لعل جون كيري وزير الخارجية الأمريكية، قد ضرب الرقم القياسي بين كل وزراء الخارجية السابقين للولايات المتحدة، في عدد زياراته للمنطقة العربية وللشرق الاوسط . ولعله أيضاً، وحتى الأن، قد ضرب رقماً قياسياً آخر في عمليات الضغط التي يقوم بها على المتفاوضين من الجانبين الفلسطيني و«الإسرائيلي» للوصول إلى حل سياسي نهائي أو شبه نهائي للصراع العربي- «الإسرائيلي»، وفي مدى منظور، حدده بتسعة أشهر .ومع أن مهمة كيري هذه كانت تبدو منذ انطلاقها، مهمة مستحيلة، فإنه يفاجئنا في هذه الأيام، وقبل أشهر من الموعد النهائي المحدد للمسألة، بتعبيره عن علامات تفاؤل بالنجاح تبدو أمامه في افق المفاوضات .أما من جهتنا نحن العرب، فإن علينا أن نأخذ حذرنا كاملاً من علامات التفاؤل الأمريكي هذه، لأسباب عدة، أهمها أننا أمام عملية تبعث على الريبة والشك إلى أبعد الحدود .لقد مر على ولادة الصراع العربي - «الإسرائيلي» حتى اليوم خمسة وستون عاماً، إذا حسمنا فترة الصراع التي سبقت ولادة دولة «إسرائيل». وقد عرف الصراع في مختلف مراحله أكثر من محاولة دولية لإيجاد تسوية سياسية له، لكنها كلها باءت بالفشل لأن الجانب الذي يملك القوة، كان (وما زال) دائم الانحياز إلى الجانب الصهيوني في الصراع، ولأن العرب قلّما انطلقوا إلى مثل هذه المحاولات للتسوية السياسية، من قاعدة امتلاك استراتيجية عربية، ترسم كيفية إنهاء الصراع وفقاً لمصالح الشعب الفلسطيني والأمة العربية .وفي هذا المجال، فإننا لو حاولنا توصيف هذه الجولة الأخيرة من المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة رعاية مباشرة يتولاها جون كيري، فإن بالإمكان وصفها، بأنها الاسوأ حتى الآن، منذ عقدين من الزمن، أي منذ بداية تطبيق اتفاقيات اوسلو .فالأنظمة العربية بمجملها تجد نفسها في هذه الايام بالذات، في أبعد نقطة عن الاهتمام الجدي بقضية فلسطين، بل في نقطة الإسقاط النهائي لأي مسؤولية لها في هذه القضية .هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن اختبار موعد هذه الجولة من المفاوضات قد تم في ذروة الانقسام الفلسطيني، كما في ذروة تحولات دولية وإقليمية تشير بوضوح، إلى تراجع للنفوذ الأمريكي المباشر في المنطقة .بكلمة واحدة، يمكن القول إن الإدارة «الأمريكية» التي تدير جولات كيري المتلاحقة للضغط على مفاوضات التسوية، إنما اختارت الظرف الاسوأ للمصلحة الفلسطينية والعربية والظرف الأفضل للجانب «الإسرائيلي» . وفي تلاقي مثل هذه الظروف، فإن اللهفة الأمريكية تبدو طبيعية لتسريع الضغط على مجرى المفاوضات الفلسطينية- «الإسرائيلية»، قبل أن يتغير الظرف، ويستعيد العمل الفلسطيني وحدته السياسية، وينطلق الوطن العربي إلى وضع أكثر تماسكاً، بعد أن تستكمل مصر العربية عملية استقرارها السياسي، وانتقالها نهائياً من مرحلة الغياب الكامل لدور مصر العربي في عهد مبارك، إلى مرحلة الحضور الكامل لدور مصر العربي، وكذلك قبل مزيد من التحولات الإقليمية وآثارها غير الإيجابية بالنسبة للمشروع الصهيوني .إن المفاوضات الفلسطينية - «الإسرائيلية « الراهنة، إذا تسارعت باتجاه تسوية نهائية، غير مرشحة إلا إلى إفراز نتيجة وحيدة هي التصفية النهائية لكل الحقوق العربية والفلسطينية الأساسية في مجرى الصراع العربي- «الإسرائيلي» .إنه تفاؤل أمريكي يدعو إلى تشاؤم عربي وفلسطيني، خاصة ونحن ندرك أن السلطة الفلسطينية تخوض هذه المفاوضات، بعد أن فقدت من يديها كل أوراق القوة، بحيث لا تملك أي قوة ترد بها أي ضغط لتقديم المزيد والمزيد من التنازلات، حتى لا يبقى شيء يمكن التنازل عنه سوى القضية نفسها .إنه التفاؤل الذي يدفع إلى ذروة التشاؤم .
التفاؤل الذي يدفع للتشاؤم
أخبار متعلقة