أصبح مشايخ عصرنا -اليوم- هم الذين يثيرون الزوابع في الساحة الإعلامية بفتاواهم وتصريحاتهم المثيرة والصادمة للمجتمعات العربية والإسلامية، وكان فيما مضى من الزمان من يثير تلك الزوابع شخصيات سياسية معارضة أو فكرية قلقة ومتمردة على السائد والمألوف في الفكر والسياسة والثقافة والموروث الديني،تغيرت الأحوال وانقلبت الأوضاع وأصبحنا في زمن، المشايخ فيه، نجوم الساحة، يتصدرون الفضائيات بفتاواهم الجاهزة لكل القضايا السياسية والاقتصادية والطبية والإعلامية والدولية، عندهم الحلول لكل صغيرة وكبيرة في حياة المسلم، وصار للافتاء نجوم يتسابقون في “ماراثون” الفتاوى الرمضانية، وكلٌ له أجره، ولا حسيب ولا رقيب. لقد أدمنت مجتمعاتنا الفتاوى، وكأي سلعة خاضعة للعرض والطلب، إذا اشتد الإقبال عليها ارتفع سعرها ودخل سوقها الكثيرون وأصبحوا يفتون في كل شيء.وأصبح الخطاب الديني هو المتسيد للساحة المجتمعية من غير منازع يثير إشكاليات وأزمات وزوابع لا تكاد تنتهي. لم يكد يمضي من رمضان ثلثه، حتى فاجأنا فضيلة الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى بالسعودية ، بقنبلة مدوية (فتوى) ضد أصحاب الفضائيات التي قال عنها إنها تبث “الخلاعة والمجون” أو “الفكاهة والضحك” وما لا نفع فيه من البرامج والمسلسلات التي تفسد الأخلاق والعقيدة وتنشر “الفحش” والفتن، وتوعد الشيخ أصحابها بأنهم إذا لم يرتدعوا، جاز قتلهم “قضاء” استناداً إلى أن إفسادهم كإفساد قُطاع الطرق!قامت زوبعة من الردود تهاجم الفتوى، لأنها تسيء إلى سمعة المملكة وإلى قضائها السعودي، وتناقض توجهاتها في الانفتاح والحوار والتعايش والتعددية، وتدعم فكر الغلو والتطرف. لقد تناسى الشيخ أن الفساد درجات، ولا يجوز تنزيل آية “الحرابة” الواردة في قُطاع الطرق الذين يرعبون الناس على ملاك الفضائيات. ولم تهدأ الزوبعة حتى فاجأنا الشيخ الدكتور عبدالله الجبرين بقنبلة ردعية أخرى، إذ طالب بجلد الكتاب والصحفيين “المتطاولين” على انتقاد العلماء، بحجة أن انتقادهم حكر عليهم، لا يجوز لغيرهم، حماية لمكانة العلماء وعرفاناً بفضلهم، فقامت زوبعة أخرى من الردود ضده، فقال الكاتب علي العمودي: إن الفتوى تندرج ضمن “فتاوى الغلو” وتخدم دعاة الحجر على حرية الفكر وفرض الوصاية “والعودة بنا إلى عصور محاكم التفتيش”. أما الكاتب محمد الحمادي فقال: إن انتقاد العلماء لا يعني إنكار فضلهم، لكن عليهم الانفتاح على العصر وما يدور حولهم، أما المطالبة بـ “ردع” الصحفيين في عصر الحريات الفكرية “فأمر غير مقبول”، وتساءل: الصحفيون والكتاب هم قادة رأي في المجتمعات، فلماذا يحاول بعض المشايخ أن يحتكر قضايا المجتمع ويجعلها قضايا دينية لا تُناقش؟! وبدورنا نتساءل: كيف تناسى الشيخ أن فرداً من الناس وقف منتقداً من هو أعلى مكانة (الخليفة الراشدي) فرحب بانتقاده وقال: خيركم من أهدى إلينا عيوبنا؟ أيريدها الشيخ “كهنوتاً” في عصرنا؟! ثم أين الشيخ من حديث: الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وخاصتهم. والرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كانوا يستمعون إلى الخاصة والعامة ولا يضيقون برأي مخالف، والرأي الصائب ليس حكراً على العلماء، وقديماً قيليُعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال. وها هو “غوغل” يرصد 10 ملايين دولار مكافأة للحصول على أفكار خلاقة من “العامة”. على العلماء أن يكونوا أكثر تسامحاً تجاه النقد الموجه إليهم، وهم أجدر بأساليب التلطف والترفق في الخطأ، ونبذ أساليب الغلظة والزجر والتهديد. على علمائنا أن يؤمنوا بحق الآخرين في الاختلاف معهم فذلك جوهر التسامح، وقد قال تعالى «وقولوا للناس حُسناً».ولم تكد الساحة تفرغ حتى تناقلت الأخبار زوبعة أخرى سميت بفتوى “قتل ميكي ماوس”، إذ قال الداعية محمد المنجد إن الشريعة سمت الفأر بالفويسقة وإنه يُقتل في الحل والحرم وأنها تُضرم على أهل البيت النار وإن الشيطان يُسير هذه الفأرة، وإنها من جنود أبليس. وحذّر الأطفال من الإعجاب بـ “ميكي ماوس” لأن هذا شرعاً يُقتل في الحل والحرم وكانت سخرية الدكتور البغدادي لاذعة من الفتوى، إذ قال “يا مثبت العقل والدين، رجل دين طويل عريض، حاط حيلك وحيل الفار! الله يهداك، شِلّك بيه؟”. وتخيلوا معي حضرة الشيخ وقد أمسك بالسيف ويريد أن يقتل “ميكي ماوس”! وقد تناقلت وسائل الإعلام الغربية والأميركية الفتوى بعد ترجمتها وتداولتها المواقع الإعلامية ومنتديات الإنترنت. وعلق الكاتب محمد صادق دياب بقوله: الداعية المنجد يعلم أن هذه الشخصية الكرتونية ابتكرها والت ديزني قبل 80 عاماً، لم تصنع من أجلنا، ولا من أجل إفساد أطفالنا، وإنما أنتجت لأطفال آخرين في ثقافة أخرى، فاستوردناها، وبدلاً من لوم الآخرين، علينا أن نلوم أنفسنا. أما الكاتب حسين شبكشي فتمنى أن يشغل الداعية نفسه والناس بأمور تنفعهم وتهمهم، ويترك “ميكي ماوس” في حاله... “فهناك أناس أخطر بكثير، وعلى حسب علمي أن ميكي ماوس ورفاقه لم يرتدوا أحزمة ناسفة حول خصورهم أو أخرجوا أحداً من الدين والملة لأنه كان مخالفاً لهم، ورمضان قارب الانتهاء، وميكي على موعد مع أطفالنا، دعوهم يلعبوا ويفرحوا”.وفي المغرب تناقلت الأخبار زوبعة رابعة أثارتها فتوى أطلقها الشيخ محمد المغراوي، رئيس “جمعية الدعوة إلى القرآن والسُنة “، بشأن شرعية زواج البنت وهي في سن التاسعة، مستنداً إلى حديث نبوي في الصحيحين، وقال “متى كان في المرأة إمكانية لتحتمل الرجل فتُزوج على أي سن كانت.. وبنات التسعة لهن من القدرة على النكاح ما للكبيرات”. ومعروف أن السن القانونية للزواج في المغرب محدد بـ 18 عاماً. وقد أثارت الفتوى معارضة واسعة من الجمعيات النسائية والحقوقية والصحف المغربية، كما ندد المجلس العلمي الأعلى بالفتوى، وقال إن صاحبها معروف بالشغب والتشويش، وإن الأحاديث في حالة زواج النبي صلى الله عليه وسلم عن سن “العقد” لكن الزواج تم بعد العقد بعدة سنين فلا حجة فيها، وأوضح أن على العلماء التقيد بالنظام الذي يصدره ولي الأمر، إذ من حقه تقييد وتنظيم المباح تحقيقاً للمصالح، والقرآن الكريم إذ حكّم “العُرف” في معظم وسائل الزواج، فإن الأعراف تتغير، ولكل بلد عرفه الذي يُعمل به.وفي أول رمضان أصدر الشيخ فركوس بالجزائر فتوى بتحريم أكل “الزلابية” باعتبارها “بدعة” لا دليل يسندها، وقد أثارت زوبعة كبيرة في الشارع الجزائري وبخاصة أن الجزائريين اعتادوا عليها في رمضان. الأمر الذي جعل شاكر النابولسي يتساءل: هل لاحظتم كثرة الفتاوى هذه الأيام؟! فتاوى بالعشرات تنهمر -يومياً- في الجنس والنساء والطعام ودخول الحمام وفي النوم والصحو، وكل ممارسات المسلم في يومه وليله، مع أن تعاليم الإسلام منذ 14 قرناً وأصبحت معروفة ومحفوظة... فما معنى ذلك؟ وما دلالاته؟ معناه أن حاجة مجتمعاتنا إلى رجل الدين تشتد في زمن التخلف والجهل والاتكالية والكسل والخوف من العلم والعقل. ودلالته الواضحة، اختفاء دور السياسيين والمثقفين والعلماء والخبراء لكي يحل محلهم الفقهاء فقط.وأبى الشهر أن يودع حتى فجّر الشيخ القرضاوي زوبعة كبرى عن “التبشير الشيعي” ما زالت أصداؤها تتردد، وليته انشغل واهتم بالجانب “السياسي” في تمدد إيران السياسي والضار بمصالح المنطقة، تحت ستار دعم فصائل المقاومة، فذلك هو “الخطر الحقيقي”، أما الجانب “المذهبي” فيجب تركه للحرية الشخصية.[c1]*عن / جريدة “الاتحاد” الإماراتية[/c]
مشايخ عصرنا وإثارة الزوابع
أخبار متعلقة