من الواضح أن مركزية الدولة وترسيخها في ذهن ووجدان المواطن المصري قد حصر الصراع على هوية الدولة، ولكنه لم يمتد بعد إلى كيان ووجدان الدولة ذاتها. فرغم الأزمة السياسية الراهنة التي تعصف بمصر لم يناد ولم يفكر أحد بمطالب تمس وحدة كيان الدولة، وحتى المكون الاجتماعي القبطي لايرى نفسه إلا من مصريته أولاً، ثم تأتي بعد ذلك مسألة الديانة.وذلك ما يعني أن الحركة الوطنية المصرية محصنة بسياج صلب ومنيع، حيث يحصر حركتها في التفاعل داخل الإطار الوطني وحول القضايا الوطنية التي لم تحسم بعد مثل قضايا ( هوية الدولة - والسياسة الحكومية - والسياسة الخارجية ). كما أن من الواضح أن المؤسسات الوطنية المصرية كالجيش والقضاء والأجهزة الأمنية هي مؤسسات راسخة وعصية على الاختراق أو التدجين ومؤسسات حالت دون انزلاق مصر إلى الوضع السوري أو الليبي أو اليمني. ولعل الثابث في مصر هو مركزيتها ووطنيتها ومؤسساتها ، وذلك ما يجعل القوى السياسية المصرية محكومة بهذه المعادلة الثلاثية .. هكذا كانت في الماضي وهكذا هي اليوم وستظل كذلك إلى أمد غير منظور. وعلى الرغم من تميز عهد الزعيم جمال عبدالناصر كحاكم فرد وذي شعبية عارمة تجاوزت حدود مصر، إلا أنه كان في الوقت نفسه يدرك حدود حركته، فمثلاً حين هزم في عام النكسة العربية 1967م قرر الإنسحاب من المسرح السياسي إلا أن عاطفة المصريين أخرجتهم إلى الشوارع مطالبين ببقائه في الحكم بدلاً من محاسبته ، كما أن السادات الذي كان يتمتع بسلطات مطلقة لم يتدخل في أداء المؤسسة العسكرية المصرية رغم أنه يعد أحد أبنائها ، ولذلك فقد ظلت هذه المؤسسة تمارس عملها بمهنية خدمة وكان قرار الحرب عام 1973م قراراً عسكرياً مدروساً ولم يكن للسادات فيه سوى إعلانه بصفته رأس النظام ، والأمر ينطبق كذلك على الرئيس المصري السابق مبارك فعلى الرغم من أنه مضى في مشروع التوريث وتمادى فيه إلا أنه لم يحاول الاقتراب بمشروعه هذا من المؤسسة العسكرية ، فكان الرجل يدرك حدود حركته آنذاك. إن مشكلة الإخوان في مصر أنهم لم يقرؤوا تاريخ مصر جيداً، فبعد وصولهم إلى السلطة بدؤوا وبتلهف عجيب وفي إطار سياسية التمكين في محاولة محمومة للسيطرة على المؤسسة العسكرية وعندما لم يفلحوا حاولوا اختراق اذرعها الأمنية والاستخباراتية وعندما اخفقوا في ذلك عمدوا إلى محاولة ضرب هذه المؤسسة ومشاغلتها بوظيفة جانبية تمثلت في ملاحقة الجماعات الإرهابية التي جلبوها إلى محافظة سيناء من مختلف أصقاع المنطقة العربية بمساعدة حركة ( حماس ) والمنظمات الجهادية الأخرى، وعندما تبين لهم أن تلك الإجراءات غير كافية لإعاقة دور المؤسسة العسكرية وصرفها عن مهامها الوطنية رضخوا للأمر الواقع وأخذوا في الأيام الأخيرة من حكمهم لمصر بامتداح المؤسسة العسكرية والثناء عليها ولكن بعد فوات الأوان. ومن جانب آخر لم تحاول القوى الليبرالية إعادة تنظيم نفسها في حزب سياسي يحظى بشعبية واسعة تستطيع به خوض غمار الحياة السياسية وتجعل منه رافعة سياسية قوية في معادلة الصراع على السلطة مع القوى التقليدية أو ما يعرف بالإسلام السياسي الأكثر تنظيماً منها، بل ظلت في حالة شتات غير مبررة، وفي الجانب الآخر لم يحاول الشباب الذين برهنوا على قدرتهم اللامحدودة على إسقاط نظامي مبارك ومرسي بحشودهم غير المسبوقة التي أذهلت العالم أجمع لم يحاولوا صناعة رافعة سياسية حزبية تمثلهم ويكون لها طابع الاستمرارية والحضور اليومي حتى يكونوا معادلاً موضوعياً حاضراً في الحياة السياسية المصرية لا مجرد عاصفة عابرة تهوي بالنظام المغضوب عليه ثم لا تلبث أن تتلاشى في الآفاق. إن إعجاب الشباب المصري بالفريق أول السيسي وتنامي شعبيته في أوساطهم وفي الشارع المصري عموماً يجب ألا يدفعنا التركيز على شخصيته دون فهم أفعاله الوطنية مع احترامنا الشديد للدور الوطني والعروبي الذي اضطلع به هذا الرجل وانحيازه الواضح إلى مصر والجماهير المصرية.. لأنه إذا كان البديل هو شخص السيسي فلم الإطاحة بمرسي إذا، فلا جدوى من تكرار تجربة جمال عبدالناصر ، لأن (الكاريزما) ليست هي البديل أو الحل، فالبديل الحقيقي لا يجب أن يكون سوى المؤسسات. ومن هذا فإن على القوى الحداثية بشقيها الحزبي والشبابي أن تعي دورها التاريخي وتدرك أن ماهو مطلوب منها ليس مجرد إسقاط نظام ، وإنما بناء مؤسسات حزبية راسخة تقود عملية التنمية وتلج بمصر إلى عالم الدول الصناعية المتقدمة والفنية وذات التوجه الديمقراطي الراسخ والمستقر. وهذا هو بظني الهدف الجوهري الذي لا ينبغي أن يغيب عن أذهان قادة ثورة (30) يونيو 2013م لاسيما في ظل النشوة والنصر المتمثل في إسقاط نظام الإخوان فهذا النصر لم يكن نصر هذه القوى وحدها، فروافده تنبع من الجيش وتنبع بدرجة أكبر من فشل الإخوان المطاح بهم في إدارة شؤون الدولة وتهورهم وعدم عقلانيتهم في استخدام السلطة الاستخدام الأمثل وهوس الإخوان بسياسة التمكين تحت مبررات ودعاوى دينية!! ولعل ماهو مطلوب من كافة القوى السياسية في مصر ليس البكاء على ماض لن يعود ، كما فعل (الإخوان) في محيط شارعي رابعة العدوية والنهضة، ولا الاحتفال بنصر لا يملكون كل مقومات صناعته، إنما المطلوب هو التوقف أمام الحدث ومحاولة فهمه بعمق ومن ثم البناء عليه والمطلوب أيضاً من الإخوان أن يتوقفوا وأن يراجعوا كل إخفاقاتهم ابتداء من وعودهم الكثيرة التي نكصوا عنها ومروراً بإخفاقاتهم في إدارة الدولة وتسرعهم بإصدار إعلانات دستورية متلاحقة بهدف تحصين قياداتهم وجعلهم فراعنة فوق مستوى المحاسبة وإنتهاء بخروج ملايين المصريين في مظاهرات غير مسبوقة في تاريخ البشرية ضدهم، وكذلك ببقائهم في حالة من العناد والمكابرة وفي تحد غير مفهوم لإرادة الشعب المصري بأكمله !!. ويبقى القول إن محاولة قهر المصريين وكسر إرادتهم تحت مبررات دينية أو باسم الدين من قبيل تطبيق أحكام الشريعة على الطريقة الإخوانية هم سيجنون ثمنه باستعداء عامة الشعب المصري، ولذا عليهم أن يتوقفوا وأن يراجعوا كل بنود هذه التركة بنداً بنداً ، مالم فإنه محكوم عليهم بالفناء، وذلك لأن إيديولوجيتهم الدينية (القدرية) لن تمكنهم من إحداث مراجعة عميقة لإخفاقاتهم، فهم يعتبرون أن ما حدث لهم ليس مجرد أخطاء سياسية ارتكبوها بحماقاتهم، وإنما قضاء وقدر إلهي كتب عليهم ومن ثم يؤجرون على تحمله وتحمل نتائجه وتداعياته!! . والواقع أن مثل هذه الذهنية التي يتمسك بها الإخوان ليست مؤهلة لإجراء مراجعة، وإنما مهيأة لارتكاب كوارث وحماقات جديدة. ومن هنا أتصور بأن جماعة الإخوان في مصر سوف تنحل وتتفتت إلى جماعات صغيرة تزاول عملها السياسي من مواقع هامشية وستكون مطالبة من قبل المجتمع وفعالياته السياسية والثقافية باختبارات قاسية حتى تبرهن فيها على وطنيتها المصرية وعن ابتعادها عن التنظيم الدولي للإخوان والإيمان بالديمقراطية كآلية للوصول، وبعضها قد يسلك طريق العمل الجهادي وهذا محكوم عليه بالفناء لاسيما في عالم يعد أكثر انفتاحاً. ويمكن القول بأن محمد بديع وخيرت الشاطر وعصام العريان ومحمد البلتاجي وحصانهم البائس محمد مرسي قد أرسلوا قوى وأحزاب الإسلام السياسي في مصر والمنطقة العربية بأكملها ودفعوا بها إلى طريق لا عودة منه، وبذلك الفعل فقد خدم هؤلاء (المتأسلمون) وبدون وعي منهم العلمانية التي يناصبونها العداء أكثر مما فعل دعاة العلمانية ذاتها!!، فلم يكن بوسع أحد في المنطقة أن يقدم للعلمانية أكثر مما قدمه هؤلاء.. فهم من كتبوا الفصل الأخير في تاريخ مسيرة الإخوان في مصر والتي امتدت لأكثر من (85) عاماً منذ تأسيس التنظيم على يد حسن البناء عام 1928م وهم وحدهم من هتكوا ومزقوا آخر خيوط الستار الذي يفصل جماهير الأمة العربية عن فجر عالم جديد وحديث لن يحتلوا فيه أكثر من موقع الهامش.. وسيصبح هذا العصر الوشيك حقيقة واقعة بعد السقوط المرتقب لجماعة الإسلام السياسي في كل من سوريا وتونس وتركيا وليبيا وربما اليمن ، وقد تبرز دساتير في وقت لاحق تحظر قيام الأحزاب على أسس دينية. أن عجلة التغيير بدأت في الدوران ومن الصعب إعادة دورانها إلى الوراء ، والمطلوب من الشباب والقوى الليبرالية واليسار أن يعوا بأن الابتهاج بالنصر لا ينتج إلا زراعة الأحقاد وإثارة الفتن لذلك عليهم أن يضعوا على رأس اهتمامهم إعادة دمج الإخوان بعد تقليم أظفارهم وكسر نزعة التفرد المقصية للآخر لديهم، وإعادتهم إلى حجمهم الطبيعي كفصيل سياسي وجزء من المجتمع له ما للآخرين دون تمييز .. وأن يتبنوا خطاب المصالحة تجاه الإخوان وألا يكروا أخطاء الأخوان الفادحة ، لأن إلغاء الآخر السياسي تعني الإنكفاء على الذات الأمر الذي سيؤدي حتما إلى إلغاء الذات نفسها كما حصل للإخوان في مصر!
|
آراء
قراءة سياسية في آفاق المشهد المصري
أخبار متعلقة