بالأمس، عاد قريبٌ لي من لبنان، ولدى سؤالي عن انطباعاته قال لي إن آخر ما يهتمّ به اللبنانيون ويتابعونه هذه الأيام.. الجدل في السياسة، وأقلّ البرامج التلفزيونية متابعةً وموثوقيةً النقاشات السياسية. وكنت قد سمعت كلاما مماثلا من صديق مكث في لبنان فترة امتدت لبضعة أشهر.. وخلص إلى الحصيلة ذاتها.
تفسيري لهذه الظاهرة، وأرجو ألا أكون مخطئا، يقوم على بضعة اعتبارات، أبرزها:
1 - انهيار ثقة المواطن اللبناني العادي بنخبه السياسية وانصرافه عنها، وهذا من دون أن يفقد بالضرورة غريزة التعصّب الفئوي لشعارات هذا السياسي، أو مزاعم ذلك «الزعيم»، أو ما بينهما من تحريض قادة دينيين تناسَوا واجباتهم تجاه الله.. واحترفوا السياسة بأبشع مظاهرها. وحقا من تابع ويتابع، بالحد الأدنى من الجدّيّة والمحاسبة، المشهد العام في مرحلة ما بعد «الطائف».. لا بد أن يفقد ثقته بالسواد الأعظم من المتاجرين بشعارات الوطنية والقومية والنضال والمقاومة.
2 - وجود حالة عامة من اليأس والإحباط التي تجذّرت في مناطق واسعة من المشرق العربي، كنتيجة طبيعية لانعدام التنمية الحقيقية والمواطنة والحكم الرشيد في ظل أنظمة ديكتاتورية متخلّفة. وكان من أخطر ما في «كيمياء» هذه الديكتاتوريات استقواؤها طويلا بسلاح الفئوية (الدين والطائفة والعِرق والمنطقة.. إلخ)، أحيانا من دون أن تتحسّب لردة فعل فئوية مضادة، وأحيانا أخرى من دون أن تكترث لاحتمال حدوث ردة فعل. ولكن في حالات معينة، هي الأسوأ، كانت تتعمّد استنهاض ردّات تقوم على التطرّف والإقصاء والإلغاء.. لكي تبرّر لهذه الديكتاتوريات إجرامها. والحالة السورية، التي تُمثّل مآسيها فصولا منذ أكثر من ثلاث سنوات، تجسيد ناطق لتعمّد استنهاض تطرّف ظلامي غبي.. لتحسين صورة تطرّف ماكر خبيث.
3 - اكتساب الواقعية السياسية مسحة من الانهزامية وشعورا بالعجز، إزاء تآمر إقليمي وتواطؤ دولي ما عاد بمقدور أي عاقل نفيهما. ففي المشرق العربي، شئنا أم أبينا ثلاثة مشاريع متنافسة، ولا أقول متناقضة، وكلها قديمة - جديدة. هي المشروع الإسرائيلي والمشروع الإيراني والمشروع التركي.
المشروع الإسرائيلي معروف في معظم جوانبه منذ 1948، ويقوم على تصفية قضية فلسطين نهائيا، وإجهاض كل إمكانيات التقدّم والتحوّل إلى مجتمعات مدنية وديمقراطية في الدول المحيطة بإسرائيل. وإسرائيل ماضية قدُما في خلق بيئات محتقِنة ميّالة إلى التعصّب والتطرّف، ونسف فرص أي سلام حقيقي يستند إلى العدالة والتعايش. وهي، بسياساتها المتطرّفة خلال العقدين الأخيرين أسهمت عن عَمْد ودهاء أو عنجهية غبية وقاصرة، في إعطاء حركة حماس صدقية كبرى على الساحة الفلسطينية، وكذلك حزب الله على الساحة اللبنانية. وهي تعطي اليوم نظام بشار الأسد في سوريا «المحتلة» شهادات حسن سلوك من مراهقي الليبرالية و«العروبة» واليسار الدوغماتيكي الأخرق.. على امتداد العالم العربي.
المشروع الإيراني أيضا انكشف، ولو متأخرا، بعدما أنجز هيمنته على مقدّرات ثلاث «دول عربية فاشلة» هي العراق ولبنان وسوريا، وهو يطمح إلى المزيد. ولقد ساعدت سياسات الرئيس الأميركي باراك أوباما الشرق أوسطية ليس فقط في كشف هذا المشروع، بل في الكشف عن وجود رغبة في التعايش والتعاون معه. وهنا لا بد من القول إن خدمة هذا المشروع بدأت- عراقيا على الأقل - بدعم المعارضة الطائفية العراقية، وكان وراء الدفع باتجاه إسقاط حكم صدام حسين عبر الاحتلال عام 2003 «تقاطع مصالح» لافت بين مشروع إيران المتمدّد في المشرق العربي مرتديا زيّ «الشيعية السياسية» وفكرة «تحالف الأقليات» الإسرائيلية - الغربية القديمة. واليوم أمام مهزلة التأييد الكلامي الأميركي للثورة السورية، يطالعنا كلام الجنرال يحيى رحيم صَفَوي، مستشار المرشد الإيراني للشؤون العسكرية والقائد السابق لـ«الحرس الثوري»، عن أن نفوذ بلاده تمدّد ليصل إلى البحر المتوسط وأن «خط دفاع إيران أصبح في جنوب لبنان»! وهنا القصد واضح. إيران اليوم تحتل لبنان وسوريا، وهي تتاخم إسرائيل، ومن ثَم مطلوب التعامل معها كشريك و«جار».. وربما كحليف أيضا في وجه «التكفيريين»!
ونصل إلى المشروع التركي، الذي يتمثّل اليوم - وفق منتقديه- باستحضار شكل من أشكال الهيمنة تحت ألوية شرعية «الخلافة» العثمانية وحماية أهل السنة والجماعة. غير أن الأزمة التي يعاني منها هذا المشروع افتقاره للنفس الطويل والقدرة على ممارسة التقيّة. ولعل من المفارقات أن تستفيد إيران «الشيعية» من فترة حكم الإخوان في مصر في تدعيم وضعها سوريا، واستغلالها لفترة غير قصيرة التنظيمات الإسلامية الفلسطينية، في حين فرّط رجب طيب إردوغان بفرصة الظهور كـ«منقذ للسنة» في أول اختبار لزعامته - عربيا- بعد سقوط رئاسة محمد مرسي. وما لم ينضج فهم أنقرة لطبيعة دورها، وما تستطيع فعله، وما هو مسموح لها التصرّف فيه، خلال فترة قريبة, فإنها ستجد نفسها خارج اللعبة.
لقد ارتبط تنامي الحضور «الجهادي» - أو «التكفيري» - بسقوط حدود سوريا مع جيرانها. ومع أن نظام الأسد حمّل لبنان وتركيا المسؤولية الأكبر في تسهيل وصول «التكفيريين»، فإن رعاته في طهران لم يذهبوا بعيدا في الحرب الكلامية ضد أنقرة «السنّية» مفضّلين خلق حقائق ميدانية على الأرض. ومن هنا كلّفت فصائل «الحرس الثوري» اللبنانية والعراقية والإيرانية وغيرها بالسيطرة على حدود لبنان، وترك أمر الحدود مع تركيا لجماعة «داعش» ومثيلاتها من فصائل «الطابور الخامس».
كيف سيتبلور المشهد الآن؟
في ما تبقّى من سوريا ترشّح بشار الأسد مجددا للرئاسة فوق الأنقاض والجثث.. وسيربح.
وفي عراق الهيمنة الطائفية ترشح نوري المالكي مجددا.. وأيضا، ما لم تحدث مفاجأة، سيربح.
فهل يترجم تقاطع المصالح الإيراني - الإسرائيلي - الأميركي نفسه بالإتيان بنسخة لبنانية للأسد والمالكي؟.. ميشال عون مثلا؟