في سنة ( 1045 هـ / 1635م ) بزغ نجم الدولة القاسمية في سماء اليمن السياسي التي أمتد حكمها لأكثر من مائتي عام واستطاعت في تلك الفترة التاريخية أنّ تلقي بظلها السياسي على غالبية الأقاليم اليمنية من نجران شمالاً إلى عدن وحضرموت جنوبا . ويذكر المؤرخون المعاصرون أنّ الأسباب الحقيقية وراء نجاح الثورة ضد العثمانيين وخروجهم من اليمن يعود إلى الإمام القاسم . ولكن مع الأسف العميق ، أنّ هؤلاء المؤرخين تجاهلوا تمامًا أو نسوا أنّ اليمنيين هم صناع الثورة الحقيقيون الذين ثاروا على الولاة العثمانيون الذين أكثروا في اليمن الفساد والمظالم ، فكانت لثورتهم العارمة الدور الكبير وخروج العثمانيين من اليمن سنة 1635م من ناحية وقيام الدولة القاسمية . [c1]الدولة العثمانية وهيبتها[/c] والواقع أنّ الأهداف الحقيقية التي كان يرمي إليها الإمام القاسم من قيام الثورة هو إنقاذ اليمنيين من الظلم الاجتماعي الواقع عليهم من قِبل عددٍ من الولاة ، وكبار الموظفين الجائرين الفاسدين الذين أثقلوا كاهل الناس بالإتاوات ، والجبايات وجعلوا حياتهم بائسة ويائسة . والحقيقة أنّ الظلم الذي استفحل أمره في اليمن وغيره من الولايات العثمانية ظهر بصورة بشعة بعد أنّ فقدت الدولة العثمانية المركزية في اسطنبول هيبتها بسبب الاضطرابات والقلاقل والفتن التي نخرت في كل مفصل من مفاصلها. بهذا تراخت قبضتها على ولاياتها التي خضعت لها في أوج قوتها ، فاستغل هؤلاء الولاة والموظفون الفاسدون فرصة انشغال الدولة العثمانية المركزية فأذاقوا اليمنيين صنوفاً من العذاب الأليم . وهذا ما دفع اليمنيين إلى التفافهم حول الإمام القاسم لكونه كان يمثل لهم رمز المقاومة ضد فساد وجور ومظالم الولاة العثمانيين في اليمن وإزاء ذلك حققت الثورة القاسمية في أولى مراحلها انتصارات باهرة أذهلت العثمانيين وحلفاءهم والولاة العثمانيين في مصر الذين كانوا يزودون العثمانيين في اليمن بالرجال ، والعتاد .وإذا كان الإمام القاسم المتوفى ( 1029هـ / 1620م ) مؤسس الدولة القاسمية ، فإن ابنه الإمام المؤيد محمد المتوفى ( 1054هـ / 1644م ) ثبت أقدامها ، وكانت أول دولة يمنية تحكم اليمن بُعيد خروج العثمانيين منها . [c1]مضمون اجتماعي [/c] ويذهب المؤرخون المحدثون إنّ الثورة القاسمية ، كانت في حقيقة أمرها ثورة ذات مضمون اجتماعي بكل معنى لهذه الكلمة ، فقد رفعت الثورة شعارات اجتماعية تتمثل في مقاومة الكثير من الولاة العثمانيين الضعفاء الجائرين ، وكبار الموظفين الفاسدين الذين فرضوا على اليمنيين الضرائب المتنوعة ، كالإتاوات ، والجبايات الفادحة وحولت حياتهم إلى قطعة من العذاب . وفي هذا السياق يقول الدكتور سيد مصطفى سالم ( نقلا ) عن أحد المؤرخين المصريين المعاصرين يصف أحد الولاة العثمانيين الذين كانوا في اليمن وتولى بعدها مباشرة ولاية في مصر وهو محمود باشا : “ وجاءت له التولية وهو مقيم بمصر ، فجعل الرشوة شعاره والظلم دثاره مع عدم إنصاف الرعايا “ . ونستخلص من ذلك أنّ اليمنيين قاموا بثورة ضد الظلم الاجتماعي الذي أحاط بهم من كل مكان . فقد كانت إذن ثورة اجتماعية في المقام الأول ويأتي الغرض السياسي في المقام الثاني . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم، قائلاً : “ . . . أنّ المضمون الاجتماعي لهذه الثورة ، كان هو الدافع الحقيقي إلى التفاف الأهالي حول الإمام القاسم حتى تم له انتزاع أغلب أقاليم المنطقة الشمالية من أيدي العثمانيين في غضون عدة أشهر فقط “ . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ ولا ينفي هذا كله الجانب السياسي لدعوة الإمام القاسم بل كان هذا الجانب ـــ الذي كان يستهدف أساسًا الاستيلاء على السلطة ـــ هو الغلاف الخارجي لهذه الدعوة ، وإنّ كان قد اتخذ شعارات دينية وذلك طبقاً لطبيعة هذا العصر “ . [c1]خطورة المسئولية[/c]
أسطنبول
وتذكر المراجع التاريخية إنّ الإمام القاسم بن محمد ، كان من أقوى الشخصيات التي ظهرت على الساحة السياسية اليمنية في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي . فقد كان يتحلى بصفات قيادية أهلته أنّ يخوض غمار حرب ضارية طويلة ومريرة ضد العثمانيين و حلفاؤهم من زعماء القبائل التي كانت تربطهما وحدة المصلحة على السلطة والنفوذ وعلى وجه الخصوص آل شرف الدين الذين تزعموا الثورة ضد العثمانيين في فترة سابقة في عهد الإمام شرف الدين المتوفى ( 960 هـ / 1588م ) ، وابنه المطهر المتوفى ( 980هـ / 1572م ) ـــ كما مر بنا ـــ . ولقد ذكر مؤرخو للدولة القاسمية الرسميين روايات عديدة مليئة بالمبالغات بأنه كانت هناك نبوءات ، وإرهاصات ، وكرامات تدل على ظهور منقذ اليمن وهو الإمام القاسم من مخالب ظلم الولاة العثمانيين وحكمهم الفاسد . والحقيقة لا نستطيع أنّ نطمئن إلى تلك الروايات لأنه من المؤكد أنها كتبت بعد أنّ استقرت أركان حكم الدولة القاسمية في اليمن وتحديدًا بعد خروج العثمانيين من اليمن , فمن المحتمل إنّ حكام الدولة القاسمية أوعزوا إلى هؤلاء الكتاب والمؤرخين أنّ يضيفوا على مؤسس الدولة هالة من المجد ، والفخار ، والهيبة . وكيفما كان الأمر ، فقد وصفت المراجع التاريخية بأنّ الإمام القاسم كان يتحلى بصفات الزعامة أهلته أنّ يمخر بسفينة الثورة في بحار من الأمواج المتلاطمة كالطود ، ويسلمها إلى أبنه الإمام المؤيد . والحقيقة إنّ الإمام القاسم كان عالما جليلاً ، يفيض بالعلم والمعرفة العميقين . وقد تتلمذ في مراحل تعليمه المختلفة على يد كبار العلماء والفقهاء الذين شهدوا له بالنجابة والنبوغ ، والرئاسة أيضاً . وتذكر المصادر اليمنية أنّ الإمام لم يكن يطمح إلى السلطة لذاتها بل كانت السلطة بالنسبة له وسيلة لرفع الظلم عن كاهل اليمنيين من قبل الولاة وكبار الموظفين العثمانيين الفاسدين وتلك ما أكدته الأحداث فعندما عرض عليه أنّ يقود الثورة ضد العثمانيين ، تردد لكونه كان يدرك إنّ تلك المسئولية مسئولية جسيمة وخطيرة ، وإنّ من نتائجها دماء ، وعرق ، ودموع ، وتضحيات جسيمة ولكن تحت إلحاح أتباعه ، والظلم الاجتماعي الرهيب الذي جثم على صدر اليمن اضطر أنّ ينزل عند رغبة رؤساء شيوخ القبائل والعشائر ، والأهالي ، فتحمل المسئولية الكبرى التي ألقيت على عاتقه وهي الوقوف بقوة وحزم كبيرين في وجه ولاة اليمن العثمانيين الجائرين ، فخاض غمار الحروب الضارية ضدهم ومن تحالف معهم ـــ كما قلنا سابقاً ــــ . [c1] وأد الثورة في المهد[/c] وفي الحقيقة إنّ الثورة في شرارتها الأولى كادت تطفأ جذوتها بسبب وجود والعثماني قوي وهو حسن باشا الذي كان ذا شخصية قوية وعسكرية صارمة ، فقد كان العثمانيون حينذاك مازالوا يملكون قوة عسكرية ضخمة في إمكانها محو أية تمرد يقف في وجههم . وهذا ما أكده سيد مصطفى سالم بأنّ الوالي العثماني حسن باشا عندما أدرك خطورة تلك الثورة اليمنية ، فإنه سرعان ما أرسل “ الجيوش والمعدات الوفيرة إلى المناطق الشمالية المختلفة قبل أنّ تسقط في أيدي الإمام “ . حقيقة إنّ الثورة القاسمية أو اليمنية في مطلع فجرها ، قد حققت انتصارات سريعة ومذهلة ، كانت مفاجئة لمناوئيها ، ولكن الوالي العثماني كان يملك الآلة العسكرية الكبيرة ـــ كما مر بنا ـــ بالإضافة إلى تحالف آل شرف الدين الذين وجدوا لظهور القاسم تهديداً صريحاً وخطيراً مصالحهم المادية ونفوذهم ، فعملوا بشتى السبل على وئد تلك الثورة والانقضاض عليها ، وقد كاد العثمانيون أنّ يمحقوا الثورة ودليل ذلك أنّ الإمام القاسم ، كاد أنّ يهم بمغادرة اليمن إلى العراق بعد أنّ ضرب على الثورة حصارا محكما من كل مكان . وكيفما كان الأمر ، فقد ذكرت المصادر اليمنية بأنّ القاسم أعلن إمامته في أواخر عهد الوالي العثماني حسن باشا وتحديداً في سنة 1597م . والحقيقة إنّ المراجع اليمنية المعاصرة تفيض بالحديث عن المعارك العنيفة الذي خاضها الإمام القاسم وأنصاره من جهة والسلطات العثمانية وحلفاؤهم من جهة أخرى . ولسنا هنا في صدد الحديث عن تلك المعارك الضارية التي نشبت بين الطرفين ، ولكن الذي يهمنا في ذلك الأمر هو أنّ نستخلص بأنّ الثورة اليمنية التي كان وقودها اليمنيون المظلومون الذي أنكوا بنيران الظلم الاجتماعي قد ، كان ساهموا مساهمة فعالة وكبيرة في خروج العثمانيين من ناحية و مهدوا لقيام الدولة القاسمية في اليمن ناحية أخرى ـــ كما مر بنا ـــ . [c1]اليمنيون صناع الثورة[/c]
عدن
ومن الوسائل المختلفة الذي استخدمها الإمام القاسم إلى جانب السيف أو القوة العسكرية في مواجهة الولاة العثمانيين الضعفاء الفاسدين ، وحلفائهم ، هو شرح أسباب الثورة التي قام من أجلها ضد الحكم العثماني في اليمن وذلك من خلال الخطابات والرسائل ، والكتب الكثيرة الذي كان يرسلها إلى رؤساء وزعماء مختلف القبائل ، والعشائر ، والأهالي والمناطق اليمنية ، من ناحية ومن خلال تلك الخطابات والكتب كان يبث فيهم روح الهمة والعزيمة في مواجهة هؤلاء الولاة الطغاة وكبار موظفيهم المفسدين . ويصف الدكتور سيد مصطفى سالم تلك الخطابات والرسائل والكتب التي كان يبثها الإمام القاسم إلى اليمنيين على تباين طبقاتهم الاجتماعية بأنها كانت بمثابة منشورات سياسية . وعلى أية حال كان لتلك المنشورات صدى كبيراً في تقوية عزيمة اليمنيين في مواجهة الولاة الظالمين الفاسدين ، وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ وقد اعتمد الإمام في بث دعوته على الخطابات والرسائل المطولة والكتب الكثيرة التي كان يرسلها إلى الأفراد والجماعات أو التي كان يوجهها إلى المسلمين عامة ،فهذه الخطابات ـــ التي كانت تشبه المنشورات السياسية في الأزمنة الحديثة ، والتي كانت تتلخص في الحث على الثورة ، وعدم الخضوع للعثمانيين نظرًا لفساد حكمهم وخروجهم على مبادئ الدين “ . ويمضي ً : “ وقد وجدت دعوة الإمام القاسم استجابة كبيرة لدى الكثيرين من أهالي اليمن الذين رأوا فيها تعبيرًا عن تذمرهم من سياسة العثمانيين وتصرفاتهم “ . ونستخلص من ذلك إنّ الإمام القاسم ، كان يمتلك رؤية تنظيمية واعية وعميقة حيث حارب العثمانيين وأعوانهم في اتجاهين متزامنين الاتجاه الأول هى المواجهة العسكرية أمّا الاتجاه الثاني المواجهة الإعلامية لفضح فساد الولاة العثمانيين وكبار موظفيهم من ناحية وتوضيح مبادئ ثورته والأسباب التي دفعته إلى الثورة من ناحية أخرى . [c1]تراث الكتابة التاريخية[/c] والحقيقة إنّ انتصارات الإمام القاسم في بداية ثورته تعود إلى أنّ أهالي اليمن ، كانوا في حالة سخط وغضب شديدين من العثمانيين ، وكانوا على استعداد إلى التمرد وشق عصا الطاعة عن الولاة العثمانيين الجائرين الذين أذاقوهم لباس الجوع والخوف فوجدوا بثورة الإمام القاسم رمز الخلاص من الظلم والظالمين . ويذهب بعض المؤرخين المحدثين بأنّ ثورة الإمام القاسم ما كانت تنتصر على العثمانيين بتلك القوة والسريعة لولا الدعم الكامل والشامل من اليمنيين ، فقد ، كانت ثورة اليمنيين قبل أنّ تكون ثورة الإمام القاسم ــــ حسب تعبير المؤرخ البريطاني Smith . Rــــ . وفي هذا المنوال يؤكد المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه ( بين التاريخي والفلكلور “ بأنّ كتاب سير الملوك ، والقياصرة ، والأباطرة ، و الحكام الرسميين يكتبون عن مناقبهم وأعمالهم في الحياة السياسية دون أنّ يلتفوا إلى فئات الناس البسطاء أو الشعب ودورهم الخطير في صنع الأحداث الكبرى التي غيرت مجرى التاريخ . وفي هذا الصدد ، يقول : “ والناظر في تراث الكتابة التاريخية ... يكتشف بسهولة ويسر أنّ المدونات التاريخية والحوليات والسير ؛ كلها تدور في فلك الملوك والحكام ، وأنّ الرعايا ، صناع التاريخ الحقيقيون غائبون عن صفحات تلك التسجيلات الرسمية .... وسنجد كتبًا كثيرة في تراث الأمم الإنسانية على اختلافها كرسها من كتبوها لهذا الحاكم أو ذلك دون أنّ يلقوا بالاً إلى الناس في حياتهم الاجتماعية ونشاطهم اليومي باعتبارهم القوة التي تحرك تاريخ البشرية “ . [c1]مراحل الثورة[/c] ويذكر الجرموزي مؤرخ سيرة الإمام القاسم ، بأنّ الثورة القاسمية أو اليمنية مرت بأربع مراحل ( 1597 ـــ 1635م ) على مدى قرابة أربعين عامًا . الأولى إعلان الدعوة وخروجه من ( شهارة ) إلى جبال ( برط ) ، وأما الثانية خروجه من برط ، وانعقاد الصلح بينه وبين سنان باشا ـــ أحد القادة العثمانيين الكبار ـــ ثم الوالي العثماني جعفر باشا ، والثالثة خروجه على جعفر باشا بعد موت الوالي إبراهيم باشا ، والرابعة خروجه على محمد باشا ، ويعقبها وفاة الإمام القاسم . ويضيف الدكتور سيد مصطفى سالم إلى جانب تلك المراحل الأربع الذي ذكرها الجرموزي إلى مرحلة أخرى والتي تمثل عهد الإمام المؤيد ابن الإمام القاسم والذي تولى الإمامة بعد وفاة والده والذي على عهده خرج العثمانيون سنة 1635م ، وثبت دعائم الدولة القاسمية في أرض اليمن الذي امتد حكمها نحو أكثر من مائتي ( 1635 ـــ 1849م ) . [c1]انقطاع الجسور[/c] ومن الأسباب الأخرى التي ساعدت على نجاح الثورة القاسمية بتلك الصورة السريعة في مراحلها الأولى تعود إلى حدوث شروخ خطيرة وعميقة في بنيان العثمانيين أنفسهم باليمن بسبب المؤامرات والدسائس والمكائد التي كان يحيكها كبار القادة العثمانيين فيما بينهم ما كان آثار سلبية وخطيرة على فقدان هيبة وقوة السلطنة العثمانية أمام اليمنيين ، فتجرؤوا على منازلتها وقتالها والقيام بالثورة ضدها وأدى بالتالي إلى انكماش العثمانيين في مناطق كثيرة من اليمن ، وقد انحصروا في زبيد والمناطق المحيطة بها ومن العوامل المهمة التي لا تقل خطورة عن العوامل الأخرى الذي ذكرناها قبل قليل وهي أنّ الدولة العثمانية نفسها في استانبول ـــ كما مر بنا ـــ كانت تعاني من أوضاع سياسية واقتصادية وعسكرية صعبة , كما أنّ خطر الأسطول البرتغالي في السواحل اليمنية ، قد زال وتحديدًا في النصف الأول من القرن ( 17م ) كل تلك العوامل أدت إلى تراخ قبضت اهتمام العثمانيين باليمن كما كان عليه الحال في بداية الفتح الأول لها سنة 1538م . ويذكر أحد القادة العسكريين العثمانيين في استانبول بأنّ اليمن صارت نسيًا منسية من على خريطة عناية السلطنة العثمانية . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى انقطاع جسور اهتمام الدولة العثمانية باليمن . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، قائلاً : “ . . فيجدر الإشارة إلى أنّ ضعف سيطرة العثمانيين في اليمن ، واضطراب أحوالهم به في هذه الفترة ،لم يكن هو العامل الوحيد الذي ساعد على نجاح الثورة اليمنية ، بل كان اضطراب أحوال الدولة العثمانية نفسها حينذاك ، وانشغالها في المنازعات الداخلية وفي الجبهات الخارجية وخاصة في العراق ، ثم ضعف البحرية البرتغالية في البحار الشرقية ، وظهور منافسين أوربيين لها في هذه البحار مثل إنجلترا وهولندا ، كان هذا كله من أهم العوامل التي جعلت العثمانيين لا يستطيعون مساندة ولاتهم في اليمن والمساندة الكافية ، ولا يفكرون في استعادة اليمن بعد أخراجهم منها “ . [c1]الإمام المؤيد[/c] وبعد وفاة الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية الذي خاض غمار حروب ضارية وطويلة مع العثمانيين وحلفاءهم من آل شرف الدين ، وأبناء المطهر بن الإمام شرف الدين تولى الإمام بعده ابنه محمد الذي لقب بالإمام المؤيد . وتذكر الروايات التاريخية بأنّ القبائل قد أجمعت على مبايعته بالإمامة ، وهذا دليل واضح على وحدة صف اليمنيين أمام العدو المشترك الذين ضاقوا ذرعًا بالولاة العثمانيين الجائرين الفاسدين . وكان يرى الإمام المؤيد أنه من الضرورة بمكان قبل الخوض غمار القتال مع العثمانيين مرة أخرى عليه أنّ يرتب شئونه دولته الداخلية ويثبت دعائم حكمه بها . وكيفما كان الأمر، فقد تمكن الإمام المؤيد بعد سنوات من مبايعته للإمامة أنّ يحقق انتصارات واسعة وخاطفة على القوات العثمانية التي أخذت تنكمش إزاء الضربات المتلاحقة والخاطفة من اليمنيين ، ما دفع العثمانيين أنّ يتجمعوا في زبيد والأقاليم المحيطة بها . وقد هال العثمانيين في مصر ما يحدث من هزائم وخسائر فادحة بين صفوف العثمانيين وعلى الرغم من مساعدات الولاة العثمانيين في مصر للعثمانيين في اليمن ، فقد باهتة نظرًا لضعف الدولة العثمانية نفسها في اسطنبول ، وعلى أية حال ، فقد كانت مواقع العثمانيين تسقط الواحد تلو الآخر بيد اليمنيين . وكان العثمانيون لا يستطيعون التحرك إلا في مساحة ضيقة تمتد من زبيد وحتى المخا . [c1]ما معنى السيطرة على عدن ؟[/c] كانت عدن الميناء التجاري الهام الذي يطل على البحر العربي وهمزة الوصل بين الشرق والغرب تمثل للإمام المؤيد موقع استراتيجي هام وخطير فركز كل قواته على الاستيلاء عليها بأي ثمن ، لأن التاريخ يقول : من يقبض على زمامها يسيطر على القبائل أو بمعنى آخر تدخل القبائل طوعية في حوزته ونفوذه. وهذا ما حدث بالفعل مع سلاطين بني طاهر الذين استوعبوا تلك الحقيقة مفادها بأنّ السيطرة على عدن تعني خضوع القبائل لحكمهم . وهذا ما أكده الدكتور محمد صالح بلعفير ، قائلاً : “ أنّ السيطرة على عدن ، كانت في حد ذاتها الفيصل لإثبات المقدرة على استحقاق السلطنة ، بحيث أصبحت القبائل لا تنقاد لأحد من بني طاهر إلا إذا كان مسيطرًا على تلك المدينة متصرفًا في أمورها “ . “ ... وتم للإمام المؤيد في خلال عامين فقط من مد سيطرته إلى أقاليم اليمن المختلفة بما في ذلك ( صنعاء ) ، وتعز ، ولم يبق في أيدي العثمانيين سوى ( زبيد ) والأقاليم التهامية المحيطة بها”. [c1]الضربة الأخيرة [/c] لم يملك الوالي العثماني في اليمن قنصوه باشا الجديد خيارًا بسبب الخسائر الفادحة الذي لحقت بالقوات العثمانية من قِبل اليمنيين سوى أنّ يطلب من الإمام المؤيد إبرام صلح لمدة سنة ، ولقد وافق الأخير على ذلك الصلح . والحقيقة أنّ الإمام المؤيد كان له نظرة ثاقبة عندما وافق على تلك الهدنة أو الصلح لمدة عام لغرض ترتيب بيته من الداخل وتثبيت أركان حكمه ـــ كما قلنا سابقاً ـــ حتى يكون على استعداد تام في توجيه الضربة الأخيرة للعثمانيين ، فقد كان الأخيرون في الرمق الأخير من قوتهم ، فالاضطرابات والمنازعات والانقسامات والفوضى ضربت أطنابها في صفوفهم فصارت مقاومتهم هشة وضعيفة . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، فيقول : “ فقد قام الحسن ( أخو الإمام المؤيد ) بجولة كبيرة في أنحاء البلاد لتفقد أحوالها ، ولإصلاح الحصون ، والقلاع وتوفير ما يلزم من السلاح والعتاد ، ولجمع الجيوش الغفيرة من الأقاليم المختلفة . وكذلك اهتم الحسن بالقضاء على الاضطرابات التي نشبت حول (( عدن )) . ويمضي في حديثه ، قائلاً : “ ومن ناحية العثمانيين ، فقد تكررت مظاهر الفوضى والاضطرابات بين صفوفهم مما كان يضعف من قوتهم في هذه الفترة العصيبة من تاريخهم في اليمن “ . والحقيقة لقد كان خروج العثمانيين في اليمن كانت مسألة وقت وبالفعل لم يمضِ وقت طويل حتى رحل العثمانيون من الديار اليمنية . [c1]ورحل العثمانيون[/c] وفي سنة 1043هـ / 1633م تجددت المعارك الضارية بين العثمانيين واليمنيين ، فقد حاول الأولون فك الحصار المضروب عليهم ولكن محاولتهم باءت بالفشل الذريع . وحاولت سفينتان محملة بالجنود العثمانيين السيطرة على عدن ولكنها لم تحقق أهدافهما ، وعادات أدراجهما ، وأرسل العثمانيون حملة أخرى إلى ( جيزان ) ولكنها فشلت أيضًا . وكيفما كان الأمر ، فقد تقهقرت القوات العثمانية إلى زبيد ، والمخا , وكان التعب والإنهاك أخذ كل مأخذ من العثمانيين. وتذكر المصادر التاريخية بأنّ الوالي العثماني أحمد قانصوه باشا ، قد فر إلى معسكر الحسن بن القاسم بعد أنّ لأي ولمس الهزائم تلاحقه وتلاحق قواته ، وأنّ موقفه بات ضعيفاً ، وأنّ الجنود صاروا يتمردون عليه ما دفعه إلى الهروب إلى معسكر الحسن . “ . . . وقد أكرم الحسن وفادة قانصوه باشا ، حتى غادر اليمن”. وكان من نتيجة أو نتائج هروب الوالي العثماني أحمد قانصوه باشا إلى معسكر الحسن عواقب وخيمة وخطيرة على الجانب العثماني حيث زادت الاضطرابات والفوضى في صفوفهم . وعلى أية حال ، فقد أختار الجنود الأمير مصطفى الكتخدا لتنظيم شئونهم . ولكن لم يمض وقت قصير حتى طلب الأخير “ عقد الصلح مع الحسن بن القاسم على شرط أنّ يغادر هو وجنوده اليمن سالمين إلى مصر ، فتم خروج العثمانيين في العشر الأوائل من شهر جمادي الأولى سنة 1045هـ ( 22 أكتوبر 1635م) وبذلك فتحت صفحة جديدة من صفحات تاريخ اليمن الحديث . [c1]الهوامش : [/c]دكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن 1538 ـــ 1635م ، الطبعة الخامسة نوفمبر 1999م ، دار الأمين للطباعة والنشر ، القاهرة ــ جمهورية مصر العربية ـــ .الدكتور قاسم عبده قاسم ؛ بين التاريخ والفلكلور ، الطبعة الثانية 2001م ، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ـــ جمهورية مصر العربية.دكتور محمد صالح بلعفير ؛ العملة والتداول النقدي بعدن في عصر الدولة الطاهرية ، مجلة سبأ ، العدد (14 ـــ 15) جمادي الآخرة 1428 هـ / يوليو 2007م.* هو الإمام القاسم بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن الرشيد بن أحمد بن الحسين بن علي بن يحيى بن محمد بن يوسف بن القاسم بن المختار بن يوسف يحيى بن الناصر بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ( يحيى بن الحسين : أنباء أبناء الزمن في تاريخ اليمن ، ص 141 ؛ الجرموزي : سيرة الإمام القاسم بن محمد . نقلا عن هامش كتاب ( الفتح العثماني الأول في اليمن ) للدكتور سيد سالم مصطفى ، ص 357 . دار الأمين للطباعة والنشر ـــ مصر ـــــ .