فإن كل ذلك لا يعدو كونه محاولة " تذاكي" مكشوفة من قبل أؤلئك الراغبين في إقامة مثل هذه العلاقات.فالصهاينة الأوائل خططوا لمثل هذه المواقف حتى قبل أن نفكر فيها نحن. وتكفي نظرة سريعة على " بروتوكولات حكماء صهيون" التي كتبت قبل ما يزيد على مئة عام لنرى أنها حسبت لمثل هذه اللحظة حسابا .ولنقرأ معا هذه الفقرة من البروتوكول السادس عشرتقول : إننا سنغير الجامعات ونعيد إنشاءها حسب خططنا الخاصة" لنلاحظ إذن أنها خططهم الخاصةعدا عن ذلك فهم يحددون أيضا نوعية الشباب الذين سيتخرجون من الجامعات ، ولنقرأ أيضا من البروتوكول السادس عشر: " لن يسمح للجامعات أيضا أن تخرج فتيانا ذوي اهتمام من أنفسهم بالمسائل السياسية التي لا يستطيعون هم ولا آباؤهم أن يفهموها"واضح أن هناك تخطيطا مسبقا منذ البداية للعمل على عدم تخريج أناس يتدخلون بالسياسة" من أنفسهم" ولكن بتوجيه صهيوني بروتوكولي.وإذا بقينا للحظة بين صفحات البروتوكولات، وعدنا إلى البروتوكول الأول لقرأنا فيه:" إن صيحتنا " الحرية والمساواة والإخاء" قد جلبت إلى صفوفنا فرقا كاملة من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلائنا المغفلين".بمنتهى البساطة لقد أدرك المؤسسون الصهاينة منذ البداية أن الناس جميعا يتوقون إلى الحرية والإخاء والمساواة، فلماذا إذن لا يستغل هؤلاء " الحكماء" هذا الشعار البراق في خدمة " حكمتهم" القائمة على (الحرية والمساواة) من أجل السيطرة كما يعترفون في بروتوكولات أخرى؟إذن هم يرفعون مثل هذه الشعارات، وها هي بعد أكثر من قرن ما زالت تجني ثمارا أهمها تصديق العالم لهم أو قسم كبير من العالم- بأن اليهود ضحايا.إن أي علاقات أكاديمية أو غير أكاديمية مع إسرائيليين مهما كانت مسوغاتها لن تكون إلا في خدمة " الحكمة الصهيونية"، وبالتالي فإن كل دعاة مثل هذه العلاقات لن يكونوا إلا هؤلاء الوكلاء المغفلين الذين جاء البروتوكول على ذكرهم. فهل نقبل أن نكون وكلاء مغفلين؟قد يقول قائل : لماذا هذه النظرة العدمية ؟ هل انعدم الطيبون في المجتمع الاسرائيلي؟ هل وجود محبين للسلام بينهم يعتبر ضربا من المستحيل؟ أسئلة قد تبدو وجيهة ومنطقية للوهلة الأولى وربما يراها البعض " مفحمة"، خاصة إذا نظر إلى بعض الحالات الفرديةالتي تعد على أصابع اليد ممن ارتبطوا معهم بعلاقات عمل أو صداقة أو التقوا وإياهم بفكرة ما، أو بمشروع تطبيعي مثلا. لكل هؤلاء أقول أنه لم يغب ذلك عن بالي. فبحكم ارتباطي بماض وحاضر يساري فقد سبق وكانت لنا بعض علاقات الصداقة والزمالة مع هؤلاء " اليساريين". ولكن ثمة أحداثا معينة كانت تضع الأمور على المحك لتبين من هو الصادق بانتمائه لليسار ومن يمتطي ظهر اليسار.أحد هؤلاء وهو ابن لأحد قادة الحزب الشيوعي الاسرائيلي كانت أسرته تسكن في" كريات شمونا" ، فكان كثيرا ما ينظر نظرة حقد إلى الفلسطينيين في الجنوب اللبناني لأن هذا الجنوب وأهله وساكنيه يشكلون خطرا على الشمال "الإسرائيلي"وعلى مستوطنة كريات شمونا بالذات. وكنا ندخل معهم في نقاشات حول الأمر تعيدنا إلى نقطة الصراع الأولى ، أي لماذا يقيم الفلسطيني في جنوب لبنان فيما تقيم أنت على أرضه وأنت القادم من بولونيا؟ من الأحق بهذه الأرض؟.مثل هذه المناقشات وغيرها أوصلتنا إلى حالة من القطيعة بالرغم من الجذور اليسارية التي كنت أعتقد أنها تجمعنا، حيث كنا نلتقي في كثير من الأمور العالمية.هذه حالة، أما الحالة الثانية فكانت لصديقة يهودية من أصل عراقي اسمها إيتيل كوجمان، هجرت قسرا من العراق هي وعائلتها منذ أيام نوري السعيد ، ومنذ ذلك الوقت وحتى أواخر السبعينيات، لم تستطع هذه العائلة المخلصة لفكرها اليساري أن تتأقلم مع البيئة العنصرية المعادية لكل ما هو عربي. فاختارت العائلة الرحيل مجددا إلى بريطانيا. أما صديقتنا إيتيل التي كانت آنذاك تدرس الطب في موسكو فقد لحقت بأهلها بعد تخرجها وفضلت أن تعمل هناك عاملة مطعم على أن تعود ل "إسرائيل" وتعمل كطبيبة.هذه هي المحكات الحقيقية التي ينبغي أن ننظر إليها، هل يقبل هذا " الصديق" أن يعيش على أرض مصادرة؟ هل يخدم في جيش الاحتلال ويقتل الأطفال ؟ هل..هل..؟أما أن يبيعني احد كلاما في الأفكار والنظريات المتعلقة بالسلام والتعايش ، وعلى أرض الواقع تقوم الجرافات بتجريف أرضي كي تبني عليها بيتا له؟ أن يقوم الجنود والمستوطنون بقتلي من أجل أن يعيش هو بأمان واطمئنان؟ فأية علاقات وأية أفكار وأية مبادئ التي تسمو على علاقة قاتل وقتيل.علاقة بين سارق أرض وصاحب الأرض الحقيقي؟ الجامعة العبرية نفسها التي يتغنون بها كصرح أكاديمي هدمت عشرات البيوت الفلسطينية في منطق جبل تل سكوبس المقدسي لتبنى مكانها هذه الجامعة.صراع لا يمكن أن يقف أي واحد لا الفلسطيني ولا " الإسرائيلي" محايدا إزاءه. لأن حياة كل منهما ، أمنه استقراره مستقبله، مستقبل أبنائه، أطفاله كل ذلك مرتبط بأحد طرفي الصراع. فأين تقف هذه العلاقة؟المحامية المعروفة فليتسيا لانغر اليهودية من أصل بولوني التي دافعت عن عشرات المعتقلين الفلسطينيين من بينهم أبي وزوجي، ودافعت عني حين منعتني حكومتها من السفر لإكمال دراستي الجامعية، دفعت ثمن مواقفها تلك. ناصبوها العداء ، جيرانها نبذوها ، ألقوا النفايات على بيتها ، حاربوها بابنها، ولم تحتمل كل ذلك فاختارت هي الأخرى الرحيل لأنها لم تستطع وعلى مدار أربعين عاما أن تتأقلم مع أجواء الحقد والكراهية ، وهي اليهودية أبا عن جد والمهاجرة من بولونيا هربا من العسف النازي.هذا ما سجلته في مذكراتها.نعم يوجد يهود جيدون. لكن معيار صدقهم يبقى مدى استعدادهم لدفع ثمن مواقفهم، أن يدفعو ضريبة هذه المواقف شيئا أكبر وأكثر جدوى من الكلام.كما فعلت لانغر وكوجمان.لكن هناك فرق كبير بين هؤلاء وبين بياعي الكلام الجميل ، فرق بين رافض الخدمة العسكرية وبين ضابط متقاعد أصبح يتكلم عن السلام بعد أن أنهى خدمته وقتل من قتل وسجن من سجن.محاولة التمييز بين هذا وذاك دائما تستدعي معرفة كاملة غير منقوصة، حتى نستطيع أن نميز من هو الشخص المحب للسلام فعلا ومن هو الذي يلعب دور المحب للسلام لغرض في نفس يعقوب، خاصة إذا كان هذا اليعقوب مثل يعقوب بيري سالف الذكر. وبما أن إمكانية المعرفة الكاملة غير متوفرة ، إذن المحاولة ستدخلنا في متاهة، الله وحده يعلم إن كنا سنخرج منها سالمين وغير ملطخي الثياب أم لا.ولأن متاهات الصراع كثيرة تبقى المقاطعة هي الطريق الأمثل إلى النجاة ، حيث لا ندري ما إذا كان هذا الفيزيائي الأسرائيلي هو مجرد أستاذ جامعي يخدم العلم والإنسانية أم هو خبير ذرة يسعى لانتاج سلاح تدميري؟ هل هذا صحفي أم رجل مخابرات؟ هل ممثل مسرح يعمل فقط لتقديم رسالة إنسانية عبر خشبة المسرح أم أنه يصعد درج المسرح ليتسلق منه إلى عقولنا.احتمالات النتائج السلبية تبقى أكبر من احتمالات النتائج الإيجابية بكثير. فنحن في حالة صراع. والصراع أكبر من محاولات الإصلاح وأكبر من محاولات البحث عن النوايا الطيبة، بل وأكبر من النوايا الطيبة نفسها. فالبحث عن النوايا الطيبة في مجتمع كهذا كالبحث عن ابرة في كومة من القش.إذن مرة أخرى ليس علينا أن نقبل بأن نكون وكلاء مغفلين ولا وكلاء ونحن عارفون بخفايا الأمور.وداد البرغوثيجامعة بيرزيت - فلسطين
|
ثقافة
هل نقاطع أكاديميا .. ام نكون وكلاء مغفلين ؟!
أخبار متعلقة