في ذلكم اليوم الأكتوبري الأغر، تسرب الإنهاك والارهاق الجسدي إلى كل مفاصل شيخنا الجليل الفلاح غالب بن راجح لبوزة ولم يعد قادراً على مواصلة مشاق عملية الحرث بعد أن شعر بإنهاك في غاية الشدة، فيما تبلل كل مناحي ذقنه بدفقات العرق المنساب من جبينه.
رفع شيخنا فأسه ووضعه على رقبته دون اكتراث مانحاً لنفسه لحيظات لاستعادة أنفاسه المنهكة.
وتذكر حينها بأنه في ذلكم اليوم غادر ديمة سكنه على حافة الريق دون كسرة خبز جافة أو رشفات من القهوة بعد ان أومأت له شريكة حياته بنفاد كل ما كان قد جلبه من الحبوب ولا مفر من الصيام الاجباري المفروض عليه وعليها والأولاد أيضاً. توسد هذا الشيخ العصامي سانداً رأسه مسنوداً بشقف من الحجارة وترك جسده مفروشا على الأرض ورجليه ممدودتين نحو فضاء الأرض المفلوحة. كانت عينه ترقب بشفقة لا تخلو من الألم والحقد الانساني أحوال أبناء جلدته المنهكين بالحراثة فيما هم باجساد مبللة بقطرات العرق وبطون خاوية بل وحناجر متيبسة تائقة لقطرة ماء تروي جزءا من عطشهم. كاد الألم ان يعتصر كيان هذا الفلاح اللبوزي وهو يتمتم بلواعج متهدجة حد البؤس مما آلت إليه أحوال عامة الناس يشقون في الأرض ويجعلونها تجود بالخيرات من مردود عرق جباههم لتذهب هذه الخيرات الوفيرة لمن لا يذود حتى بضربة فأس أو قطرة عرق واحدة فيما زراع الخيرات المادية لا يجنون غير الجوع والعطش والفقر والجهل والمرض.
تمعن لبوزة جلياً بما يسود حياته وحياة أقرانه من ظلم وعبودية، كانت الافكار تتضارب في مخيلته وكأن مطارق فولاذية ترتطم على دماغه.
لم يطل حبل التفكير حتى اهتدى ليقين الخلاص بعد ان داهمه سؤال من اعطى لهؤلاء الأوغاد حق شفط خيرات مردود عرق جباهنا وتركنا عراة يهلك أجسادنا الجوع والمرض والظمأ؟ من أعطاهم حق امتلاكنا وامتلاك مقدرتنا نحن الشقاة ونحن العبيد المستعبدين من سلط هؤلاء على رقابنا يعيثون بنا وبحياتنا فساداً مزرياً؟.
وها هو يأتي وحي الخلاص النابع من الضمير الانساني (عجبت لك ايها الفلاح .. تدك الأرض بفأسك فلماذا بهذا الفأس لا تدك صدور ظالميك) فما كان من شيخنا الجليل الفلاح غالب بن راجح لبوزة غير امتشاق فأسه بيد وبندقيته باليد الاخرى صاعداً إلى أعلى قمم جبال ردفان ليصوب طلقات بندقيته إلى صدور الظالمين معلناً بزوغ فجر الحرية والانعتاق من ربقة الظلم والاستعباد والرق، ولتعلن الملأ عزمها وتصميمها على خوض غمار التضحية والفداء ونيل شرف قهر فلول الظلم توقاً للحرية المعمدة بدماء قوافل من اشرف وأنبل من انجبتهم هذه الأرض الجنوبية المعطاء.