دأب عدد من محدودي الثقافة والفهم والمتاجرين بالدين من يطلقون على أنفسهم (علماء) و (دعاة) يؤيدهم في ذلك بعض المتعصبين الجهلة، على تكفير الناس بالباطل، بناءً على مزاعم كاذبة وأباطيل، ومن ذلك تكفير كل من يقول بأنه ليس كل الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحيحة وخاصة أحاديث الآحاد، ويذهب هؤلاء (المكفراتية) إلى وصم العلماء والفقهاء المجتهدين بالكفر والارتداد وأنهم (لا يعترفون بالسنة) ويطلقون عليهم كذباً (منكري السنة) وكأن السنة النبوية ما هي إلا حديث آحاد وحسب.
وفي هذا الصدد نود أن نبين للناس ما يلي:
تنقسم الأحكام عند فقهاء الشريعة وعلماء الفقه إلى خمسة أقسام:
1 - الواجـــب: وهو ما يثبت طلبه من المكلف بنص صريح قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، بمعنى أن له معنى واحداً فلا يختلف في معناه المجتهدون من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
2 - الحـــرام: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه بدليل قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من كتاب الله أو سنة رسوله المتواترة.
3 - المنـــدوب: ما طلب الشارع فعله طلباً غير حتم ولا جازم، يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه.
4 - المكـــروه: ما طلب الشارع تركه طلباً غير حتم، ويثاب على تركه ولا يعاقب على فعله.
5 - المبـــاح: ما خُيِّر المكلف بين فعله وتركه، أو لم يَرد دليل فيه بالتحريم.
وتنقسم السنة إلى متواترة وأحادية:
فالمتواترة ما رواها جمع عن جمع يستحيل أو يبعد أن يتفقوا على الكذب. قال (الحازمي) في (شروط الأئمة الخمسة، ص 37): (وإثبات التواتر في الحديث عسر جداً)، وقال (الشاطبي) في الجزء الأول من (الاعتصام، ص 135): (أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله متواتر). وهو ما يؤكد ندرة الحديث المتواتر واختلاف علماء السنة على ثبوته وعدده.
والسنة الأحادية هي: ما رواه عدد دون المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو هي: الأحاديث التي تروى بالعنعنة عن فرد فآخر فآخر، بما يسمى الإسناد، فهي أحاديث ظنية (كما ورد في فتوى الأزهر الصادرة بتاريخ 10 فبراير 1990م)، بل إن البعض قد أدخل في السنة قول الصحابي وآخرون قول التابعي.
وقد اختلف العلماء في استقلال السنة الأحادية بإثبات واجب أو محرم.
فذهب (الشافعية) ومن تبعهم إلى أن من أنكر ذلك في الأحكام العملية كالصلاة والصوم والحج والزكاة فهو كافر وهذه هي أمور الدين المعلومة بالضرورة، أما من أنكر ذلك في الأحكام العلمية كالإلهيات والرسالات وأخبار الآخرة والغيبيات فهو غير كافر لأن الأحكام العملية لا تثبت إلا بدليل قطعي من كتاب الله وسنة رسوله المتواترة.
بينما ذهب الأحناف إلى أن السنة الأحادية لا تستقل بإثبات واجب أو محرم سواء أكان الواجب علمياً أو عملياً وعليه فلا يكَفَّر منكرها مطلقاً، وإلى هذا ذهب أيضاً علماء أصول الفقه الزيدية والحنفية ومنهم (الحسن الجلال) صاحب (ضوء النهار) الذي كان يرفض الاحتجاج بحديث الآحاد وإن صح بالإسناد ولا يحتج لديه إلا بالمتواتر وما لم يجده الباحث فالبراءة الأصلية(1 ) وهو ما يجب الأخذ به في عصرنا أيضاً إعمالاً لحكم المادة (47) من الدستور اليمني (أصل البراءة)، وقال (البرذوي): من (الحنفية): ((دعوى علم اليقين بحديث الآحاد باطلة لأن خبر الآحاد محتمل لا محالة ولا يقين مع احتمال ومن أنكر ذلك فقد سفه نفسه وأضل عقله))، وبهذا أخذ أيضاً عدد كبير من الفقهاء ومشايخ الإسلام ومنهم الشيخ (محمد عبده) الذي أكد أن: ((القرآن الكريم هو الدليل الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته أما ما عداه مما ورد في الأحاديث سواء صح سندها أو اشتهر أم ضعف فليس مما يوجب القطع))، كما ذكر الشيخ (محمود شلتوت - إمام الجامع الأزهر) في كتابه (الإسلام شريعة وعقيدة) قوله: ((إن الظن يلحق السنة من جهة الورود (السند) ومن جهة الدلالة (المعنى) كالشبهة في اتصاله والاحتمال في دلالته)).
ويرى الإمام (الشاطبي) في كتابه الشهير (الموافقات) أن السنة لا تستقل بإثبات الواجب والمحرم لأن وظيفتها فقط تخصيص علم القرآن وتقييد مطلقه وتفسير مجمله ويجب أن يكون ذلك بالأحاديث المتواترة لا الآحادية.
يؤيد آراء من سبق ذكرهم ما جاء في (صحيح البخاري) (باب الوصية) وصية الرسول قبل وفاته: عن (طلحة بن مصرف) قال: ((سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل أوصي رسول الله قال: لا. قلت كيف وقد كتب على الناس الوصية أو أمروا بها ولم يوصى قال: أوصى بكتاب الله، قال ابن حجر في شرح الحديث أي التمسك به والعمل بمقتضاه إشارة إلى قوله: تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله. واقتصر على الوصية بكتاب الله لكونه في تبيان كل شيء إما بطريق النص أو بطريق الاستنباط فإذا اتبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم به)).
وحديث (سلمان الفارسي): (الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو عفو لكم).
وأجاب (الشاطبي) في كتابيه الشهيرين (الموافقات) و(الاعتصام) عما أورده الجمهور عليه من قوله تعالى ((وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم))( 2)، بأن المراد من وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إنما هو تخصيصه للعام وتقييده للمطلق وتفسيره للمجمل وذلك بالحديث المتواتر، وإن كل ما جاء به النبي يجب أن يكون من القرآن لقول (عائشة) رضي الله عنها عن النبي (كان خلقه القرآن)، وأن معنى قوله تعالى ((ونـزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء))(3 )، أن السنة داخلة فيه في الجملة، وأكد الإمام (الشاطبي) ذلك بقوله تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء))(4 )، وقد رد على ما استدل به الجمهور مما روي عن النبي قوله: (أيوشك أحدكم أن يقول: هذا كتاب الله ما كان من حلال فيه أحللناه وما كان من حرام حرمناه إلا من بلغه مني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسوله). أن من بين رواة هذا الحديث (زيد ابن الحباب) وهو كثير الخطأ ولذلك لم يرو عنه الشيخان حديثاً واحداً. وجاء بمسلم الثبوت والتحرير: (خبر الواحد لا يفيد اليقين لا فرق في ذلك بين أحاديث الصحيحين وغيرهما).
ومما سبق يتضح أن حديث الآحاد لا يقام بما فرض ولا يستقيم واجب وإنما يؤخذ على سبيل الاستئناس والاسترشاد، كما أن الإيجاب والتحريم لا يثبتان إلا بالدليل اليقيني القطعي الثبوت والدلالة، وهذا بالنسبة للسنة لا يتحقق إلا بالأحاديث المتواترة، وحيث أنها تكاد تكون غير معلومة لعدم اتفاق العلماء عليها فإن السنة لا تستقل بإثبات الإيجاب والتحريم إلا أن تكون فعلية أو تضاف إلى القرآن الكريم.
وعلى هذا فإنه طبقاً للفقهاء المجتهدين المجددين وفي مقدمتهم رواد الفقه الزيدي المعتزلي في اليمن فإن من أنكر استقلال السنة بإثبات الإيجاب والتحريم فهو منكر لشيء اختلف فيه الأئمة ولا يعتبر مما عُلِمَ من الدين بالضرورة فلا يعد المنكر لذلك كافراً، ولا يجوز التقوّل عليه بأنه مرتد وإلا وقع الفاعل في حبائل جريمة السب أو المعاقب عليها في المادة (292) من قانون العقوبات.
الهوامش:
( 1) يوميات يمانية في القرن الحادي عشر الهجري، للمؤرخ العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم.
(2 ) سورة المائدة، الآية (92).
(3 ) سورة النحل، الآية (89).
(4 ) سورة الأنعام، الآية (38).
* أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء
فيس بوك: http://www.facebook.com/drhasan.megalli
بريد إلكتروني: [email protected]
الموقع الإلكتروني: http://hasanmegalli.com//ar/index.php
أحاديث الآحاد والتكفير
أخبار متعلقة