كان ذلك في الساعة الخامسة والعشرين، وبالأحرى في الوقت ما بعد الضائع حينما كان من الضروري اتخاذ القرارات الصعبة والمؤلمة، وبعد أن سلم الفرقاء بعجزهم وفوضوا بنعمر لاقتراح صيغة وثيقة حلول وضمانات «القضية الجنوبية» بالانطلاق من قراءته للخيارات والرؤى المطروحة أمامه والمقدمة من كافة الفرقاء، وبدلا من مقاربة النص بالتفنيد والنقد استهدفوا الشخص بعدوانية همجية.
يقولون في الصباح كلاما لينقضوه في المساء.
كان بمقدور الفرقاء الموافقة على الوثيقة والتوقيع على مشروعها، كما كان بمقدورهم الاعتراض عليها وحتى رفضها بالجملة من دون زيادة أو نقصان أو بهتان بحق بنعمر والنهش فيه، لكن ما حدث كان هو العكس من المأمول والمفترض وذلك ما عكس بصدق وأمانة حالة التقلبات الحرباوية التي تسم من يقولون في الصباح كلاما لينقضوه في المساء، ومن يقولون كلاما قبل اعتلاف «القات» ليقولوا غيره بعد نجع العلفة، ويقولوا كلاما في الجلسات المفتوحة ليقولون نقيضه في الغرف المغلقة، ويقولون على الطاولة كلاما ومن تحتها كلاما آخر و....الخ.
لقد تبدى جمال بنعمر في مطلع استهلاله لمهمته في صورة المخلص والمنقذ في نظر معظم اليمنيين الذين شعروا أن بلادهم كانت على مشارف التبدد والاندثار بعد أن بلغ الانسداد أوجه، وانفجر الاحتقان بأبشع صوره، وانقسمت العاصمة بين المتقاتلين وعلى غرارها كانت أحوال بقية الأرجاء اليمنية.
ليس في أمر الوصاية غرابة
باستثناء النفر الضئيل المرتاب من خلفياته اليسارية القديمة والنفر المتوجس، كالعادة، من كل قادم من وراء البحار والغرب خصوصا كان ثمة إجماع كبير وترحيب حار ببنعمر الذي جاء على خلفية عجز اليمنيين؛ ما استدعى الوساطة والوصاية - إن شئتم التعبير- وليس في أمر الوصاية غرابة أو ما يستوجب الاستنكار لأنها تفرض عادة على القُصر وذلك ما ينطبق على فرقاء السياسة في اليمن فهم قصر بامتياز والشاهد على ذلك انهم تدافعوا ذات يوم متهافتين على بركات ونفحات الملك السعودي وتسابقوا على الفوز برضاه - مع استثناء بعض المحترمين - والتوقيع على «المبادرة الخليجية» بين يديه والاستماع لنصيحته بالكف عن الأحقاد ونبش الماضي.
يومها كانوا على درجة فادحة من التصاغر المهين والمستكين، وعادوا إلى الديار بـ«مبادرة» ترعاها المملكة العربية السعودية بالدرجة الأولى، زعيمة الرجعية العربية - سابقا - وفوضوا أمر هندسة المبادرة وصياغة مفرداتها ورعايتها وتنفيذها لمجلس الأمن الدولي ودول الغرب بزعامة رأس حربة الامبريالية العالمية: أمريكا.
اليوم صار جل هؤلاء يستنكرون الوصاية الدولية، ويلوذون بأقبح أشكال التعبوية الشعبوية ضدها ويتكالبون على الجدار القصير: جمال بنعمر.
لماذا صار الحوار مثل الحجر الأسود الذي يرشق بالحجارة؟
لم ينصرم الكثير من الوقت على توقيع المبادرة واستعادة الأنفاس وتباشير الانفراجة التي لاحت مع بدء الحوار، حتى صار الفندق الذي تنعقد فيه جلسات مؤتمر الحوار مثل الحجر الأسود ومجسم الشيطان الذي يرشق بالحجارة من قبل تنظيم «القاعدة» وكتائب الانترنت وميليشيات الفسبكة والقبائل المتناحرة ورهط من الأكاديميين والناشطين، الذين لم يستوعبوا في طاولة الحوار، والرئيس السابق وأبواقه وكافة جياع التاريخ والبطون ممن يلعب بهم ذلك الشيء الذي يلعب بحمران العيون: المال.
باستثناء قلة نادرة لم يقترح جل أعداء الحوار بديلا ولم يخضعوا المبادرة لمشرط التعديل والتبديل والتوسيع، وكانت عدوانيتهم العبثية والمجانية للحوار لا تستبطن أي شيء آخر غير دعوة الجميع إلى الحرب على الجميع، والحرب بما هي مجال الاستثمار الأمثل للقبائل و«القاعدة» وتجار السلاح والمهربين والإرهابيين وجنرالات الحرب.
الدفاع عن «الوحدة»
على مدى أكثر من تسعة أشهر خاض بنعمر في نقاشات وسجالات ماراثونية مع الحراك بمكوناته الثمانية المرشحة للتكاثر، ومع الحوثيين ومع الرئيس السابق والشباب والمرأة والسلفيين. وكان عليه أن يصغي لشتى ضروب الهذيان ويحتمل التجشؤات والتقيؤات والنزوات والفلتان والمطالب الصبيانية والتطلعات الشيطانية لكل من يريد إمارة أو مقاطعة أو وزارة و...، كان عليه أن يستمع لآراء أصحاب «القضية الجنوبية» والحراك الذي صار حراكات، وأصحاب «القضية المأربية» و»العصبة الحضرمية» و«الحوثيين» والسلفيين والقبائل، وكان عليه أن يتحلى بصبر جمل ويعاين الأمور بعين ما يكروسكوبية تحيط بالصغائر وتتقصى منعرجات المنحدر وتذرر القوى وانشطاراتها ومزق التاريخ ونتف البلاد والمقاطعات والمناطق التي خرجت عن نطاق سيطرة سلطة صنعاء وصارت تحت قبضة سلطات وقوى الأمر الواقع من «القاعدة» في أبين وشبوة والبيضاء، والحراك المسلح في الضالع وغيرها، والحوثيين في صعدة وأرجاء واسعة من المثلث الزيدي و....الخ.
المفارقة أن اليمنيين هبوا هبة رجل واحد غيور على «الوحدة اليمنية» وكأنها قائمة بالفعل وذلك هو شأن كل عبدة الأوثان والخرافات بما فيها خرافة الوحدة التي تنهض كل الشواهد والوقائع لتقول بعكسها تماما، فعلى أية وحدة يتباكى كل هؤلاء؟!
وجد نفسه يخوض في حقول من الشوك والنار والألغام
عموماً كان حظ بنعمر بائساً وتعيساً وقد شاءت له الأقدار أن يقضي ربيع أيامه وعمره في أسوأ سجون المملكة المغربية «تارامازات» بسنوات الجمر، وأن يقهر ذاته وينتصر عليها ويتعلم وهو يقبع في أسوأ زنزانة وأن يقامر ويغامر بنفسه لينجو برأسه بالهرب سباحة في عباب محيط هائج إلى شواطئ الغرب، وانتهت به الأقدار إلى أن يصبح خبيرا مرموقا وكبيرا في الأمم المتحدة من غير أن يدور بحسبانه أنه سيأتي على اليوم الذي يكون فيه باليمن ليخوض في حقول من الشوك والنار والألغام ويسبح في خضم أمواج هائجة وبين أسماك القرش المفترسة من غير أن يدري كيف ينجو برأسه.
يستحق «جبر الضرر» والاعتذار والتعويض
في اليمن أصبح وضعه أصعب مما كان عليه وهو في الزنزانة حين كانت الأمور أسهل وكان الزمن غير الزمن.
كل واحد في هذه البلاد صار يقيس بنعمر بمسطرته الخاصة وينظر إليه بمرآته وإذا ما خرج عن ذلك فهو مرذول ومذموم ويستحق اللعنة.
ولأنه أراد الاحتفاظ بمسافة واحدة من الجميع، واحتفظ لنفسه بحق أن يكون بنعمر مع أنه من البشر يخطئ ويصيب وغير منزه من التحيزات.
لأنه أراد أن يكون هو، وأن يلتزم لمقتضيات منطق التوافق قدر الإمكان فقد تكالبت عليه السكاكين من كل صوب.
***
لو كنت بنعمر لطالبت مجلس الأمن الدولي باعتذار مكتوب وتعويض منصف على ما لحق بي من إصابات بليغة جراء معاقبتي بتعييني وسيطا بين اليمنيين، وطالبت مجلس الأمن باتخاذ إجراءات فورية بشأن تأمين حمايتي وتدبير إقامتي في كوكب آخر بعيداً عن الشتامين النهاشين.
بنعمر يستحق قبل غيره «جبر الضرر» والاعتذار والتعويض من قبل مجلس الأمن الدولي والغالبية من اليمنيين الصامتين!
عن صحيفة (الأمناء)