للمعنيين فقط
عندما اختص الله الصوم بان جعله له وهو يجزي به، لم يكن بحاجة لأن يترك المسلم الطعام والشراب طيلة أيام نهار رمضان المبارك ولا لأن يظهر أحقيته بالعبادة دون غيره. وإنما أراد الله أن يمن على خلقه وأن يفيض عليهم ويشملهم برحمته ورأفته وعطائه وحبه. وأن يزكيهم بالفضائل والخير في محياهم وبعد مماتهم. لإطلاعه بدقائق خفايا ضعف وقوة الإنسان. وانفراده في مده بما يمكنه ويعينه على تخطي نقاط ضعفه وعجزه، ومحبطاته. وصولاً إلى مراتب يكون فيها جديراً بمكانته ودوره وفعله كإنسان أورثه الله الأرض وأمنه عليها ليكون سبباً في بنائها وصلاحها وجمالها لا سبباً في دمارها وخرابها وتشويهها.وهكذا ينبغي على كل مخلوق ميزه الله بالعقل وحسن الخلق، أن يدرك الحكمة من وراء وجوده على الأرض، وأولها وفي مقدمتها الإيمان بالله الخالق المبدئ المنشئ المكون الرحمن الرحيم الهادي المبين. وذلك عن طريق اتباع أوامره واجتناب نواهيه على نحو خلاق ومبدع وحصيف، بمعنى أن لا يسلم تسليماً ببغاوياً بكل ما يصله ويبلغ فيه ويقوم به فيكون ضعيف الإيمان ومعيقاً وغير نافع. إذ عليه أن يكون عقله وقناعته ويقينه وأحاسيسه ومشاعره حاضرة في كل ما يعمله ويتبعه ويمارسه فيكون إيمانه قوياً ونافعاً وخلاقاً.فما علاقتنا مثلاً بفريضة الصوم؟ هل تنتهي علاقتنا به وظهورنا عليه عند الإمساك عن الطعام والشراب؟ أم أننا مطالبون بان نذهب إلى أبعد وأعمق من ذلك؟ لا شك أن الإمساك عن الشراب والطعام ليس إلا إطاراً عاماً وملمحاً ظاهرياً لمعاني وإسرار الصوم التي علينا أن نبلغها ونبلغ بها. ومدخلاً للوقوف على معجزات أوسع وأشمل علينا بيانها والاجتهاد بالإحاطة بها وبداية مقدمة لمنافع مادية وروحية لابد من تبنيها والاغتراف من منافعها. وحتى يستقيم صومنا ونبلغ أجره عند الله يكون من الملزم علينا أن نعرف ما يعنيه الصوم والإمساك؟ وما سبب أن ميزه الله عن غيره من العبادات بأن جعله بينه وبين من يقوم به من عباده المؤمنين؟ وهذا ليس إلا سؤالا من مئات الأسئلة التي لا يصعب تتبعها وذكرها في هذا الحيز وحسب بل يعجز جهلي وقلة معارفي وتواضع إلمامي بكل الإجابات المتعلقة بهذا السؤال. لذا أحببت أن أفيد بقدر ما اعتقدت أنني استفدت منه وتوصلت إليه بهذا الخصوص. فأقول مجيباً:إن الصوم والإمساك يعني الامتناع عن تناول الطعام والشراب وكل ما يفطر من قول سيئ وفعل معيب، وعدم الانجرار وراء الملذات والشهوات. وهو الصوم عن الإضرار بالآخرين أو غشهم أو الانتقاص منهم أو عدم التفاعل مع محنهم ونوازلهم. فلا يكون الصائم صائماً إذا لم ينأ بنفسه عن الحرام والحقد والضغينة، وإذا لم يبش في وجه جاره وأهله ومشاركه في الطريق والسوق والعمل، ولا يكون الصائم صائماً إذا لم يأمن غيره بوائقه وخداعه وغدره، ولا يكون قد صام من تظاهر بصومه وأثقل على أهله ومن يلقاه بسبب صومه.