في تصريح لا يخلو من معانٍ ذات أهمية كبيرة في فهم التحول الاستراتيجي لإيران من سياسة بناء أذرعها العسكرية في بعض البلدان العربية، نفت إيران علاقتها بقصف منزل نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي، ولم تكتف بالنفي ولكنها ألحقت نفيها بالتأكيد على أن من قام بعملية القصف هو حزب الله الذي لم يصدر أي بيان حتى الآن يتبنى بموجبه العملية.
يبدو من التصريح أن إيران قد حلت محل حزب الله في قيادة وإدارة معركة الدفاع عن طهران من داخل لبنان، وهو ما يعني أن استثمارها في حزب الله يجب أن لا يذهب أدراج الرياح. أي أن هذه الترسانة الهائلة من الصواريخ والمسيرات، والتي منعت طهران حزب الله من استخدامها عند مقتل زعيمه حسن نصر الله، إنما كانت قد جهزت لاستخدامات أخرى تتعلق بالأمن الاستراتيجي لطهران.
من الواضح أن طهران لم يعد يهمها كثيراً المصير الذي سيؤول إليه حزب الله، خاصة إذا تتبعنا بصورة دقيقة تطورات الوضع السياسي والعسكري على الساحة اللبنانية، وكيف أن طهران تحاول أن تجعل من لبنان محطة تصفية حسابات مع اسرائيل تنتهي فيها المعركة بإنهاء القوة العسكرية لحزب الله كثمن لتجنب الحرب مع إسرائيل.
ولا شك أن هذا التصريح الايراني، الذي ينسب قصف منزل نتنياهو إلى حزب الله، لا يأتي جزافاً، فهو دليل دامغ على تحريضها إسرائيل لمواصلة تشديد قصفها الوحشي للبنان، بعد أن كان قد توقف نسبياً لأسباب تتعلق بالتحضير للهجوم على ايران وفقاً لما تخطط له اسرائيل.
أي أن إيران تحرض ضد لبنان لتتجنب الحرب، وهذا ما تشي به سياسة الاستثمار الضخمة في حزب الله طوال عقود. غير أن هذه المسألة تظل محل جدل واسع وخلافات كبيرة بين الدولة والحرس الثوري.
غير أن حسابات اسرائيل، كما يتضح من تصريحات قادتها، وخاصة بعد هذه التطورات التي أشعلتها طهران من لبنان، ومنها استهداف منزل نتنياهو وتفسير ذلك بأنه محاولة اغتيال، في اعتقادٍ منها أنها ستعيد بناء عملية المواجهة بقواعد مختلفة تجنبها المواجهة، باتت تتجاوز هذا المدى الذي تتحرك فيه طهران، فلم يعد الاسرائيليون يتحدثون عن هدف وحيد يتعلق بعودة سكان شمال اسرائيل وضمان أمنهم، وإنما استخدموا ذلك ليس لتغيير أهدافهم على نحو جذري وإنما لإقناع العالم بها، حيث أخذوا يتحدثون عن “تغييرات أمنية استراتيجية شاملة في المنطقة”.
لقد خلقت ايران لاسرائيل الذرائع التي ألجمت بها كل من أشار بأصبع اعتراض نحو اسرائيل في الآونة الأخيرة، بصورة لم تكن تحلم بها، لتغيير أهدافها على هذا النحو الذي عادت فيه لتقصف شمال غزة، وتفكر في عملية التهجير من جديد، وتعيد بناء استراتيجيتها بموجب “ما يحيط بها من أخطار “ على حد زعمها.
تدرك ايران واسرائيل والعالم أجمع أن مقاومة غزة وفلسطين، ليست كـ”مقاومة” ما يسمى الساحات.. فالنائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة. في فلسطين هناك قضية لا تنتهي بتدمير أو قتل من أي نوع كان، ومع ذلك فلا بد من أن يراكم هذا التدمير والقتل، الذي استمر أكثر من خمسة وسبعين عاماً، حالة من الوعي بتنزيه هذه القضية العادلة من أي استقطابات انتهازية تجعل مصيرها الدمار الدائم، لا بد من إعادة بنائها بمضامين يتجدد معها بناء جيل من العلماء، ومراكز القوة الاقتصادية، والثقافية، والمعرفية والسياسيين والمخلصين لقضيتهم العادلة، لا على أجيال من المقاتلين فحسب.. وفلسطين ولادة على كل المستويات، وحينها لن تتجرأ إيران أو ما يسمى بالساحات أو غيرهم على التنطع باسم هذه القضية.
المنطقة اليوم كلها أمام تحديات خطيرة، خاصة وأن الأمن الاستراتيجي الذي يتحدث عنه قادة اسرائيل لا سبيل إلى تحديد جغرافيته على نحو انتقائي، فالمنطقة المحيطة هي جغرافيته المقصودة.. على أن إيران التي أشعلت الفتنة والانقسام المجتمعي في البلاد العربية قد هيأت الشروط التي كانت تحتاجها اسرائيل لتنفيذ سياساتها العدوانية.