عيد الموجة الثالثة من ثورة يناير على نظام حكم الإخوان إحياء ما طمره النسيان من تاريخ المصريين المديد من احتجاجات وثورات على الطغيان والعوز والمسكنة، لو وضع بعضها فوق بعض لتلاشى الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر على الضيم صبراً طويلاً، إما بحكم خوفه على الأرض، أو نزعته الدينية المتأصلة. ويكفينا برهاناً على هذا أن أول ثورة فى تاريخ الإنسانية جرت على ضفاف النيل العظيم، وكانت من الشمول والقوة والعنف إلى درجة أنها هزت ضمائر، وأثارت اندهاش كل من فتشوا فى ماضى مصر ووثائقها، باعتبارها أول دولة عرفها البشر.ولم يقطع أحد بزمن محدد دقيق لهذه الثورة الخالدة، لكن ما ساقه الحكيم «إيبور يشى» بأنها قد وقعت إبان حكم بيبى الثانى، فى سنوات تتراوح تقريباً بين 2280 و2132 قبل الميلاد. وكان السبب الرئيسي لهذه الثورة العارمة هو تفشي الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعاني من قسوة الجوع، الذي بلغ مداه، حيث أكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعزّ على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه، بعد أن نفدت الغلال من الصوامع، وتُركت الماشية تهيم على وجوهها، فهجم الناس عليها وذبحوها والتهموها، حتى فنيت، ووصل الأمر إلى حد أن الناس كانوا يخطفون القاذورات من أفواه الخنازير. ومات خلق كثر، ملأت جثثهم الشوارع والنهر، حتى أصبحت التماسيح تزاور بعيداً عنها، بعد أن أكلت حتى الشبع.
وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور الحكام والأثرياء، فقتلوا مَن فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران فى كثير منها، وصار الشعار الذى يسري فى البلدات الرابضة على ضفتي النيل هو: «لنقص أصحاب الجاه من بيننا».
وترك الثوار بيوت ذوى المال والسلطة خراباً تنعق فيها الغربان، فصار هؤلاء أذلاء من بعد عز، وجوعى من بعد شبع، وبؤساء من بعد تنعم، وهام كثيرون منهم على وجوههم بلا عمل ولا سلطة. وبلغ الانتقام مداه من أبناء الأمراء وأحفادهم ومومياواتهم. واستولى الفقراء الجوعى على ثروات هؤلاء وتحفهم الثمينة، من دون أن يعرفوا لها قدراً، أو يوجد سبيل لبيعها، بعد أن انهار الاقتصاد تماماً، وانتشرت الأوبئة فى كل مكان.
ويصف «إيبور» انتقام مَن أذلتهم الحاجة ممن تمرغوا طويلاً فى النعمة والجاه فيقول: «من كان يرتق نعليه فيما مضى صار صاحب ثروة.. ومن لم يكن فى مقدوره أن يصنع لنفسه تابوتاً أصبح يملك قصراً.. ومن لم يكن باستطاعته أن يشيد حجرة بات يملك فناء مسوراً.. ومن لم يكن يملك ثوراً صار يملك قطعاناً.. ومن لم يكن يملك حفنة قمح أصبح يملك أجراناً.. وأصبحت ربات الخدور يرتدين الخرق البالية، والعقيلات الشريفات يرقدن على الفراش الخشن.. والسيدات النبيلات اللاتى كن متاعاً حسناً صرن يقدمن أجسادهن فى الفراش.. وأولاد رجال البلاط أصبحوا فى خرق بالية، وأولاد الحكام يُلقون فى الشوارع».
وفى أتون هذه الفوضى سقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونُهبت سجلاتها، وذُبح كبار الموظفين وصار من بقي منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكام لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب، ليجد بيبى الثاني نفسه أمام هذه الحقيقة المرة، بعد أن عاش سنوات طويلة مثقلاً بالأكاذيب، عازلاً نفسه عن شعبه، ومسلماً إياها إلى حاشية لا تجيد إلا فن النفاق والكذب والتضليل، ولم يستمع ويعمل بالنصائح المعبرة الأثيرة التي كان يقدمها الملك الفرعوني خيتى إلى ابنه مريكارع، والتي تقول:
«تحلَّ بالفضائل، حتى يثبت عرشك على الأرض
هدئ من روعك الباكى
لا تظلم الأرملة
لا تجرد أحداً مما يملك
ولا تطرد عاملاً من عمله
ولا تغدر بزميل لك تلّقى معك العلم
ولا تكن فظاً بل كن رحيم القلب
اجعل هدفك حب الناس لك
لا ترفع ابن الشخص العظيم على ابن الشخص المتواضع، بل قرّب إليك الإنسان الكفء
ارفع من شأن الجيل الجديد لكى تحبك الرعية، فالمدينة مليئة بالشبان المدربين، فاجعل من هؤلاء أتباعك، وامنحهم الممتلكات، وهبهم الحقول، وائتمنهم على القطعان».
ومنذ هذه الثورة العارمة، ومصر لم تهدأ رغم ظاهرها الذى فسرناه كثيراً بأنه سلسلة من السكون والخمود، لكن الحركة المصرية هذه لم تأخذ طريقاً واحدة، إنما تنوعت بين الثورات والهبات والتمرد وبين العناد والعصيان والمقاومة والإصرار الصارم على التمسك بالثوابت الوطنية، رغم تعاقب المحتلين، بل استدراج هؤلاء رويداً رويداً حتى يذوبوا فى الروح الثقافية المصرية القوية.
ساعدت روح الحضارة العريقة مصر على أن تحافظ على استقلالها الكامل لزمن مديد يربو على ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من عمرها المعروفة وقائعه لدينا والذى يصل إلى خمسة آلاف عام. وهذا الاستقلال إما كان مصرياً خالصاً حكمت فيه البلاد أسر منها، أو أسر أجنبية، تمصّرت، وتشرّبت روح هذا البلد العريق، وأدركت أنه أمة كاملة، ولذا قطعت تقريباً الحبل السرى بينه وبين الإمبراطورية الكبيرة، أو خففته حتى صار رفيعاً واهياً. وقد حدث هذا أيام الإغريق والرومان، وفى زمن العباسيين والعثمانيين.
وكان هذا الاستقلال فى جلّه الأعظم ثمرة لروح مصر الوثّابة، أو ثورتها المستمرة بأشكال متنوعة، فبعد الثورة ضد بيبى الثانى، قام المصريون عن بكرة أبيهم ضد الهكسوس الغزاة، فخلعوهم من أرض النيل خلعاً، وطردوهم إلى عمق الصحراء البعيدة. ثم جاءت ثورة من نوع آخر، أخذت منحى دينياً وفلسفياً وفنياً خالداً، وقامت على أكتاف إخناتون، الذى نادى بالتوحيد فى وجه تعدد الآلهة، وثار ضد الطقوس الوثنية التى استغلت الدين فى ظلم البشر وتأليه الحكام، ولو قُدر لهذه الثورة أن تنجح لتغير تاريخ العالم برمته. ولما غزا الآشوريون مصر وتزعم باسماتيك ثورة ضدهم حتى هزمهم، وأقام على أنقاضهم حكم الأسرة السادسة والعشرين، التى سلمت الراية لأسرة بعدها خاضت هبات شعبية جارفة ضد الفرس المحتلين، دفع فيها المصريون ثمناً غالياً من أرواحهم الزكية، فى سبيل الحفاظ على نظام حياتهم وطرق معاشهم، التى حاول الفرس تدميرها، حتى جاء الإسكندر الأكبر فأخرجهم من بلادنا، لكنه حل محلهم فى احتلالها.
وجاء الدور على الرومان ليذوقوا نوعاً آخر من كفاح المصريين، الذين وجدوا فى تمسكهم بالمسيحية نوعاً من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين، وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعماري. فلما اعتنق إمبراطور الرومان المسيحية، وجعلها الدين الرسمي لإمبراطوريته مترامية الأطراف، وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد، لكنهم سرعان ما وجدوا مساراً لمواصلة كفاحهم، حين ميزوا مذهبهم الدينى عن مذهب الرومان، فتواصل النضال ضدهم، وقدم الأقباط شهداء لا حصر لهم، ولم تتراخ عزيمتهم فى الدفاع عن رؤيتهم الدينية، رغم مغالاة أعدائهم فى اضطهادهم، بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة، فيما هبّ الصعيد فى ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس.
وأزاح المسلمون ظلم الرومان عن المصريين، لكن قيام الحكام الأمويين والعباسيين بتحويل الدين إلى أيديولوجيا، قاد بعض أمرائهم إلى التعسف مع الرعية، فرفض المصريون هذا التعسف، ولم يكن الرفض مقتصراً على المسيحيين، بل والمسلمون سواء من أصل قبطي أو من العرب الذين سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. لكن مصر ولدت ثورات من نوع جديد، حين أخذت على عاتقها الدفاع عن الشرق وعن الإسلام فى مواجهة المغول والصليبيين، من دون أن تنسى الاحتجاج ضد ظلم بعض الحكام الفاطميين والمماليك والأتراك، ووصل الأمر إلى ذروته حين خلع علماء مصر خورشيد باشا، الوالى العثمانى، وعينوا محمد على بديلاً منه.
وتصدى المصريون للحملة الفرنسية (1798 - 1801) ببسالة وشجاعة، بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون، فقامت هبّتان شعبيتان جارفتان فى القاهرة، أقضّتا مضجع الفرنسيين، وأظهرتا لهم أن بقاءهم فى مصر مستحيل، لاسيما مع فشلهم فى السيطرة على صعيد مصر، الذى خاض أهله نحو اثنتين وعشرين معركة ضد الحملة الفرنسية، علاوة على بعض حركات التمرد والمقاومة التى شملت الصعيد برمته. وحدث الشىء نفسه لحملة فريزر الإنجليزى (1807) الذى انهال أهل رشيد، رجالا ونساء، على حملته ضرباً من كل مكان، وبأى أدوات ممكنة، حتى فر هارباً.
وتحدى أحمد عرابى الخديوى توفيق دفاعاً عن حقوق الضباط المصريين، ثم قاد الفلاحين فى مقاومة عسكرية ضد الاحتلال الإنجليزى، ورغم هزيمته، فإن ما أقدم عليه ألهب الشعور الوطنى لدى المصريين، فشنّفوا آذانهم إلى محمد فريد ومصطفى كامل، اللذين دعيا إلى الثورة، وتحقق الأمل مع سعد زغلول ورفاقه فى ثورة 1919 الخالدة، التى شاركت فيها كل فئات الشعب المصرى، مختلفة الأعمار والنوع والمستوى الاجتماعى والدين، فحصد المصريون استقلالاً نسبياً ودستوراً رائعاً، وتعبّد الطريق أمام ثورة يوليو 1952، التى إن كانت قد بدأت بانقلاب عسكرى، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى ثورة اجتماعية كاملة، أعادت ترتيب الطبقات المصرية، وحررت البلاد من الملكية الفاسدة والاستعمار الغاشم، وألهمت شعوب العالم الثالث برمته روح التحرر والانعتاق.
إن هذا التاريخ الطويل يحمل فى جوفه ثورة دائمة، لكنها طالما توارت خلف تحضر المصريين، وكراهيتهم للفوضى، وقدرتهم على صهر الغريب، وإجادتهم فن المقاومة بالحيلة، وثقتهم فى تدينهم وثقافتهم، فبدا جلّ تاريخ مصر ناراً تستعر تحت الرماد، لا يراها إلا كل ذى عقل فهيم، وبصيرة نافذة. وبعدها جاءت ثورة يناير التى لن تنفكّ إلا إذا حققت مطالبها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ثورات المصريين
أخبار متعلقة