لقد اثارتني ردود الفعل الغاضبة من تعيين السفير مصطفى النعمان نائبا لوزير الخارجية. لماذا الغضب؟؟
ما الذي يؤثر على أفكارنا حول السلوك “الصحيح” و“الخاطئ”؟ لماذا يعتبر أمرا طبيعيا تعيين شخص اعتاد على نقد سلوكيات النخبة السياسية أو السلطة في الدولة الديمقراطية، أما حدوث ذلك في بلادنا يُنظر إليه على أنه نوع من الغرابة في أحسن الأحوال؟
ما الخطأ في التعيين؟؟
من وجهة نظري ربما كان هذا التعيين هو الصائب الوحيد بين جملة من التعيينات، ويحسب للعليمي وليس عليه. مع أن الرجل كما نعلم استقال من هيئة التشاور بكل مزاياها من البداية.
تكمن النقيصة الوحيدة التي أثارت الحساسية في انه اعتاد نقد سلوك النخبة، وهكذا يرى المعارضون أن نقد السلطة ورموزها رجس من عمل الشيطان. لقد تعودت السلطات أن تطعم صفوفها بحملة المباخر، لكن التجربة برهنت أن المباخر تنكسر حين البأس.
إن “القالب” الذي يستخدمه الإنسان لتحديد السلوك الصحيح والخاطئ، والذوق الجيد والسيئ، ليس أكثر من ثقافة. الثقافة هي الأفكار التي تطورت في المجتمع حول معايير السلوك، وقواعد حسن الخلق، والجمال، والخير والشر، والعدالة والعديد من الأشياء الأخرى التي تساعدنا في الحياة اليومية على رؤية العالم من حولنا، وتوقع تصرفات الأشخاص الآخرين، وتقييم المشكلات والأحداث وغير ذلك.
تعتبر الثقافة السياسية جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المجتمع، فهي التي تشكل أفكارنا حول النماذج السليمة من السلوك السياسي. تتنوع الثقافة السياسية، ولكن يمكن الإشارة إلى ثلاثة مكونات: اللغة السياسية، ونماذج السلوك السياسي، والأفكار الجمعية حول السياسة. وهي تستقى من مصادر مختلفة. من الجماعات والأحزاب والمدارس والجامعات. ولكل من هذه المصادر تأثيرها الخاص، ولعل المنظمات والأحزاب السياسية هي الأكثر تأثيرا في زرع بذور الثقافة السياسية وبالتالي تشكل أنماط السلوك السياسي.
تنشأ الثقافة مع ظهور اللغة، التي تسمح للناس ليس فقط بالإشارة إلى طموحاتهم وآمالهم في لحظة معينة، ولكن وتسمح بنقل المعلومات حول التجارب السابقة. كلما تعددت اللغة، وكلما أصبحت الحياة الاجتماعية للإنسان معقدة، زادت قدرته على الإبداع والاختراع والتخزين في ذاكرته والتعلم. من الصحيح أن اللغة هي أساس الثقافة. وبدون ذلك، فإن الأمر مستحيل بكل بساطة، والثقافة السياسية ليست استثناء.
وتعتمد الثقافة السياسية على التنوع اللغوي بأكمله، وهو نوع من شفرة النظام الثقافي للمجتمع، وشرط أساسي لوجوده وتطوره. ومع ظهور العلاقات السياسية من خلال تنوع العلاقات الاجتماعية الأخرى، تظهر كلمات خاصة مشبعة بمعنى محدد. في البداية كانت هذه الكلمات تشير إلى الحكام وصفات سلطتهم، ثم ظهرت مفاهيم تشير إلى ظواهر وعمليات معقدة: السلطة، الدولة، المجتمع، الديمقراطية، القانون، الخ.
إن اللغة السياسية تتناسب بشكل عضوي مع حياتنا لدرجة أننا نستخدم المصطلحات والمفاهيم المألوفة دون تفكير. ولكنها تدخل لغتنا بالتزامن مع ظهور هياكل سياسية جديدة. وليس من قبيل المصادفة أن التجديد الجذري للمجال السياسي يرافقه دائمًا تجديد اللغة السياسية. قام بيتر الأول، أثناء قيامه بالإصلاحات السياسية في روسيا، بإدخال الكثير من التسميات الجديدة للهيئات الحكومية.
إن أسلوب الحياة السياسية هو مجموعة من أشكال السلوك التي تتطور في الممارسة السياسية اليومية. يتضمن الأسلوب أشكال التواصل بين السياسيين، وطرق اتخاذ القرارات السياسية (استبدادية أو جماعية)، ووتيرة الحياة السياسية، وانفتاح أو انغلاق “المطبخ السياسي” أمام الجمهور.
في السياسة، غالبًا ما تلفت الفضائح السياسية انتباهنا. قد يختلف حجم الفضائح وأهميتها، ولكنها تُرى دائمًا على أنها انحراف عن السلوك السياسي “الصحيح” المعتاد والمقبول اجتماعيًا. على سبيل المثال، عندما يغادر وزير قاعة الاجتماع احتجاجًا على الطريقة التي تدير بها الحكومة المشاكل الاجتماعية المتفاقمة، لن ينتبه الجميع إلى رحيل الوزير نفسه، بل إلى حقيقة أن الحكومة غير قادرة على استيعاب احتياجات المجتمع. بينما يصير الوزير رمزاً أمام مجتمع.
ربما يكون السفير مصطفى من القلة القليلة النظيفة في نظام صالح. الحديث يدور عن سلوكه حيث هو مسؤول عن تصرفاته وعلاقته بالقانون. وقد كنت أتمنى على المنتقدين الاتكاء على مبرر غير انتقاده على كسر عصا الطاعة العمياء.