مقدمــة
لم تكن ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن، ولا ثورة 14 أكتوبر 1963 في جنوبه، مجرد حدثين محليين انعكاسًا لظروف الداخل وحده، بل كانتا لحظتين متشابكتين مع محيط إقليمي ودولي متلاطم الأمواج. ففي قلب الحرب الباردة، وعند تقاطع البحر الأحمر مع الخليج العربي، وجد اليمن نفسه ساحة مفتوحة للتجاذب بين قوى متعارضة: مصر الناصرية، السعودية، بريطانيا، أميركا، الاتحاد السوفيتي، وإسرائيل. ولذلك فإن قراءة الثورتين بمعزل عن هذه التداخلات تجعل الصورة ناقصة، فيما هما في جوهرهما مرآة لاصطدام المشاريع الكبرى في تلك المرحلة.
تداخلات الخارج: مخاوف وصراعات
• القلق السعودي: خشيت المملكة من قدوم القوات المصرية، مستحضرة واقعة 1818 حين أسقطت قوات محمد علي الدولة السعودية الأولى. ومن ثمّ نظرت بعين الريبة إلى الوجود المصري الكثيف في شمال اليمن.
• المزاج البريطاني: بريطانيا، التي فقدت هيبتها بعد أزمة السويس 1956، رأت في الثورة تهديدًا مباشرًا لوجودها في عدن واتحاد الجنوب العربي الذي ضمّته قبل يوم من قيام ثورة سبتمبر. حكومة المحافظين في لندن كانت تبحث عن الثأر من عبد الناصر، وأرادت تطويق أي نفوذ له على الضفة المقابلة لقاعدتها الاستراتيجية.
• الصراع على البحر الأحمر: التنافس التاريخي بين مشروع محمد علي في القرن التاسع عشر والهيمنة البريطانية عاد في ستينيات القرن العشرين بحلة جديدة.
• المعادلة الأميركية–السوفيتية: واشنطن ترددت بين دعم السعودية الحليفة وفتح قنوات حوار حذرة مع عبد الناصر، فيما رأى السوفيت في اليمن بوابة إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.
• إسرائيل: وجدت في انغماس مصر في اليمن فرصة لاستنزاف جيشها وإضعافه، فكان الطريق ممهّدًا لهزيمة يونيو 1967.
• الحرب الباردة العربية: الاصطفاف بين أنظمة جمهورية تقدمية (مصر، سوريا، العراق، الجزائر لاحقًا) وملكيات محافظة (السعودية، الأردن، المغرب) جعل اليمن ساحة اختبار مثالية لتوازن القوى.
من سبتمبر إلى أكتوبر: الجنوب في خط النار
ثورة 14 أكتوبر 1963 لم تكن منفصلة عن زخم سبتمبر. فقد وجدت الحركات الوطنية في الجنوب دعمًا معنويًا وماديًا من مصر الناصرية، بينما رأت بريطانيا أن خطر عبد الناصر يطرق أبواب عدن. ومع تصاعد الكفاح المسلح، تزايد التداخل السوفيتي، وأصبح الجنوب هو الآخر مجالًا للتجاذب بين مشاريع التحرر الوطني ومصالح القوى الكبرى.
ستة عقود من التحولات المتعرجة
على الرغم من الوعود الكبرى التي حملتها الثورتان، إلا أن مسار اليمن خلال ستة عقود اتسم بالتعرج والتعثر:
1. حرب الملكيين والجمهوريين (1962–1970): اليمن الشمالي تحوّل إلى ساحة استنزاف مصري–سعودي، بينما دفع اليمنيون الثمن من دمائهم واستقرارهم.
2. الجنوب بعد الاستقلال (1967): استحوذ الجناح الأكثر راديكالية على السلطة، وأعلن توجهًا اشتراكيًا متشدّدًا عمّق القطيعة مع محيطه الخليجي، وزاد من الارتهان لموسكو.
3. مرحلة الدولتين: تنافس شمال–جنوب وحروب حدودية متكررة، وانقسام أيديولوجي حاد جعل اليمن إحدى ساحات الحرب الباردة الأكثر سخونة.
4. الوحدة (1990): جاءت ثمرة انهيار الكتلة الشرقية وحسابات ظرفية، لكنها سرعان ما انزلقت إلى حرب 1994 التي أعادت إنتاج التصدعات البنيوية.
5. القرن الجديد: صعود الحوثيين وتآكل الدولة المركزية، وتصاعد التدخلات الإقليمية، وتحوّل اليمن إلى عقدة في جغرافيا الطاقة والملاحة الدولية.
6. اليمن اليوم: بلد مثقل بإرث الماضي، يتجاذبه الإقليمي والدولي، فيما تبدو مؤسساته عاجزة عن فرض سيادة أو رسم مشروع جامع.
قراءة نقدية
الثورتان حملتا توق اليمنيين للتجديد والتحرر، لكن غلبة منطق الخارج، وانقسام النخب، وهيمنة القبيلة على السياسة، كلها عوامل جعلت التحولات تمضي في مسار متعرج. بدلًا من أن تكون سبتمبر وأكتوبر منطلقًا لبناء دولة حديثة، تحولتا إلى مدخل لدورات متكررة من الصراع، حيث ظل اليمن في كثير من الأحيان ساحةً لصراع الآخرين أكثر مما كان فاعلًا مستقلًا.
خاتمة
اليوم، وبعد مرور أكثر من ستين عامًا، يبدو أن الدرس الأكبر هو أن اليمن لا يمكن أن يُبنى إلاّ بإرادة وطنية خالصة تعيد الاعتبار لمشروع الدولة الجامعة، وتتعامل بندّية مع الجوار والإقليم، بعيدًا عن استنساخ معادلات الخارج. لقد كانت ثورتا سبتمبر وأكتوبر تعبيرًا عن أشواق اليمنيين للحرية والكرامة، غير أن افتقارهما إلى سياج وطني حصين جعلهما جزءًا من معركة الآخرين أكثر مما كانتا معركة اليمنيين أنفسهم.