بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبعد أن تلاشت لحظة التعاطف العالمي السريع والكبير مع الولايات المتحدة، بدأ سؤال يطوف في أذهان الكثيرين، سواء في الداخل الأميركي أو خارجه: لماذا يكره العالم أميركا؟ وقد ازداد هذا السؤال حرقة بعد غزو العراق ورفع الإدارة الأميركية العصا في وجه كل من ينتقد سياستها، ناهيك عمن يعارضها، وفق مقولة: «من ليس معنا فهو ضدنا». ربما كانت أميركا مكروهة قبل ذلك من قبل مجتمعات كثيرة، إما نتيجة لهذه السياسة أو تلك، هذا الموقف أو ذاك، ولكن كره أميركا تحول في الآونة الأخيرة إلى ظاهرة عامة، وليس مجرد مواقف عابرة. وإذا كان هذا السؤال يتمركز تحديداً حول كراهية المجتمعات الإسلامية لأميركا بصفة خاصة، أو كراهية معظم مجتمعات العالم الأخرى، بما فيها الأوروبية، فإن إجابته اختلفت باختلاف مصدر الجواب. الجواب الأميركي في غالبيته يرى أن السبب يدور حول الحسد لأسلوب الحياة الأميركي والقوة الأميركية، أو أن أميركا تشكل محور الخير فيما يشكل من يعاديها أولئك المعادين للقيم الإنسانية التي تمثلها أميركا وتريد نشرها حول العالم، وبالتالي لا بد أنهم في النهاية أطراف في محور الشر. وبالنسبة للإسلام والمسلمين، فإنه رغم أن هنالك أصوات أميركية لا تربط بالضرورة بين الإسلام والكراهية والعنف والإرهاب، إلا أن أكثر تلك الأصوات يربط بين العنف والثقافة الإسلامية، التي هي ثقافة عنف وبغضاء في جذورها، ولا يمكن أن تتعايش مع الآخرين، وخاصة الثقافة الغربية التي تقع وإياها على طرفي نقيض.أما في أوروبا ومجتمعات أخرى، فإن كراهية أميركا تُعزى إلى الثقافة الأميركية ذاتها، تلك الثقافة التي تتميز بالغطرسة (غطرسة القوة) من ناحية، وبمحاول فرضها قسراً على العالم بصفتها الممثل الأوحد للثقافة الإنسانية (أمركة العالم)، فإذا كان كل ما يصلح لجنرال موترز يصلح لأميركا، وفق القول القديم لرأسمالية لم تتعولم بعد، فإن كل ما يصلح لأميركا يصلح لكل العالم، وفق القول الجديد لرأسمالية متعولمة. وفي المجتمعات الإسلامية، فإن كراهية أميركا تتركز حالياً في نقطة رئيسية واحدة، ألا وهي تصورات المؤامرة على الإسلام والثقافة الإسلامية، والتي هي الند الوحيد للثقافة والحضارة الغربية المعاصرة. نعم قد يكون للدعم الأميركي المطلق لإسرائيل دور في تلك الكراهية، وقد يكون البعض منطلق من قناعات إيديولوجية يسارية حول الهيمنة الأميركية، والإمبريالية الجديدة ممثلة بالعولمة الأميركية المنشأ، ولكن السبب «العقدي» المؤدلج، إن صح التعبير، هو المهيمن في هذه اللحظة من التاريخ.وعموماً، يلخص لنا ضياء الدين سردار وميريل وين ديفيز أسباب كراهية العالم لأميركا في أربعة أسباب رئيسية: سبب وجودي، وسبب كوزمولوجي (تكويني)، وآخر أنطولوجي (طبيعة الوجود)، وأخير تعريفي. السبب الوجودي هو أن الولايات المتحدة جعلت الوجود صعباً جداً على الشعوب الأخرى. فمن خلال هيمنتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، فإن الولايات المتحدة لا تعطي فرصة للتنوع والتعبير عن الذات في عالم تشكل أميركا مركز العولمة فيه. والسبب الكوزمولوجي يتلخص في أنه «في عالم اليوم المعولم، تُعتير أمريكا السبب الرئيس لكل شيء. لا شيء يتحرك على ما يبدو بدون موافقة أمريكا، ولا يمكن حل شيء بدون تدخل أمريكا». أما السبب الأنطولوجي فهو الاعتقاد الأميركي بأن أميركا هي: «الأمة المصطفاة من الله والمختارة من التاريخ. كم من مرة سمعنا القادة الأمريكان يعلنون أن الله معهم، أو أن التاريخ قد نادى على أمريكا لتتصرف». وفي النهاية فإن «ما يصلح لأمريكا يصلح لزوماً للجميع». والسبب التعريفي يتلخص في أن أميركا: «ليست فقط الدولة الوحيدة المفرطة القوة، بل أصبحت السلطة المرجعية للتعريف بالعالم. فهي التي تعرف ما هي الديموقراطية، والعدالة، والحرية، وما هي حقوق الإنسان وما هي التعددية الثقافية: من هو الأصولي، والإرهابي، والشرير. وباختصار تحدد المعنى الإنساني» (ضياء الدين سردار، وميريل وين ديفيز. لماذا يكره العالم أمريكا. الرياض: مكتبة العبيكان، 2005، الفصل السابع).هنالك إذن أسباب موضوعية وأسباب غير موضوعية لكراهية الولايات المتحدة في عالم اليوم، ولكن لنقلب السؤال هذه المرة، ونتساءل بدورنا: لماذا يكرهنا العالم؟ لماذا يتوجس العالم خيفة إذا ذُكر العرب أو ذُكر المسلمون، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، وازدياد النفور من كل عربي أو مسلم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟ قد ينبري البعض ويقول إن ذلك غير صحيح (أي نفور العالم من كل ما هو عربي أو مسلم)، أو أن المسألة بكاملها ليست في النهاية إلا صناعة أميركية، الغرض منها إيجاد عدو، حتى لو كان وهمياً، تبريراً للإنفاق العسكري الأميركي من ناحية، وتبريراً للمشروع الإمبريالي الأميركي بإنشاء إمبراطورية عالمية ذات تكوين أميركي. والحقيقة أننا لسنا بصدد مناقشة هذه الآراء أو غيرها، بقدر ما أن المهم هو محاولة البحث عن بعض المفاتيح لسؤالنا: لماذا ينفرون منا، بل ولماذا يكرهوننا؟في ظني، ولعل بعض ظني أو كله غير صحيح، أن هنالك أسباباً تفصل المسلم المعاصر عن عالمه، فتجعله في عالم لا ينتمي للعالم، وهي التي تقف وراء النفور منه، إن لم نقل كراهيته بشكل جلي أو خفي. ولعل من أهم هذه الأسباب تلك «الريبة» التي يحملها المسلم المعاصر (بالمعنى الزمني) تجاه العالم المعاصر (بالمعنى الحضاري). ريبة تجعله يتصور دائماً أن هذا العالم معادياً له: فهو ضد حضارته وثقافته وتاريخه ووجوده في أحيان كثيرة، فتكون ردة فعله هي حالة من العداء لهذا العالم قد تترجم أحياناً إلى أعمال رفض من كل نوع، أو تكون لجوءاً لعزلة خانقة تدفع بالطرف الآخر إلى إبداء ريبة متبادلة، فيكون التوتر بين الطرفين هو النتيجة. وسواء كنا نتحدث عن المسلم المعاصر في دياره أو في ديار هاجر إليها، هرباً من دياره وظروفها غير الإنسانية، فإن الريبة والشك والعزلة والعداء هي النتيجة في النهاية. هيمنة خطاب ديني أو قومي شعبوي في الديار، أسهم في نشر صورة للآخر على أنه لا يمكن إلا أن يكون عدواً ومتربصاً ومتآمراً: هكذا يقول التاريخ، وهكذا تقول الجغرافيا، وهكذا يقول الاختلاف العقدي، وهذا هو الأهم في مثل هذا الخطاب. لذلك فإن القاعدة في التعامل مع الآخر هي أنه «خبيث» حتى يثبت العكس. أما في ديار المهجر، فإن المسلم المعاصر يسلك تماماً مسلك اليهودي في غابر الأزمان: الانزواء شبه الكامل في حي لا ينتمي للمجتمع أو الثقافة المعاش وسطها، ورفض الاندماج في ثقافة المجتمع المُهاجر إليه، بل ومحاربة قيم مجتمع المهجر، والدولة التي أصبحوا فيها من المواطنين. أن يكون هنالك هوية خاصة للمسلم في البلد الذي هاجر إليه، مسألة واردة بل هي حق من حقوقه، كما هو حق جميع الأجناس التي تغادر ديارها لتستقر في ديار أخرى، ولكن أن تتحول هذه الهوية إلى حالة من الرفض المطلق لكل القيم والمنطلقات التي نشأت عليها تلك المجتمعات، واعتبار أن مواطنته تأتي لاحقاً لهويته، فهذا هو ما يخلق حالة الريبة المتحدث عنها بين المسلم وبقية مكونات مجتمعات المهجر.من ناحية أخرى، وإذا كانت أميركا تعتقد بأنها أفضل شعوب العالم ، فإن كثيرا من المسلمين يفترضون هذا أيضا عن أنفسهم، ووفقاً لخطاب ثقافي معين، بأنه مركز القيم الوحيد في هذا العالم، ولا قيمة لأية قيمة تُصنف على أنها نقيض ثقافتنا، حتى لو لم تكن كذلك في نهاية التحليل. ربما يرى البعض أن هذه هي حقيقة الأمر، وأنه لا نجاة للعالم إلا بسيادة الإسلام ( وفق فهم معين)، كما قد يرى بعض آخر أن مثل هذا الموقف ليس إلا ردة فعل على موقف الآخر الرافض والعدائي لكل ما هو إسلامي ومسلم، في صراع حضارات لا يُبقي ولا يذر، وقد يحلل البعض بالقول إن هذا الموقف ليس إلا نوعاً من آليات دفاع ذاتية يمارسها المسلم في عالم يرى بأنه فيه من العاجزين، وعلى مواكبته من غير القادرين، فيكون الرفض والإعلاء المفرط للذات هو الآلية الوحيدة التي تحفظ بعضاً من الكبرياء لهذه الذات، وشيئاً من الاعتداد بالنفس. ولكن مهما كانت الأسباب والتفسيرات، فإن ذلك لن يغير من الوضع السلوكي في النهاية شيئاً: الريبة والرفض، ومن ثم العداء والعدوانية، وفي الختام سيادة كراهية متبادلة ومزمنة. والخلاصة أننا قد نكرههم، وأميركا خاصة، لأسباب كثيرة خاصة بنا، منها ما هو موضوعي متعلق بالمواقف، ومنها ما هو وهمي متعلق بدفاع الذات عن نفسها، فكذلك هم يكرهوننا لأسباب عديدة خاصة بهم، منها الموضوعي المتعلق بموقفنا الثقافي بصفة عامة، ومنها الوهمي المتعلق بصورة نمطية ثابتة للعربي أو المسلم لا محرك لها، ولا حل في النهاية إلا بتخلي كل طرف عن أوهامه، ومن ثم يمكن الحديث عن الأسباب الموضوعية للكراهية، وبدون ذلك سنبقى ندور في ذات الدائرة المغلقة.[c1]مفكر وأكاديمي سعودي [/c]
لماذا نكرههم .. ولماذا يكرهوننا ؟!
أخبار متعلقة