تمر علينا هذه الأيام الذكرى العاشرة لسقوط بغداد بعد عدة أيام من الغزو
الأميركي والبريطاني الأطلسي الذي استهدف احتلال العراق في العشرين من شهر مارس 2003م ، وانتهى بسقوط نظام الرئيس صدام حسين واحتلال العراق أرضاً وجواً وبحراً في مطلع ابريل من العام نفسه .
منذ ذلك التاريخ سالت دماء كثيرة على الأرض وتغيرت أوضاع وتبدلت موازين على نحو ما جرى ويجري في المشهد العام للعراق الجريح.
والحال ان دروساً كبيرة يمكن تعلمها من الأخطاء والتناقضات والالتباسات التي رافقت المواقف العربية إزاء الحرب التي تعرض لها العراق قبل عشر سنوات، ولا يزال يحترق بنيران تداعياتها وتوابعها المدمرة في الوقت الراهن وفي مقدمتها الارهاب والصراعات الطائفية والمذهبية .
وبالنظر إلى الدور الذي يلعبه الإعلام العربي والعالمي حالياً في تغطية المشاهد الدامية والأحداث المأساوية في العراق من جهة، وشحن مفاعيلها الداخلية والخارجية من جهة أخرى، بوسعنا القول أن ثمة دروساً يمكن تعلمها من تجربة كل من الإعلام العربي والإعلام الغربي في تغطية وقائع الحرب العدوانية الغاشمة التي تعرض لها العراق قبل عشر سنوات ، وتعرضت لها ليبيا قبل عامين ، وكادت أن تتعرض لها سوريا لولا ثبات الفيتو الروسي والصيني وصمود الجيش السوري في وجه المقاتلين الأجانب ومرتزقة الحروب بالوكالة ، من مختلف الجنسيات بدءا بشركة بلاك ووتر وانتهاء بجبهة النصرة وتنظيم أنصار الشريعة.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول أن الذين تابعوا ما كانت تبثه القنوات الفضائية العربية، بشأن وقائع الحرب التي تعرض لها العراق قبل عشرسنوات، وقارنوها بشكل ومحتوى ما كانت تبثه القنوات الفضائية الأميركية والبريطانية والأوروبية عموماً في تلك الفترة، سيلاحظون ان فضائياتنا العربية بالغت في التركيز على وقائع القصف الجوي والصاروخي للقوات الغازية، بينما كانت الفضائيات ووسائل الإعلام الأميركية والأوروبية تركز على وقائع الحرب من جميع جوانبها، وتسعى إلى معرفة الأبعاد الغائبة للحقيقة واكتشافها.. وفي سبيل الوصول إلى هذا الهدف وضعت الفضائيات ووسائل الإعلام الغربية أسئلة من العيار الثقيل تصل إلى مستوى المساءلة، بصوت هادئ لانجد فيه أثراً للانفعال والصراخ والزعيق.
ولا نبالغ حين نقول أن شكل ومحتوى ما كانت تبثه الفضائيات الأميركية والبريطانية والأوروبية كان يتكامل مع ردود افعال الرأي العام في المجتمعات المتحضرة ضد تلك الحرب القذرة ، باتجاه التأثير على اتجاهات ومواقف الرأي العام والمشاركة الفاعلة في صناعة القرار السياسي والعسكري في تلك البلـــدان !!
بصرف النظر عن ما كان يقال هنا وهناك حول الحرب التي أفقدت العراق سيادته واستقلاله واستقراره، فقد اتضح لنا أيضاً أهم فرق يُميز جمهورنا العربي الذي يتلقى الرسائل الإعلامية المرسلة إليه من القنوات الفضائية العربية حول ما كان يدور فوق أرض العراق من حرب مُدمـّرة وظالمة، عن الجمهور الأميركي والبريطاني الذي كان يتلقى ــ هو الآخرــ رسائل إعلامية مختلفة حول وقائع هذه الحرب، لجهة مقاربتها بإشكاليات التعاطي الإعلامي مع المشهد السياسي والعسكري الراهن في العالم العربي بماهو امتداد للحرب العدوانية على العراق ونتائجها.!!
الفرق المهم يتعلق بدور ومكانة الإعلام والرأي العام في العملية السياسية بما هي وجه آخر للحرب وإمتداد مُتغير لوقائعها الحربية ونتائجها الميدانية بوسائل أخرى.. وبوسع الذين تابعوا قبل عشر سنوات الرسائل والتعليقات التي كان يبثها من أرض المعارك مراسلو قناة CNN وقناة NBC وقناة BBC باستثناء شبكة FOX NEWES التي كانت تشبه القنوات العربية الفضائية ـــ باستثناء القنوات اليمنية والسورية ــــ في انحيازها لوجهة نظر البنتاجون ووزارة الدفاع البريطانية، ثم يقارنون بين تلك الرسائل والتعليقات وبين ما كان يبثه مراسلو القنوات الفضائية العربية، بوسعهم أن يكتشفوا الفرق بين رسالة الإعلام عندنا وبين رسالته عندهم، وبالتالي الفرق بين دور الرأي العام عندنا وبين دوره عندهم أيضاً!!.
مراسلو فضائياتنا العربية انفردوا منذ بدء الحرب على العراق، ببث خطب دعائية نارية وحماسية تحوّلوا بتأثيرها من صحافيين مفترضين إلى جنرالات وضباط في شؤون التوجيه المعنوي والدعائي والحرب النفسية في زمن الحرب، بينما كان مراسلو الفضائيات الغربية يتحدثون بمهنية وموضوعية وصوت هادئ، ثم يسلطون الأضواء على مختلف جوانب المعارك الدائرة بين الطرفين، ويتحفظون عن عرض المعلومات التي يحصلون عليها سواء من المصادر الأميركية او البريطانية او العراقية قبل سقوط نظام الرئيس صدام حسين. كما كانوا يبدون في الوقت نفسه ملاحظات انتقادية على أوضاع القوات الأميركية والبريطانية الغازية التي رافقوها في مختلف مراحل العدوان على العراق، منذ إن أطلق الجنرال فرانكس شرارة هذه الحرب من غرفة العمليات المشتركة المجاورة لقناة ((الجزيرة)) الفضائية في مدينة الدوحة عاصمة دولة قطر !!!!!
كان مراسلو فضائياتنا العربية ظاهرة صوتية، فيما كانت رسائلهم الإعلامية تشبه أصواتهم الصاخبة بإمتياز.. ولهذا السبب فقد كانت الاستجابة العائدة من قبل الرأي العام العربي تأتي هي الأخرى من صنف الفعل نفسه.. بمعنى أنها هي الأخرى كانت ظاهرة صوتية صاخبة !
كان الإعلام والرأي العام في العالم العربي يتحركان معاً في منطقة يغيب عنها وعي الحقيقة وتسودها التهويمات والمبالغات والشطحات إلى درجة أن أحد ((المحللين الاستراتيجيين)) الذين أتحفتنا بهم قنواتنا الفضائية العربية خلال الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية ضد “طالبان” و“القاعدة” عام 2001م ، كرر أثناء الحرب على العراق عام 2003 ما نسي أنه قاله في عام 2001 أثناء الحرب على نظام حكم طالبان في أفغانستانــ أي قبل عامين من الحرب على العراق ــ حين قال بصوت خطابي حماسي لا يمت بصلة لأصوات المحللين الإستراتيجيين ــ : (( لقد سقطت ورقة التوت التي كانت تغطي عورة الأنظمة العربية.. وأصبح من واجب الشارع العربي والإسلامي أن يتقدم ليسقطها.. ويحرر بلداننا وأراضينا العربية من الاحتلال الاسرائيلي و القواعد الأجنبية والوصاية الاميركية والاوروبية الاستعمارية.. وسوف يفعل ذلك لا محالة قريباً بل وقريباً جداً))!!
في العالم الغربي يستقبل الرأي العام رسائل إعلامية مهنية تحترم عقل المتلقي، فيما يمارس الإعلام دوراً وظيفياً يُجسد سلطة العقل الباحث عن الحقيقة.. ولذلك فإن الرأي العام هناك لا يعتبر ظاهرة صوتية صاخبة، شأنه في ذلك شأن الإعلام، الأمر الذي جعل كلا من الإعلام والرأي العام قوةً سياسية تساعد ليس فقط على البحث عن الحقيقة واكتشافها، بل ومساءلة الحكومات وصُناع القرار وممارسة الضغوط عليهم والتمهيد لمحاسبتهم !!
مشكلتنا تكمن في أن إعلامنا العربي ينطلق من إرث ثقافة سياسية شمولية أدمنت على الإقصاء والصراخ ومخاطبة العواطف والزعم بامتلاك الحقيقة والإفراط في توجيه الإتهامات الكيدية للمخالفين يميناً ويساراً، الأمر الذي يؤدي بالضرورة الى أن ينفعل الرأي العام العربي تحت تأثير هذا الخطاب الإعلامي الذي يجسد خواء وضحالة واستبداد الثقافة التي تنتجه وتعيد إنتاجه بشكل عبثي. ثم يأتي رد فعل الرأي العام هائجاً وصارخاً ومنفعلاً ومستبداً، دون أن يكون لكل منهما ــ الإعلام والرأي العام ــ أي تأثير على مفاعيل التغيير في الواقع.. بينما إعلامهم ــ في الغرب ــ يخاطب العقل الإنساني والضمير الجمعي، ثم يعرض وينتقد بهدوء وموضوعية، ويساعد بالضرورة على تشكيل رأي عام موضوعي ومتوازن وفاعل في الوقت نفسه.. فهو اليوم مع سياسة صُنـّـاع القرار في بلاده، وبعد فترة أقل حماسة لها ولهم، وفي وقت لاحق ربما يكون ضدها وضدهم، ومثل هذا الرأي العام لا يعرف شعارات مطلقة مثل ((بالروح والدم نفديك يا فلان )) سواء قبل الحدث أو بعده، والسبب هو انه لا يتلقى خطاباً إعلامياً إستبدادياً يحرضه على الموت في سبيل أن يحيا ذلك ((المفدّى)) الذي ينفرد دون غيره باحتكار الحكمة والحقيقة والصواب !!!
تبعاً لما تقدم نـُدرك جيداً لماذا يخشى صُنـّاع القرار السياسي والعسكري في الغرب سلطة الإعلام والرأي العام، لأن الناس الذين يخاطبهم الإعلام هناك، ويؤثر في تشكيل مواقفهم واستعداداتهم وإختياراتهم، ليسوا مستعدين للموت فداء ً لصانع القرار في زمن الحرب أو السلم، كما هو الحال عندنا في العالم العربي والإسلامي!!
ثمة أوضاع مشوهة للوعي والواقع في عالمنا العربي.. ولعل من أبرز مظاهر هذا التشوّه ان الأنظمة العربية التي شاركت سراً في الحرب العدوانية على العراق لم تجد حرجاً في أن تسمح لقاعدة عسكرية أميركية بإطلاق قاذفاتها وصواريخها لقصف القوات العراقية وقتل العراقيين وهدم منازلهم ومنشآتهم الحيوية.. وأن تسمح لقاعدة عسكرية أخرى بقيادة العمليات المشتركة بين القوات والجيوش والأساطيل الأجنبية التي شاركت في العدوان على العراق من عدة بلدان وبحار ومحيطات مجاورة للعراق، وإقامة المؤتمرات الصحفيــــة لجنرالات هذه القاعدة بهدف تمكينهم من عرض “انتصاراتهم”.. ثم تقوم في الوقت نفسه بتمويل ((قاعدة فضائية تليفزيونية عربية)) لتصوير ضحايا الطائرات والصواريخ التي تنطلق من أراضيها، والتباكي عليهم وعرض الصور المؤثرة لجنازاتهم التي يسير في مقدمتها مراسلو الفضائيات التي تجاور قواعد الموت في البلدان التي تمول هذه الفضائيات، وشاركت سراً في تلك الحرب.. وكذلك فعلت دول أخرى. ومن نافل القول ان تلك المشاهد بقدر ما مهدت لاحتلال العراق ، بقدر ما مهدت أيضاً لسقوط نظام الحكم السابق في العراق تحت الاحتلال، وأسر رئيسه صدام حسين وصولاً إلى قتله بعد أربع سنوات من تلك الحرب، ثم البكاء عليه في مآتم العزاء بعد إعدامه!!؟؟
كلمة لا بد منها
يبقى القول ان إدانة الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق، لا يعني دفاعاً عن النظام السياسي الذي كان يحكم العراق قبل أربع سنوات، أو تبنياً لسياساته كما يفعل أنصاره ومريدوه.. فلذلك النظام أخطاء ٌقاتلة ومدمرة تسببت في إضعاف العراق ومحاصرته واستنزاف قدراته.
وما من شك في حاجة الشعب العراقي بكل قواه الوطنية والقومية وشرائحه الاجتماعية وطوائفه الدينية لإصلاح الأوضاع الناجمة عن تلك السياسات الخاطئة التي ألحقت بالعراق أضراراً فادحة وفي مقدمتها سقوطه تحت الاحتلال الأجنبي وتداعياته الخطيرة التي أحرقت الأخضر واليابس في العراق المحتل من قبل دول أجنبية بعيدة ومجاورة !!
بيد أن الإصلاح شيء والإحتلال والوصاية الأجنبية شيء آخر.. الأول قضية قابلة للنقاش والاختلاف وتداول الخيارات والأفكار بحرية تامة، أما الآخر فهو خطر حقيقي على الحرية والسيادة والاستقلال ، لا يقبل النقاش والاختلاف، الأمر الذي يستدعي كفاحاً صبوراً في سبيل تحرير الأرض من الاحتلال الأجنبي الغاصب وإيقاف التدخلات الخارجية، وإستعادة الحرية المغتصبة والاستقلال المعتدى عليه من قبل قوى خارجية عديدة.
وعندما تـستعاد الحرية بتضحيات جسيمة، سوف تبرز من جديد حاجة الناس لاصلاح ما أفسده الاحتلال والتدخلات الخارجية والنعرات الطائفية والعرقية، بالإضافة إلى ما أفسدته السياسات الخاطئة للنظام السابق، والتي تسببت في تعريض العراق العظيم للانقسامات الداخلية والحروب المتتالية، ومهّدت الطريق للحصار والعدوان والاحتلال، وصولاً إلى المشاهد الدامية والخطيرة في العراق الجريح بعد عشرسنوات من ضياع السيادة والاستقلال.
في الذكرى العاشرة لاحتلال العراق : البكاء على الأطلال
أخبار متعلقة