يمثل الحوار قمة العقول الناضجة ،وهو وسيلة مهمة لمعالجة القضايا أكانت لأفراد أو لأسر وللفئات والمجتمعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فالحوار يفرض نفسه على الفرقاء بالقوة، ولحاجة البعض يقبل به بعد تجربة وسائل أخرى تكون أكثر تدميراً مثل الحروب والمشاحنات والخسائر الفادحة بشرياً ومادياً والبعض يحتكم للحوار قبلها، فلا الحرب ولا التدمير يحسم قضايا المجتمعات ولكن الحوار كفيل بذلك ولنا نحن اليمنيين تجربة مريرة مع الحوار منذ خمسين سنة ولكننا لا نعقده إلا بعد أن نخوض الصراع بوسائل أخرى أكثر قسوة من عملية الحوار .
الحوار أمر لابد منه في كل الأحوال والظروف حتى بعد المعارك الطاحنة التي تدمر كل شيء إلا انك تجد طرفي الصراع ينصاعان إلى الحوار لتسوية الخلافات التي عجزت عن حلها الوسائل الأخرى، حتى من اجل أن يسلم المهزوم للمنتصر ويوقع وثيقة الاستسلام أو ينسحب من موضوع الصراع ويتنازل عن حقوقه لابد من الحوار .
إن هذه المسائل بديهية ومجربة وتدل دلالة لا ينكرها أي إنسان سوي على أهمية الحوار فمنذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض آمن بالحوار، وقد أكدت على أجرائه بين المتخاصمين أو الفرقاء كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية كونه أفضل الطرق.
نحن في اليمن وبعد كل هذه الأزمات والمعاناة التي أوجدتها الصراعات والحروب نجد أننا قد اهتدينا اليوم لحل كل قضايا وطننا بالحوار وليس غير الحوار أي خيار آخر إلا أنه من الواجب علينا- طالما ونحن قد وصلنا إلى هذه القناعة التامة ـ الاعتراف الصريح والواضح بكل قضايانا الجوهرية التي ستكون محور مداولات المؤتمر، والاعتراف يعني ان الاطــراف التي ساهمت في بروز هذه القضايا والأزمات والصراعات عليهم جميعاً أن يبتعدوا عن التهرب من المسئولية ورميها على أطراف أخرى، واعتراف القوى الرئيسية بمسئوليتها عن ما آل إليه الوضع من أزمة خانــقة يعني استعدادها للبحث الجاد والمسئول وبموضوعية وشفافية عن معالجات لحلحلة هذه الأزمات المتراكمة التي صنعناها بأنفسنا أو شاركنا فيها أو سكــتنا عليها حتى وصلت إلى ما وصــلت إليه .
القضـــــــية الجنوبيـــة :
القضية الجنوبية وحاملها الســياســي الحراك السلمي الذي انطلـق منذ 2006 م والذي أوصل الجميع إلى الاعتراف بالقضية الجنوبية كقضية سياسية بامتياز ونعترف في السلطة والمعارضة بأننا نحن من دفع الحراك الجنوبي إلى رفع سقوفه إلى ماهي عليه اليوم وان على مؤتمر الحوار الوطني مراجعة هذه المطالب بعقول مفتوحة دون ضيق من خلال اعتراف جميع الأطراف المسئولة بالتالي :-
- أن الوحدة الاندماجية قد فشلت تماماً لأسباب موضوعية وذاتية ظهرت لاحقاً في الأزمة الشاملة التي تلتها في اقل من ثلاث سنوات بين الاطـراف الموقعة عليها.
- كما أن الوحدة بالحرب قد فشلت أيضاً ويجب على الاطـراف المتسببة في الأزمة مابعد الوحدة والحرب تحمل مسئولية ذلك كلُّ حسب موقعه وبعد الاعتراف الصريح من قبل الأطراف الرئيسية والثانوية بمسئوليتها أمام فشل الوحدة الاندماجية والوحدة بالحرب سنجد - خلال مناقشاتنا في الحوار الوطني - البدائل المناسبة والممكنة لحل هذه المشكلة الوطنية المعقدة باعتبارها الأولى على كل القضايا .
الأزمة الوطنـــــية :
إن الأزمة الطاحنة التي انـدلعت بقوة في مطلع 2011م لم تأت دفعة واحدة بل كان لها أسبابها ومقدماتها السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتي كانت تتراكم يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر وعاماً بعد عام والكل يعرف ذلك ومن أهم الأسباب والمقدمات هو فقدان الدولة لهيبــتها وعجز كل القوى السياسية أكانت في الحكم أو المعارضة عن القيام بدورها في قيادة وإدارة الدولة والمجتمع وهذا أمر لا اعتقد أنه كان خافياً على احد ، كما سبق هذه الأزمة حروب صعدة العبثية وانتشار قوى التطرف والإرهاب والخلافات السياسية الحادة بين القوى السياسية الرئيسية في البلاد وفقدان كثير من مقومات الدولة وحالة الفقر والحرمان التي يعانيها الشعب اليمني .
لقد كادت تلك الأزمة أن تؤدي بالوطن والدولة ليس فقط إلى حافة الهاوية بل كادت أن تصل به إلى الانهيار الكامل وإلى الدخول في حروب أهلية مدمرة وقد اتى ذلك بعد أن توازنت القوى في كل خطوط المواجهة بكافة الطرق والأساليب المدنية والعسكرية ,عند هذه النقطة بالذات اعترف جميع أطراف الأزمة بان النظام قد فشل في الاستمرار في قيادة الدولة والمجتمع على طريقته السابقة كذلك تم الاعتراف ولو ضمنياً بان الثورة قد فشلت ومعها كل القوى الحزبية والسياسية في اقتلاع النظام وفرض شرعيتها الجديدة فكان لابد- بعد هذا الفشل والانكسار الذي أصاب كل القوى المتنازعة حاكماً ومعارضة - من البحث عن مخرج يتم من خلاله إنقاذ الجميع وفي تلك اللحظة أتت المبادرة الخليجية التي ارتضاها ووقع عليها جميع أطراف الأزمة وعلى الجميع الاعتراف بهذه الحقائق حتى نبحث في الحلول .
إن ذلك يعني لنا في مؤتمر الحوار الوطني أن نبحث عن حلول لما عاناه اليمــــن خلال أكثر من خمسين عاماً من الحروب والصراعات التي تراكمت وأوصلتنا إلى ماوصلنا إليه من أزمة حادة لذلك علينا ـ كما سبق أن قلت ـ أن نبحث عن مخارج وحلول تخرجنا من هذه التجربة بالغة القسوة إلى رحاب الدولة اليمنية المدنية الحديثة التي ينعم فيها كل أبنائها بالعدل والمساواة .
إننا إذا ما أردنا أن نصل إلى صنع مستقبل أفضل والخروج من هذا الحوار الوطني الشامل بمخرجات تؤسس لليمن الجديد ولذلك المستقبل فعلينا أن نتحدث بشفافية في جميع حواراتنا حول كل القضايا المدرجة في جدول أعمال هذا المؤتمر .
إنه من الواجب علينا في هذا المؤتمر أن نبحث في صيغة وحدوية جديدة يقبل بها الشعب في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، نبحث عن دولة اتحادية فيدرالية يحميها ويحافظ عليها الدستور والقانون وأبناؤها الذين سيحكمون أنفسهم قولاً وعملاً في دولـــة فيدرالية مهابة عادلة مؤسساتية في ظل تعددية سياسية واجتماعية وثقافية وفي إطار كل إقليم إدارة ذات حكم محلي يتمتع باستقلالية تامة مالية وإدارية حتى ننهي وإلى الأبد المركزية الشديدة والشمولية ولفتح المجال واسعاً أمام الحكومات المحلية في الأقاليم والمحافظات كي تتبارى في صنع مستقبلها الإداري والاقتصادي والأمني لتكون نموذجاً في الحياة الأمنية المزدهرة التي يحكمها القانون ولاغـــير القانون .
وهذه الوحدات سيضمن بقاءها وتطورها ووحدة هويتها وكيانها الجغرافي الدستور والقانون الذي يحكم الكبير والصغير والحاكم والمحكوم .
إن من يصرون على بقاء الوحدة بشكلها القائم يتساوون مع من ينادون بالانفصال ويلتقون معهم في نهج واحد لتدمير اليمن واستمرار ازمته التي كادت أن تعصف به. إنه من الواجب علينا أن ننظر إلى ماخلفته المركزية الشديدة والمبالغ فيها من انعكاسات سلبية أدت إلى ما أدت إليه من احتقانات وإحساس بالغبن وقصور في التنمية لذلك يجب أن تنتهي هذه المركزية الشديدة .
ظواهر جديدة في الحوار :
إن هناك قضايا جوهرية جداً تميز هذا الحوار عن كل الحوارات والتجمعات التي عرفناها أو قرأنا عنها منذ مايزيد على خمسين عاماً.
إنه ولأول مرة لايشكو المجتمعون من المؤامرات الخارجية التي تحاك ضد الشعب اليمني وثورته واهدافه التي ظلت ترافق الخطاب السياسي أكثر من نصف قرن وإنما نشكو في هذا المؤتمر من أنفسنا ومما خلفته لنا أنظمتنا السابقة واللاحقة والحالية.. إنها شكوى محلية خالصة وليس للخارج فيها أي ذنب كما كنا في الماضي نحمل الخارج كل عيوبنا، وهذه ظاهرة جديدة مهمة للغاية ومشجعة وتدل على أننا بدأنا نعرف ونشخص الداء الصادر من أنفسنا وبالتأكيد سنجد له العلاج الناجع من خلال الحوار المسئول .
* ولأول مرة لانكيل المديح للإنجازات العملاقة التي كنا نكيل لها المديح على مدى السنوات الماضية في ظل مجاملات وتزلف للقيادات التاريخية وانجازاتها .
وإنما نسمع المتحدثين والمجتمعين يقدمون شرحاً وتفنيداً ونقداً لجوانب القصور والسلبيات وبدون خوف أو مجاملة وفوق ذلك أنهم يقترحون الحلول وهذه ايضاً ظاهرة جديدة تميز الحوار الوطني الشامل.
إننا ولأول مرة يقول كل واحد من المجتمعين رأيه بصراحة دون محاباة أو مجاملة ونطرح مايعجبنا ومالم يعجبنا, وأول مرة نقول كل مانريد قوله وجهاً لوجه دون محاباة وهذا من وجهة نظري سيوصلنا إلى نتائج ايجابية بإذن الله وإلى حل عادل و مرضٍ لكل قضايا الوطن. لقد كان المتحدثون قبل هذا المؤتمر يتكلمون حول القضايا محل الإجماع وما يرضي بعضهم البعض أو مايرضي الحكام فقط وهذه من الأسباب السيئة التي ساعدت بل كانت من العوامل الرئيسية التي اوجدت لنا أزمات متلاحقة .
إلا أن تلك الظواهر الجديدة والهامة بها ندخل مدرسة من مصارحة الذات والآخر مما يعني قبولنا ببعضنا البعض دون تجريح أو انتقاص أو استهزاء ولكن علينا التحاور الهادئ والمناقشة الجادة بمعنى الحجة بالحجة وبالعقول لا بالعواطف حتى نصنع مستقبل هذا الوطن العظيم انطلاقاً من اعترافنا ببعضنا وبأنه لايوجد بينا ملائــكة وشـــياطين كما كنا نتعامل في الماضي .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
* ورقة قدمها الكاتب الى مؤتمر الحوار الوطني الذي يشارك فيه عن قائمة رئيس الجمهورية
الحوار يمثل قمة العقول الناضجة *
أخبار متعلقة