.jpeg)
الشخص، أو الحكواتي الثاني الذي سمعت منه القصص والحكايات، وأنا بنفس العمر الصغير، كانت جدتي “ابوللونوح”، كانت هي الأخرى حكائية بامتياز، سيدة إفريقية ريفية، تربي الماشية في مزرعتها، وتزرع الذرة الشامية والقمح، وفي الليل تجمعنا واخوتي حول النار وتحكي لنا حكايات تقشعر لها الأبدان، ومع كل مانشعر به من خوف، كنا نطلب منها بإلحاح في الليلة التالية ولليال طوال أن تعيد لنا حكايتها من جديد .
من هذين الجدين الرائعين الحكائيين، أحببت القصص والحكايات وتعلقت بها قبل أن أعرف القراءة والكتابة، والطريق إلى الكتب والمكتبة، والسبيل إلى القصص العالمي، والموروث العربي من الحكايات والروايات الحديثة في مكتبة أخي محفوظ التي جلبها من عدن إلى بيتنا الطيني في الديس الشرقية بحضرموت، خلال عمله فيها، وكانت كثيرة جداً، ولكتاب من الشرق والغرب، ومع ذلك قرأتها كلها قبل أن أكمل الابتدائية. ثم أصبحت القراءة وقراءة القصص والروايات على وجه أخص عادة عندي لم تفارقني حتى اليوم وقد تجاوزت السبعين من عمري ببضع سنين !
في البداية كنت أقرأها للمتعة، لكن بعد ذلك أصبحت سبيلي لمعرفة تاريخ الشعوب السياسي والاجتماعي، وطبيعة الصراعات وخفايا النفس البشرية وتعقيداتها، كما وجدت في الكثير منها الحكمة التي هي خلاصة تجارب البشرية ولا يخلو منها اي مجتمع إنساني في اي مكان في العالم .
وكانت فرصة طيبة لي أن ألعب دور الحكواتي عندما طلب مني عمي سالمين ذات ليلة من ليالي رمضان المبارك أن أقرأ له بعض الكتب التي كان يحتفظ بها بين ثنايا ملابسه . وكان ذلك في فترة مبكرة من حياتي. فلعبت دور الحكواتي، ولكن فقط في شهر رمضان، ولعمي سالمين بحاح رحمه الله وثلة من اصدقائه من كبار السن ممن تستهويهم الحكايات الشعبية، فكنت اقرأ لهم كل ليلة عقب صلاة التراويح قصص عنترة بن شداد، والزير سالم، والف ليلة وليلة، وابو زيد الهلالي، من كتب عتيقة كان يحتفظ بها عمي سالمين في الغرفة التي يستخدمها لغسل وكي الملابس .
وكنت ابدأ قراءة الحكايات كل ليلة بتلك الجملة السحرية الوحيدة كأي حكواتي : “كان ماكان ياسعد ياكرام في سالف العصر والأوان. ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه السلام” . وكانت كافية لأن تدخل عمي واصدقاءه في أجواء الحكاية وأحداثها الكثيرة ليلة بعد ليلة.
وكان عمي هذا قد سمع هذه القصص مني ومن غيري ممن سبقني إلى القيام بدور الحكواتي لديه طوال سنوات، إلى درجة أنه حفظها عن ظهر قلب، ولكنه مع ذلك لم يكن يمل منها على الإطلاق، فكان يستدعيني كل رمضان لاقرأ له وصحبه تلك القصص. وكنت أجد نفسي أسعد إنسان كل مساء عندما أجدهم مستمتعين بما أرويه لهم أشد الاستمتاع ومنفعلين بالأحداث إلى درجة شديدة، وكنت أنفعل بتطور المواقف والصراع إلى درجة كنت أجد نفسي اصرخ منفعلاً في بعض الأحيان، ولا أجد نفسي أعود إلى وضعي الطبيعي إلا عندما اسمع عمي أو أحد صحبه يقول لي : ( أعد..أعد) . وكان دوري كحكواتي ينتهي في اليوم الأخير من رمضان وإعلان عيد الفطر المبارك . وقد افادتني تلك التجربة كثيراً في السنوات اللاحقة بعد أن صرت اكتب القصة القصيرة، ومن ثم الرواية. لكن هذا الدور لم يعرفه غير عمي سالمين وصحبه وظل سرنا الصغير ..والآن انتم تعرفونه.