نبض القلم
لأمر ما جعل الله الدماغ في الرأس، وجعل رأس الإنسان في أعلاه، وليس في أسفله، فالدماغ موضع العقل، ومركز التفكير، والذي به يميز الإنسان بين الخير والشر، والحلال والحرام، والحق والباطل، والصح والخطأ، لذا اقتضت المشيئة الإلهية أن يكون موضع العقل في الرأس، أي في أعلى موضع، وأكرم موقع، وجعل الله العقل منظاراً للإنسان ينظر به إلى الحياة في مختلف جوانبها، ويتأمل في أحداثها ووقائعها، ليعتبر بأحداث الماضي، ويتدبر في أمور المستقبل، وشاءت الإرادة الإلهية ان تجعل عقل الإنسان ينظر إلى الخلف والى الأمام معا، وان يكون نظره الى الخلف وسيلة إلى الأمام، من أجل ذلك خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العينين تنظران إلى الأمام ولا تنظران إلى الخلف، والحكمة من ذلك أن يكون الإنسان ناظراً إلى الإمام باستمرار، لينطلق إلى آفاق المستقبل تاركا الماضي وراءه، غير أن ناسا عكسوا الفطرة الإنسانية فصاروا ينظرون إلى الخلف وحده، ولم ينظروا إلى الأمام، وقد قلبوا بذلك الوضع، فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة.وما أكثر الناس الذين يتشبثون بالماضي، ولا يكترثون بالمستقبل، فإذا ما حدثتهم في ما هم صانعون غدا حدثوك عن الماضي، وما صنع فيه أجدادهم أو آباؤهم، تراهم يحدثونك عن الأولين كيف حاربوا وكيف انتصروا وكيف سادوا العالم، وكيف، وكيف، وهم محقون في ذلك، لو اتخذوا الماضي وسيلة للانطلاق نحو المستقبل، ووسيلة لبناء الحاضر، ووسيلة لمعالجة المشكلات المعاصرة، أما أن يكون الماضي هدفا في حد ذاته وغاية يسعون لاستعادتها، فذلك هو العجز بعينه.ومن هؤلاء العاجزين أولئكم الذين يجترون الماضي ويلوكون أمجاد الآباء والأجداد ويمضغونها كاللبان صباح مساء، ومنهم أولئكم الذين يتذكرون العداوات القديمة والأحقاد الدفينة، وما حصل من خلاف بين قادة الأمة ومفكريها، وما ظهر من صراع بين المذاهب والعقائد والملل، فيعمدون إلى إحيائه لإثارة الفتنة وتأجيج نيرانها. ومن هؤلاء أولئكم الذين يتحدثون عن صراع قديم برز بين الطوائف، كالذي كان بين الشيعة والسنة، أو بين العرب والفرس، في حقبة تاريخية مضت وتجاوزتها المتغيرات والأحداث وأصبحت من الماضي الذي ذهب وبقيت أخباره التي تعطينا دروسا لنعتبر بها ونتعظ حتى نتجنب تكرار المآسي والهزائم.إن هؤلاء العاجزين الذين ينظرون إلى الخلف مافتئوا يشدوننا إلى الماضي، ويعطلون حركة المجتمع، ويحولون دون الانطلاق إلى المستقبل، فإن طالبتهم بالنظر إلى الأمام والكف عن النظر إلى الخلف أبوا إلا أن يذكروا لك ما وقع بالأمس البعيد من وقائع دمرت الأمة وحطمت بنيان المجتمع، وإن حاولت أن تصرف أنظارهم عن صراعات الأمس وما نجم عنها من مآسٍ أبوا إلا أن يذكروك بها لينكشوا حزازات التاريخ وجروح الماضي التي كانت قد اندملت وعفا عليها الزمن، وهم بذلك يقدمون خدمة مجانية لأعداء الأمة الذين لا يريدون لنا التقدم والرقي.وقد يضطر الإنسان أحيانا الدوران إلى الخلف أو الالتفات إلى الوراء، ليس للتراجع وإنما لوجود عائق يحول دون الانطلاق إلى الأمام، وذلك ما يفعله الجنود حين يأمرهم قائدهم أثناء التدريب قائلا: (إلى الخلف در) فهم يدورون إلى الخلف كي لا تتوقف مسيرتهم، فدورانهم لغاية ولكنهم سرعان ما ينطلقون إلى الأمام بثبات وعزيمة لمواصلة السير، من أجل ذلك تأتي تعليمات قائد الطابور تقول: إلى الأمام سر.والدوران إلى الخلف ربما يكون محمودا اذا كان لغاية، كدوران الثور بالمحراث عند وصوله إلى نهاية الحقل فهو يدور لغاية الانطلاق من جديد وتمكين الفلاح من وضع بذور جديدة في الشقوق التي يحفرها المحراث. أما اذا كان الدوران إلى الخلف أو الالتفات إلى الوراء بدون غاية وليس من ورائه غرض فإنما هو نوع من العبث وإهدار الوقت.[c1] امام وخطيب جامع الهاشمي