منذُ اعتراض مارتن لوثر ( 1483 - 1546م) على صكوك الغفران عام 1517 التي بموجبها نشر رسالته الشهيرة المؤلفة من خمس وتسعين نقطة تتعلق أغلبها بلاهوت التحرير وسلطة البابا في الحل من «العقاب الزمني للخطيئة»؛ ومذاك بدأت الحروب الدينية في أوروبا التي استمرت ما يناهز الثلاثة قرون بين الكاثوليك والبروتستانت التي تأسست على أثر حركة هذا القسيس, هذه الحروب أعطت للشعوب الأوروبية درساً بليغاً وكان من نتائج ذلك الدرس الإقرار بأنه لا يمكن أن يكون هناك منتصر في حروب رافعتها الاعتقاد الديني ـ وينطبق هذا الأمر على كل أنواع الاعتقادات دون استثناء ـ ولذا فإنهم سرعان ما اهتدوا إلى مبدأ التسامح الديني.
وانبرى المفكرون يضعون الخطوط العريضة لهذا المبدأ حتى صار مبدأً أخلاقياً عاماً وثقافة تتجسد على أرض الواقع يقوم على قاعدة احترام حقوق الناس الآخرين والمختلفين دينياً أن يكون لهم الحق في التعبير عن اعتقاداتهم, ومبدأ التسامح الديني يفصح عن فكرة مفادها, مثلما لي الحق في أن أعبر عن آرائي الدينية ؛ فينبغي أن يكون لغيري الحق في ذلك, وعليه فإن الحق في الاعتقاد حق إنساني لا يستطيع أحد أن ينتزعه أو ينتقص منه, لأن هذا الأمر يقود إلى الكراهية والعنف, كما أن الاعتقاد الذي يبسط نفوذه على قاعدة الإكراه والعنف يعد اعتقاداً ضعيفاً خاوياً فارغاً من المضمون, وكل الاعتقادات التي تسلك هذا المسلك مصيرها الفشل الذريع.
وإذا ما أرادت ديانة ما أن تؤسس جماعة بشرية قوية الحجة لا أتباع تجر كالقطعان , فإنها تكون بحاجة إلى تعليمهم كيفية البحث عن الحقيقة لا البحث عن اليقين, وهناك فرق بين المعنيين، الحقيقة تقود إلى أفراد أحرار , بينما اليقين يقودهم إلى الإيمان والتسليم وليس بالضرورة الإيمان الحق, قد يكون إيماناً بما يقوله قادتهم الدينيون, لذلك فإنه لا يمكن تعافي الأديان والمذاهب من هذا الهوس إلاّ عبر الإقرار بمبدأ التسامح الديني الذي يطرح قضية الحرية الفردية على المحك, لقد تخلصت أوروبا بحركة مارتن لوثر من الكثلكة بعد أن وضعتها لقرون على المحك.
إن كل حرب تندلع في هذا البلد وما أكثرها تفصح عن حالة إعاقة نفسية ووجدانية , حيث تطفح بتمنيات تشفي بليدة, وحالة تعبئة هستيرية يقودها البعض تنم عن نفوس مريضة تحتاج إلى أكبر مصح عقلي, الحرب الدائرة تظهر الحالة المرضية لأفراد هذا المجتمع، كما تظهر مستوى الإعاقة النفسية والوجدانية التي لحقت بأفراده.
إن المجتمع البشري في مسيرته انتقل فيه الإنسان من الحالة الطبيعية إلى الحالة الإنسانية ـ حسب الفيلسوف توماس هوبز _، في الأولى كان فيها في طور التوحش « الإنسان ذئب لأخيه الإنسان» كما يسود فيها حرب الجميع ضد الجميع وبلا ضابط أو رادع، إلى أن ينتقل إلى الحالة الإنسانية وفيها يبدأ بالاتفاق مع أترابه من البشر على عقد اجتماعي ينظم علاقة بعضهم ببعض، أي الاتفاق على دستور يحكمهم ، وعليه أهتدى الإنسان لفكرة الدولة.
لقد حاول هوبز هنا أن يفسر حركة تطور الاجتماع البشري ، أي أراد القول أن مسيرة تطور الإنسان انتقال من طور التوحش وسمته الحرب إلى الطور الإنساني وسمته الجنوح للسلم..
التشفي والتلذذ بالحرب حالة غير طبيعية بالمرة يتساوى فيها مجتمع الفرجة السعيد مع مجتمع الفعل «المجتمع الذي تدور رحى الحرب فيه»، كلا الفعلين قبيحان ولا إنسانيان بالمرة.. هذا المجتمع بحاجة إلى مصح عقلي كبير يداوي وجدان أفراده من هذه الإعاقات التي لا تليق بهم في هذا الزمن..!!!
حرية المعتقدات والتفكير تحتاج إلى دولة مدنية عمادها العلمانية كوسيلة تضمن الحقوق المتساوية لكل الناس وتقف على مسافة متساوية من المعتقدات والأفكار والأديان والمذاهب، دولة مواطنة عمادها الحقوق لا دولة رعية.. بغير دولة كهذه سنبقى في حالة التوحش الحالة الطبيعية, حالة حرب الجميع ضد الجميع والإنسان ذئب لأخيه الإنسان , حتى يقيض لهذه الأرض الرشاد والعقل..!!
وهذا الصراع الدائر في غير مكان من عالمنا العربي بين المذهبين السني والشيعي يطرح ضرورة إقرار مبدأ التسامح المذهبي والديني على أوسع نطاق وما أحوجنا لمارتن لوثر عربي يحرر هذا العقل من المذهبية.
ست حروب عجاف أكلت الأخضر واليابس في هذا البلد ولم نتعظ , أن لا أحد يستطيع أن يتغلب على الأخر, وسنظل في حالة المراوحة هذه , حتى نقتنع أن سبب الصراع وجوهره هو غياب التنمية, وأن الخلل في جوهره يتعلق بتوظيف ثروات هذا البلد, حيث تذهب إلى أيدي متنفذين ولصوص يسيطرون على مقدرات هذا البلد, ويستريحون لهذا الصراع ويؤججونه, يكفي هذا البلد حروباً, أن البلد بحاجة إلى إطلاق مبدأ التسامح الديني على أوسع نطاق حتى يقطع الطريق على أولئك اللصوص والفاسدين.
* استاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث - كلية الآداب جامعة عدن
ضرورة التسامح الديني والمذهبي !!!
أخبار متعلقة