قد تكون الأحداث الدامية في مصر منذ الأربعاء قبل الماضي فاجأت كثيرين ممن تنقصهم المعرفة بتاريخ حركة (الإخوان) وعقيدتهم الدينية والسياسية، وهم قبل ذلك لم يستوعبوا طبيعة رد الفعل على إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي بفعل غضب شعبي عارم وثورة وطنية غلابة؛ لكن هذا كان متوقعاً عند من لديهم بعض العلم أو كثير منه.
تـُصنّف حركة (الإخوان) على أنها تنظيم سياسي ديني أو جماعة إسلامية بالتعبير الشائع؛ لكن الاخوان يعتبرون أنفسهم الجماعة المسلمة وما عداهم مجتمع جاهلي، وهم عندما يحوّلون المساجد إلى ثكنات عسكرية، وعندما يحرقونها ويعبثون بمحتوياتها فإنما ينطلقون من النظر إليها كمعابد وثنية مادام أكثر المتردّدين عليها للعبادة لا ينتمون إليهم، وبحسب علي عشماوي، القيادي الأسبق في الجهاز الخاص بالتنظيم أنه وزملاءه ممن كانوا يتردّدون على سيد قطب في منزله بحلوان جنوب القاهرة فوجئوا به لا يخرج إلى المسجد لصلاة الجمعة قبل أن يعرفوا منه أن الصلاة فيه غير جائزة مادامت الدولة الإسلامية لم تقم بعد، كان ذلك أثناء الإعداد للانقلاب الذي رتّبه قطب سنة 1965م، وكان سيد قطب قد أصدر كتابه «معالم في الطريق» وطبقاً له لا يُعد مسلماً إلا من ينضم إلى «الجماعة» حيث التصديق الكامل بالحاكمية لله، وأما من هم دون ذلك فهم في عداد الجاهليين، والمجتمع الجاهلي عنده يضم الشيوعيين والليبراليين والقوميين ومن يعتبرون أنفسهم مسلمين ولكنهم يقبلون بالنظم والتشريعات البشرية.
[لا يوجد نمط فقرة][فقرة بسيطة]ووفقاً لقطب فإن الرسول اكتفى بالدعوة إلى التوحيد أثناء وجوده في مكة، ثم نزل عليه التشريع بعد أن أقام دولة المدينة، ولذلك فليس على الجماعة المسلمة أن تضع التشريعات التفصيلية قبل أن تقوّض الدولة الجاهلية الكافرة وتقيم دولة الإسلام، ومثلما كان الرسول محور التشريع؛ فإن المهمة في المجتمع الإسلامي الجديد تتولاها قيادة الجماعة بعد أن تنشأ دولتها، وهنا الحلقة المفرغة التي عجز قطب عن إغلاقها؛ لأن التشريع الذي يؤكد مبدأ الحاكمية لله عاد مرةً أخرى إلى مجموعة من البشر يستحيل وضعها في مركز مماثل للرسول الذي يتلقّى الوحي، لهذا ظلّت حركة (الإخوان) ترفض صياغة برنامج سياسي وتكتفي بالشعار الغامض «الإسلام هو الحل» ذلك أن البرنامج، والتشريعات التفصيلية، سيكونان موضع تساؤل ونقد ، والمطلوب هو جر الناس وعيونهم مغمضة..!!.
إن الانطلاق من هذا المعتقد المريض الذي أضفي عليه الطابع الديني أفضى إلى معتقد سياسي يجيز محاربة الكفّار ولو زعموا أنهم مسلمون، والواقع أن فكر سيد قطب ليس منقطعاً عن عقيدة المؤسس حسن البنا التي عبّر عنها في خطبه ورسائله بلغة لا يكتنفها غموض، وإن كان قطب قد شرح وفصّل بما لا يستوجب التفكير والتمعن، من هنا ارتبط العنف بمسيرة الجماعة ومنذ قويت شوكتها في أربعينيات القرن الماضي حتى هذه اللحظة.
ولئن كانت الضربة القاسية التي تلقّتها منتصف الستينيات قد جعلتها تتّبع تكتيكاً جديداً منذ تحالف معها الرئيس أنور السادات وأخرج عناصرها من السجون لمواجهة اليسار الناصري والماركسي قد جعلتها توكل مهمة العنف إلى تنظيمات خرجت من رحمها كـ«التكفير والهجرة» و«الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» وتقدّم نفسها كجماعة تؤمن بما كان في نظرها من المحرمات، وكفت الديمقراطية عن أن تكون خروجاً عن صحيح الدين، فانخرطت في المنافسة على المقاعد البرلمانية والتنظيمات النقابية؛ غير أنها وهي تفعل ذلك لم تتخلّ عن إعداد النفس لمجاهدة الكفّار من مسلمي مصر ومسيحييّها، وظلت تراكم العتاد الحربي والتدريب القتالي كما سيتأكد الآن ويثبت.
ولقد كانت الحركة تعني ما تقول عندما هدّدت بإحراق مصر إذا فشل مرشحها في الانتخابات، وليس عليّ الآن أن أعيد ما قلت في مواضيع سابقة وما أجمع عليه الناس باستثناء من في نفوسهم غرض أن ما حدث في 30 يونيو ثورة شعبية؛ لكننا هنا أمام فصيل سياسي مستعد لتدمير بلده ثمناً للسلطة، وذلك لم يحدث في تاريخ الدول والحركات السياسية، ومن المناسب أن أسوق مثالين من أمريكا اللاتينية.
المثال الأول من تشيلي، حيث نجح اليسار في إلحاق هزيمة بالأحزاب اليمينية في الانتخابات الرئاسية سنة 1970م وأوصل مرشحه زعيم الحزب الاشتراكي سلفادور الليندي إلى رئاسة الجمهورية، ثم دبّرت وكالة الاستخبارات الأمريكية انقلاباً عسكرياً في سبتمبر 1973م قتل الرئيس المنتخب ونفّذت مجازر راح ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مواطن، ورغم وطأة القمع تبنّى اليسار مقاومة سلمية رسّخت مكانته وسط الجماهير، واستطاع بالنضال والدأب أن يرجع إلى السلطة بالوسائل الديمقراطية ومن خلالها ولم يزل يحكم تشيلي منذ عقدين.
وفي نيكاراجوا شنّت الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي حرباً مسلحة بواسطة منظمة الكونترا اليمينية ضد نظام الجبهة السانديالية بزعامة الرئيس اورتيجا، ورضخ اليسار وأجريت انتخابات خسرها أورتيجا أمام مرشح اليمين المدعوم من واشنطن، ولم يلجأ اليساريون إلى العنف؛ بل تابعوا النضال في صفوف الشعب ليعودوا إلى السلطة بأصوات الناخبين وبنفس رئيسهم السابق أورتيجا.
على أن هناك مثالاً آخر من أمريكا اللاتينية قد يضيف شيئاً كاشفاً للعلاقة بين الولايات المتحدة و(الإخوان)، ففي البيرو انتخب “البيرتو فيجو ميريري” رئيساً سنة 1990م، وفي ابريل 1992 أقدم على ما فعله مرسي في نوفمبر 2012 فأصدر إعلاناً دستورياً حصّن فيه قراراته، وسرعان ما أعلن البيت الأبيض وتلاه الاتحاد الأوروبي أن هناك انقلاباً رئاسياً في البيرو، وكذلك فعلت دول أمريكا اللاتينية التي حاصرت النظام في “ليما” وأسقطت الانقلاب ولم تفعل هذا أمريكا وأوروبا إزاء انقلاب مرسي الذي حصّن قراراته بأثر رجعي منذ تسلّمه السلطة.
ليس هذا وحده ما يفتح أبواباً للتساؤل، وإنما الكثير من الشواهد قابلة للاستدلال، وقد لا يكون لدى وسائل الإعلام والسياسيين في الغرب أعين تعينهم أن يروا المسلحين في رابعة العدوية والنهضة، ولا أن يشاهدوا الاعتداء على أقسام الشرطة والمراكز الحكومية، أو أن يتابعوا ما يحدث في سيناء، وقد نفترض أنهم لم يسمعوا القيادي الإخواني محمد البلتاجي يؤكد من منصة رابعة أن أحداث سيناء ستتوقف في الثانية التي يعلن الفريق السيسي عودة مرسي إلى الرئاسة؛ كل هذا يمكن أن تغلق له الآذان والأعين، بل يمكن القبول أن الضمير الأوروبي والأمريكي كف عن نفسه القلق من نهب متحف ملوى في المنيا والاعتداء المتكرّر على مكتبة الاسكندرية، لكن كيف نستطيع أن نفهم السكوت عن إحراق عشرات الكنائس ومتاجر ومنازل الأقباط بينما كانت أوروبا وأمريكا تستشيط غضباً عندما تلقى الحجارة على كنيسة، كيف يمكن فهم صمت «اليونيسكو» عن إحراق متحف ومبانٍ أثرية والاعتداء على مكتبة عظيمة شاركت «اليونسكو» نفسها في إعادة بنائها، تلك المكتبة التي كان الرومان قد أحرقوها في الاسكندرية منذ ألف وخمسمائة سنة..؟!.
لقد كان الفريق السيسي واضحاً في تلميحه من خلال كلمته أمس الأول: “إننا نتابع ردود فعل الولايات المتحدة وطالبان” فأمريكا التي تشن الحرب على طالبان هي نفسها التي ترعاها في مصر، والذين تابعوا التصريحات الأمريكية وبيان طالبان حول ما يجري هناك قد يتصوّرون أنها منسوبة إلى جهة واحدة وربما كتبها شخص واحد..!!.
لكن المهم في أحداث مصر هو أنها أكدت أمرين: الأمر الأول أن الاخوان بعد أن سقطوا سياسياً وأخلاقياً ماضون في تدمير أنفسهم إلى النهاية، وأنهم يكتبون وثيقة طلاقهم من الشعب بصورة لا مرد لها ولا رجعة.
والأمر الثاني هو أنهم في سعيهم لإشعال حرب طائفية دفعوا المصريين إلى وضع لبنة جديدة متينة في صرح الوحدة الوطنية، فلم يرفع مسيحي واحد بندقيته كي يطلق رصاصة، ولم يشهر أي منهم سكينة ردّاً على هجمات الكنائس والمنازل والمتاجر، وقبل ذلك فإن المسلمين نزلوا يحمون كنائس الأقباط وممتلكاتهم، وهبّ أئمة الجوامع يدعون الناس إلى حماية إخوتهم في الوطن.
وقد قال المفكر العبقري جمال حمدان في كتابه الأثير «شخصية مصر»: «إن الوطن وُجد قبل الدين» وقال أيضاً: «إن الدين عنصر والقومية مركب» كذلك قال ابن تيمية، الفقيه الذي يدّعي (الإخوان) أنه مرجعيتهم: “إن حماية الوطن أولى من تثبيت الشريعة” لكن الإخوان) يضمرون ما لا يعلنون، إنهم يصنعون الدمار ويخربون بيوتهم بأيديهم.
إنهم يخربون بيوتهم بأيديهم
أخبار متعلقة