مرافىء
لزمن طويل القى " القمندان" بظلالة القوية على الأغنية اللحجية وعلى العديد من الملحنين والفنانين الغنائيين في لحج. ولا شيء يشير إلى أن ذلك التأثير سيزول في المدى المنظور.وقلة من الفنانين حاولت الخروج بوعي أو بدونه على مدرسة القمندان ، وتأسيس مكانة فنية لها بعيداً عن تأثيراتها الطاغية . ومن هؤلاء الفنان القدير حسن عطا.ينتمي حسن عطا إلى الجيل الذي برز على الساحة الغنائية في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين المنصرم. وأظهر منذ البداية تميزه سواء بالحانه، أو بادائه ، أو بصوته بانه نمط جديد مختلف عما هو سائد من الألحان والأصوات التي كان أغلبها يدور في فلك القمندان.وفي تلك الفترة، وحتى بعدها ، كان أكثر الفنانين الذين يظهرون في لحج يخرجون من (معطف) القمندان ومدرسته في التلحين والغناء بحكم تأثيرها القوي الذي أشرنا اليه. أو يتكئ في انتاجه على مخزون الغناء اليمني بلونه اللحجي الذي قام القمندان بتطويره.كان القمندان كشاعر يكتب عن الحب ، والأرض ، والطبيعة ، ويستمد الحانه من ذلك المعين الذي لا ينضب لفن الغناء اللحجي، الزراعة والبساتين ، ومن الموروث الغنائي الشعبي بايقاعاته الراقصة " الشرحية " وشجاه الذي يحمل رائحة الأرض، وعبق الاشجار ، وشذى الازهار ، الفل والكادي ، والكثير من النباتات والفواكه التي زرعها في الارض التي احبها قبل أن يخلدها في اشعاره والحانه واغانيه، لهذا وجدت صداها وأثرها وخلودها لدى الناس الذين احبوها، ووجدوا فيها شيئاً منهم ، لصيقاً بهم وبحياتهم ، وخلجات قلوبهم.ومثلما خلد القمندان الأغنية اللحجية ، فانه خلد بها أيضاً .واليوم تذكر مقرونة به في أغلب الأحوال . ويمكن القول ان كثيراً ممن أتوا بعده نبتوا في تربة القمندان . وما زال كثيرون من الفنانين حتى اليوم يعيشون على انتاجه ، ويدخلون باب الشهرة من ( كوة ) هذا الفنان العبقري.تتميز الأغنية اللحجية بطراز فريد من الهندسة الموسيقية غير المعقدة والمريحة . وقد حرص القمندان أن يحافظ لها على شخصيتها ، وهويتها المميزة ، الضاربة جذورها في أعماق التربة اليمنية - اللحجية الأصلية. ومن هنا سر خلوده وخلودها.لكن القمندان ، ليس الوحيد الذي انجبته لحج، بل سبقه وعاصره وجاء بعده كثيرون من الفنانين الذين نهلوا رحيقها العذب. فهي أرض الشعر والفن ، وعلى رباها تأسيس واحد من أبدع أنواع الغناء اليمني المعروف باللون اللحجي . ومن هؤلاء الشاعر والملحن عبدالله هادي سبيت الذي اعتبرت الحانه في عداد محاولات تطوير الاغنية اللحجية ، وعده البعض الأمل لتجديد هذه الاغنية بعد القمندان. لكن تصوف " سبيت " وابتعاده عن عالم الفن والغناء بعد أن حقق قدراً كبيراً من النجاح ، قضى على هذا الأمل . فظلت السطوة للقمندان ومدرسته وما تزال.كما يمكن الاشارة إلى جهود فنانين آخرين أمثال الأمير عبده عبدالكريم ، وفضل محمد اللحجي ، وسعودي أحمد صالح، وسواهم ممن حاولوا التجريف خارج بحيرة القمندان بقواربهم الخاصة ، لكن تجاربهم تحتاج إلى دراسة متعمقة من الاختصاصيين في النقد الموسيقي ليحكموا عليها ، وإلى أي مدى ابتعدت أو كانت قريبة من القمندان ونهجه في التلحين والغناء.حسن عطا ( ربما ) كان الوحيد الذي أظهر خروجاً واضحاً عن مدرسة القمندان . ولست بوارد الحكم على تجربته ان كانت تمرداً واعياً على تلك المدرسة التي كان وما زال لها تلاميذ ومريدون عديدون مخلصون لها، ومدافعون عنها ، ومئات الآلاف من المعجبين من كل الأجيال، داخل اليمن وخارجه. أو انها جاءت بمحض الصدفة.جاء حسن عطا إلى عالم الفن ، التلحين والغناء من نفس البيئة ، فهو ابن للحج، ميلاداً ونشأة. وقد تشرب فنونها وميراثها الغنائي الشعبي. كما عاصر المدارس التجديدية للأغنية اللحجية على يد أحمد فضل القمندان ، والأمير عبده علي عبدالكريم ، والشاعر الفنان عبدالله هادي سبيت ، والفنان فضل محمد اللحجي ، والفنان محمد سعد الصنعاني وسواهم، كما كان متابعاً للتجارب الحداثية للاغنية اليمنية والتي كانت عدن مسرحاً لها ، والتي توجت بظهور اغنية حديثة سميت بالاغنية العدنية ، وفي نفس الوقت لم يكن بعيداً عن مناخ تطور الموسيقى الشرقية والأغنية العربية التي كانت الاغنية المصرية تقف في المقدمة منها.ولا شك انه كان يستحضر كل هذا المخزون وهو يتطلع إلى دور يسهم به في تطوير الاغنية اللحجية . ولست ادري ان كان قد خطر في ذهنه وهو يخوض تجربته أن يحلق خارج الإطار المهمين عليها ، واقصد القمندان ومدرسته في التلحين والغناء ، لكن تجربته اثبتت منذ البداية انها تختلف عنها سواء اراد صاحبها ذلك أم لا يرد.والسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو : هل يمكن في ظل هكذا مناخ أن يزدهر الأدب في بلادنا؟!كان العطا مدرساً للغة العربية في المدرسة المحسنية بلحج تلك المدرسة التي تخرج منها مئات المتعلمين والمثقفين الذين كان لهم دورهم في النهضة التعليمية والادارية فيما بعد . كما أن أجيالاً أخرى تخرجت على يديه خلال الثلاثين سنة الأخيرة من نفس هذه المدرسة التي أصبح ناظراً لها.ولما كان العطا ينتمي إلى مهنة التدريس السامية ، وإلى التربية والتعليم فقد كان يعي دوره التربوي كمدرس مسؤول عن تربية وتعليم النشئ ، لهذا فانه عندما اكتشف في نفسه موهبة التلحين والغناء ، وقرر ربما بعد تردد وصراع نفسي أن يخوض هذا العالم بكل تعقيداته ، فقد أراد أن يدخله من الباب نفسه ، أي باب الأستاذ والمدرس . وليس من باب التلميذ المقلد .وتعامل مع الفن بنفس الاستاذية . وبنفسه الخاص ، وحسه الفني الذي يعبر عن ذاته وليس عن سواه.وبشهادة الجميع ، فان حسن عطا اثبت إطلالته الفنية الأولى، انه صاحب روح جديدة ، وان صوته القوي العميق يختلف عن كل الأصوات السائدة التي تغني الاغنية اللحجية ، وكان يغلب عليها - الأصوات - الرخامة ، وأكثر أصحابها بدأوا الغناء صغاراً أمثال : عبدالكريم توفيق، محمد صالح حمدون ، سعودي أحمد صالح ، وطبعوا الاغنية اللحجية بادائهم . كان حسن عطا يملك صوتاً أحبشاً جهورياً ، وكان يملك إحساساً مرهفاً بالشعر ، وباللغة إلى أبعد حد، فقد كان اشتغاله في تدريس اللغة العربية حجر الأساس في ادائه . وبهذا الأداء اللحني والصوتي جذب إليه الأنظار، وسيطر على المستمعين ، وسحر الالباب بدرر من اغانيه التي وان كانت قليلة، لكنها ادخلته عالم الفن كملحن وفنان صاحب بصمة لحينه خاصة لا شبيه لها في السائد من الأغاني اللحجية . وحجز لنفسه مكانة معترفاً بها لا ينازعه فيها أحد ، أو ينازع فيها أحداً.زمن طويل مضى منذ بدأ حسن عطا تجربته في التلحين والغناء.حقق حضوراً لافتاً ، وسجل أغانيه للاذاعة والتلفزيون ، وشارك في العديد من الحفلات والمهرجانات ، وكون له جهوداً ومعجبين .وخلال هذا الزمن أيضاً شهد المناخ الفني تبدلات عديدة لم يكن في مجملها لصالح الفن والفنان.كما كان للعمر والمرض دورهما أيضاً في الهبوط من سقف الطموحات والأماني، له ولسواه.يرقد حسن عطا اليوم مريضاً في بيت تداعت جدرانه في الحوطة. ولعل حالة نموذج للطريقة التي تكافئ بها اليمن أبناءها من الموهوبين ، اولئك الذين أعطوا عصارة فنهم وجهدهم وعطائهم للرفع من مستوى الفن اليمني والذائقة الفنية للمستمعين ، لكنهم كوفئوا بالنكران والنسيان.