ومنذ أن احتل الساميون مصر قبل خمسة آلاف سنة وهي تتعرض لموجات متلاحقة من الاستعمار، جعلها تُحكم من قبَل قوى أجنبية متلاحقة، لكنها في المقابل صدّت موجات كثيرة حين كان أهلها متماسكين، أو ملتفين حول سلطة عادلة منجزة، أو كان لديها قدرات تمكنها من حيازة المنعة ومقاومة الغزو. فالمغول كسرهم المصريون في عين جالوت، والموجات الصليبية المتلاحقة هُزمت على أيديهم سواء في الشام أو فوق الأراضي المصرية، ولم تتمكن الحملة الفرنسية من الاستقرار في مصر بعد أن غزتها سنة 1798 سوى ثلاث سنوات، وفشلت حملة فريزر الإنجليزية في غزو مصر سنة 1807، وأخفق العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بعد تأميم عبدالناصر لقناة السويس في إثنائه عن قراره أو إسقاطه، وخاضت المقاومة الشعبية في هذه الحرب وفي حرب الاستنزاف عقب هزيمة 1967 وأثناء حرب أكتوبر 1973 المعارك إلى جانب القوات المسلحة، فمنعت العدو من أن يحقق أهدافه.
وقبل هذه التواريخ بآلاف السنين، تمكّن أوني من طرد الساميين ومطاردتهم حتى بلاد الشام، وحرر أحمس مصر من الهكسوس، وحررها رمسيس من الحيثيين. وحتى القوى الاستعمارية التي تمكنت من دخول مصر، سرعان ما آمنت أن لهذا البلد خصوصيته، ولذا تركت له قدراً من الحرية في تصريف أموره، وضعفت أمام قوته الحضارية الطاغية فانطبعت وتأثرت بها، ولهذا رُفع عبر التاريخ شعار «مصر مقبرة الغزاة».
هذه القراءة المختصرة لتاريخ مصر ضد «الاستغزاء» قد تصلح أمثولة لشحذ همم المصريين المعاصرين ضد ما تقوله السلطة دوماً من أن البلاد تتعرض لمؤامرة خارجية، لكنها لا تنفع كلية في فهم وتشريح، ومن ثم التعامل الخلاق، مع الحالة التي تمر بها مصر حالياً، لا سيما مع الامتعاض الذي قوبلت به ثورة 30 يونيو من الغرب، بعد أن أسقطت رهاناته على جماعة الإخوان في تأمين مصالحه بمنطقة الشرق الأوسط، ومنها: ضمان تدفق النفط، والحفاظ على أمن إسرائيل، وحراسة الممر الملاحي لتجارة الولايات المتحدة وأوروبا والمتمثل في قناة السويس، وتجميع جهد «المسلمين السنة» في وجه «المسلمين الشيعة» في إطار «اقتتال طائفي»، زرع الغرب بذرته في العراق، ويعول عليه في إنهاك العالم العربي، وإدخاله في نزاع دائم مع الدولة الإيرانية أو تعويق استراتيجيتها في المنطقة، كلاعب إقليمي قوي.
وفي ضوء هذا لا بد أن نستعرض العناصر التي بوسعها أن تؤثر على تحقيق ما يسمى بـ«الفوضى الخلاقة» - هي في الأصل فوضى هدامة- التي أقرّ كثيرون أنها السبيل إلى «الشرق الأوسط الكبير»، وهي مسألة قُتلت بحثاً وتناولاً من قبَل الخبراء والساسة العرب على مدار نحو عشر سنوات كاملة. ويمكن سرد هذه العناصر على النحو التالي:
1 - الإخوان وحصان طروادة: فقد راهن الإخوان على أن الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية ستتدخل لحماية حكمهم، ونقلت بعض الصحف المصرية عن وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي أن الرئيس السابق محمد مرسي قد قال له حين أبلغه يوم 3 يوليو 2013 بأنه لم يعد رئيساً للبلاد بعد أن خلعه الشعب في 30 يونيو: «أمريكا لن تترككم». فاستثمار الأمريكان في الإخوان لم يعد يحتاج إلى جهد لإثباته، بعد مواقف واشنطن المناصرة للجماعة، وحتى حين بدأت تتخلى عنها، ربما مؤقتاً، فقد تم هذا بشق الأنفس، خوفاً من خسارة أمريكا للشعب المصري، بعد أن تعلمت من تجربتها المريرة مع الثورة الإيرانية حين وقفت إلى جانب الشاه حتى قرب النهاية فخسرت الإيرانيين إلى الآن.
وقد وقعت أمريكا في فخ الإيهام الإخواني بأن الجماعة قوة ضاربة في الشارع المصري، وأن أنصارها بالملايين، ولذا فبوسعها أن تضمن للولايات المتحدة تحسين صورتها في مصر، فضلاً عن حماية مصالحها، كما يمكنها أن تعيد لعب الدور الذي سبق أن مارسته التنظيمات الجهادية في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم لحساب أمريكا، حين تكفلت باستنزاف جهد وإنهاك الاتحاد السوفيتي المنهار بعد اجتياح قواته أفغانستان.
وإذا كان من الصعب على قوة عظمى مثل الولايات المتحدة أن تبدّل استراتيجياتها بسهولة فإن المتوقع أن تحاول تكييف الوضع والواقع الجديد في مصر بما لا يعرقل مسار تلك الاستراتيجية. فالأهداف البعيدة ستستقر على حالها، مع إعادة توظيف أدوار الأطراف التي بُني جزء من الخطة على أكتافها. وهنا يمكن لأمريكا أن تعيد صياغة الدور المنوط بالإخوان، بحيث يؤدي إلى النتيجة ذاتها التي كان من الممكن أن يؤديها وجودهم في السلطة، وذلك بالنسبة للمصالح الأمريكية، لا سيما إن كان المطلوب هو إنهاك الدولة أو الضغط على أعصاب أي نظام حكم قادم في مصر كي لا يتمرد على الدوران في الفلك الأمريكي، لا سيما بعد تنامي النزعة إلى الاستقلال الوطني لدى قطاعات عريضة من الشعب ومن النخبة المصرية.
وهنا تكون جماعة الإخوان، إن ارتضت أن تستمر في لعب دور الخادم للسياسة الأمريكية، قد صارت «حصان طروادة» الذي يُمكِّن واشنطن من أن تضغط على السلطة في مصر، أو تتدخل لإنفاذ أي خطط بشأن ما قيل عن «الفوضى الخلاقة» أو الترتيب لـ «الشرق الأوسط الكبير». ولعل واشنطن ترى في جماعة الإخوان، التي ارتبط تنظيمها الدولي بسياسات غربية ولم ترسخ بعد فكرة الدولة الوطنية في أدبياتها وممارستها، طرفاً جاهزاً للعب هذا الدور.
2 - وضع إقليمي متفجر: فالعالم العربي منذ هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن على من قصره في 14 يناير 2011 لم يعد كما كان قبل هذا التاريخ، فقد جرت في النهر مياه جديدة هادرة، وربما تجري مياه أخرى. وهذا الوضع الإقليمي المتقلب والساخن يضغط بالطبع على الحال في مصر، ليس فقط لموقعها في قلب العالم العربي ولا لأنها الدولة العربية الأكثر سكاناً أو الأقدم تاريخاً، لكن لأن الغرب ينظر إليها على أنها مفتاح للمنطقة العربية، وأن أي تغيير فيها سيؤثر على ما حولها. ومن هنا فقد ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تغيير الأوضاع في دول عربية عدة يبدأ من القاهرة.
وبالقطع لن يعود العالم العربي إلى ما كان عليه قبل «ربيع» عاصف، تحول في بعض الدول إلى «خريف» قاس، وفي أخرى إلى «شتاء» ربما يكون طويلاً، وفي ثالثة إلى «صيف» قائظ، حيث النار والدمار. فمن قبل انطلاق الثورة التونسية كانت المساحة الجغرافية الممتدة من جبال طوروس إلى جبال الأطلسي جنوبي المتوسط، تكاد تكون هي البقعة الأرضية التي لم ينلها تغيير جذري، وتعيش على حالها كأيام الحرب الباردة، ولا تعرف سبيلاً إلى «موجة» ديمقراطية ثالثة، أدت إلى تساقط نظم مستبدة وشمولية في مشارق الأرض ومغاربها.
قبل هذا كان العرب يعانون من أربعة أشياء، استعصاء قبول السلطة لفكرة الإصلاح السياسي، وموت الرأي العام أو انعدام تأثيره، وغياب بدائل متماسكة للسلطات الحاكمة، ووجود «وعد» من قبَل الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامى بأنها تمتلك «مشروعاً» يحمل «الخير» للناس من دون أن تحسم المسائل المتعلقة بالولاء للدولة الوطنية، والإيمان بالتعددية السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية، وكذلك تداول السلطة.
الآن ربح العرب «سقوط الصمت» فأصبح لديهم «شارع» قادر على التأثير، وتحسب السلطة له حساباً بعد طول إهمال واستهانة، وباتت الحكومات موقنة أن الإصلاح ضرورة أو استحقاق للشعوب طال انتظاره، فيما انكشف «التيار المتأسلم» وبان زيف أطروحته التي تتاجر بالدين أو توظفه كأيديولوجيا بائسة أو دعاية سياسية رخيصة، وانكشفت الفجوة الهائلة بين شعاراته وهتافاته وبين قدرته على الفعل والإنجاز. ولأن هذا التيار كان يشكل عقبة أمام التطور إلى الأمام، والدخول إلى فضاء العالم الحديث، فإن هزيمته يمكن أن تكون بداية لتطور قوي، حيث يأخذ العلم مكانه ويؤدي الدين دوره الطبيعي في تحقيق الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والنفع العام.
لكن أتباع هذا التيار لن يتغيروا بالكامل، فبعضهم قد يعيد النظر في أفكاره، وبعضهم قد يبقى على حاله متزمتاً، بل فريق منهم سيزداد كراهية للمجتمع ومن ثم يحتد عليه عنفاً، فيقتل ويخرّب بلا هوادة، ومثل هؤلاء يمكن أن يكونوا أداة في يد كل من يسعى إلى تفكيك الدول العربية عامة، فينقسم المقسَّم ويتجزأ المجزأ، وتظهر دويلات قائمة على أساس عرقي أو طائفي، لتعاد صياغة ما قررته اتفاقية سايكس بيكو، لتجد إسرائيل نفسها وسط دويلات صغيرة أو إمارات محدودة متناحرة، فيسهل عليها أن تسيطر على مقاليد الأمور في المنطقة. وبالقطع فإن هذا الوضع، وحتى إن لم يمتد إلى مصر، سيضغط عليها، ويحشرها في الزاوية، ويؤثر سلباً على مكانتها وأمنها. وربما يفكر البعض في امتداد هذا إلى مصر مستغلاً الاضطراب الأمني والانفصال الشعوري في سيناء، والغبن الجهوي في الصعيد، والشحن السلفي في المحافظات الحدودية.
3 - وضع داخلي صعب: فالثورة المصرية ورثت تركة ثقيلة من نظام حسني مبارك، متمثلة في الإمكانات المادية الضعيفة، وانهيار القيم الاجتماعية، وزاد على ذلك العنف المفرط والإرهاب والاحتجاجات المستمرة التي تخلق وضعاً مضطرباً أو غير مستقر. وحال استمرار هذا الوضع فإن الدولة ستضعف تدريجياً، وتزداد رخاوتها، وقابليتها للاستغزاء، بما يعطي الدول الخارجية فرصاً كبيرة في أن تنفذ ما تريده من خطط أو مؤامرات حيال بلادنا.
4 - وكلاء الغرب: وهذا اصطلاح يلخص ما يتم تداوله في الساحة السياسية والاجتماعية المصرية اليوم من أن هناك أفراداً ومؤسسات مصالحها مرتبطة بالغرب، ولذا تعمل على خدمته، إما لأنه من يمدها بالفكرة، فترددها أحياناً من دون وعي ولا تمحيص لملاءمتها لمصالحنا وأوضاعنا وأحياناً عن اقتناع، أو أنه يمدها بالمال ومن هنا تتعامل معه وفق قاعدة «من يدفع يملك»، وبالقطع من يملك يوجه ويتحكم. ومن هنا فإن كان لهؤلاء دور كبير وتأثير قوي في بلادنا فإنهم يفتحون نوافذ عديدة للتدخل الخارجي، والعكس صحيح.
لكن كل هذه السهام ستنكسر نصالها على قاعدة تماسك المصريين والتحامهم. فالشعب المصري هو الرقم الأهم والأقوى في المعادلة، والعالم الخارجي يكيّف وضعه وفق إرادة المصريين إن اتحدوا وتماسكوا وأصروا جميعاً أو أغلبيتهم الكاسحة على خيار معين. وقد دلّت تجارب كثيرة على هذا، فوقوف الشعب خلف السلطة في محطات تاريخية عدة وقى البلاد شر الاحتلال أو الهزيمة النهائية، وهذا أمر مشروط بأن يكون الشعب راضياً عن السلطة، فالرضا هو جوهر الشرعية ومتنها الأساسي. ويتحقق الرضا بعدل السلطان وإنجازه وتواضعه وتفانيه في خدمة وطنه، ولهذا يبقى العدل ركناً أصيلاً من أركان الأمن القومي.