قراءة في أضمومة (مملكة القطار) لحسن الرموتي
كتبت/ رشيدة اليوسفي قد يكون أقرب إلى التوصيف الفني الدقيق، و أصدق في تشخيص انشطاراته الجمالية و الموضوعاتية بعد قراءة (مملكة القطار) للقاص و الناقد المغربي ( حسن الرموتي)، أن نقول إنه نص قلق يتراوح بين الحلم و الواقع، نص قلق مأخوذ بلذة الخيال و شهوة الكلام و أرق الكتابة. لا يستطيع الانفلات من إسار الحكي عن الحياة و والواقع الاجتماعي المطبق بثقله على أنفاس الشخصيات، دافعا إياها إلى البحث عن الملاذ و المتنفس الحلمي الخيالي. فيتدحرج الحكي، ها هنا، ببين الواقعي و الخيالي ، و بين الحقيقة و الحلم الذي ينعش في أعماق النفس استحضارا للزمن الضائع. كما لو أن الكتابة هنا جرح ينطبع في الحنايا ليوقد الوجدان و يحيي لغة الروحي و الداخلي. و هي أشبه ما تكون بتسكع في خريطة و جغرافية الجرح الإنساني الأنطولوجي و الوجودي العميق. إنها نحر لامتناه محموم بالفقد و الضياع و الموت البطيء.إن المجموعة القصصية (مملكة القطار) تجربة وجدانية و إبداعية تنطلق من ذات القاص و تتلون بطابع المجتمع. فهي، بالتالي، تتجاوز التجربة الذاتية الفردية و ترقى إلى الشمولي و العام.هذا، و يتوزع السرد في أضمومة ، حسن الرموتي، على إحدى عشرة لوحة ، معنونة و غير مرقمة. و هاته اللوحات هي : (مملكة القطار(ص9)، (الحرب) ( ص 13)، (المحارب و المحطة) ( ص 25)، المنصة في يوم قائظ) ( ص29)، (العرافة) (ص33)؛، (الفصل) ( دص39)، (رحيل البحر) (ص43)، (المقهى) ( ص 45)، (عروة الزمن الحالي) (ص49)، (تشييع شاعر تأبين قصيدة) (ص 53)، و بذلك يتحدد الفضاء الكرافيكي للنص في بناء دقيق ينبجس من إواليات تضبط العلائق بين مختلف الوحدات السردية و دفق منطق التناسق.عتبات النصعلى المستوى اللساني : العنوانتحيل عتبات النص على جملة من الوحدات الأيقونية و اللغوية المشكلة لتداولية الخطاب و المحاورة لأفق انتظار القارئ في سياق تصيده و إثارة اشتهائه السردي.العنوان بمثابة (المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص و تسهيل مأمورية الدخول في أغواره و تشعباته الوعرة .)*1و إذا كان المكون العنواني/ العتبة ، يشكل قناة مهمة في القبض على دالية التجربة، فإن عنوان (مملكة القطار) الذي سيؤطر المجموعة القصصية يشكل معبرا وظيفيا إلى مكامن المحمولات الدلالية التي ستتعهدها الصفحات بالبلورة و الإفراز.و عنوان (مملكة القطار) عبارة عن مركب اسمي : الاسم الأول (مملكة) نكرة و الثاني ( القطار ) . إنه يتكون من مضاف و مضاف إليه. كما أنه يأخذ شكلا استعاريا تهيمن فيه فكرة السفر و الرحيل .و هما يعبران عن الرغبة في الخلاص، و في البحث عن حياة جديدة، عن ملاذ و متنفس ينعشان الجسد و الروح معا.و (مملكة القطار) لا تعدو أن تكون صورة مطابقة لمملكة المجتمع المغربي، مملكة الواقع المعيش بكل طبقاته و شرائحه. و بما أن المتنفس الذي تفصح عنه الصفحات هو( الحلم ) و معانقة عالم خيالي سريالي، فإن الرحيل من الواقع الحقيقي في اتجاه الحلم/ السراب و اللجوء إلى الخيال الحلمي يمكن اعتباره هروبا ، مادام الوطن مفقودا في الحلم و اليقظة معاً. إنه موقف سلبي تماما كالانتظار القاتل ( انتظارية المحارب الذي لا تتحقق).على المستوى الأيقونيينشكل غلاف المجموعة القصصية من لوحة تشكيلية تمثل نصا بصريا ذا طبيعة أيقونية. و الأيقونة icone صورة تستنسخ نموذجاً، و هي بالتالي إشارة تحتفظ بخصائصها المعنوية حتى و لو لم يكن مرجعها موجودا. بمعنى أنها تدل بموجب علاقة مشابهة بينها و بين مدلولها.و عليه ، فإن الصورة خارج سياقها التداولي ليست قابلة للتأويل إلا على المستوى الخبري.لدينا لوحة تشكيلية لأشكال وهمية تشبه الأزهار في مزهرية بألوان مختلطة تأخذ شكل النار المتوهجة. و بالتالي، هناك جمالية مختلطة بالحزن و الألم و الحرقة، حرقة الواقع و مرارته.و بتقدمنا في القراءة نقف عند الإهداء كعتبة ثالثة تبتغي موضوعة النص في فضائع الاجتماعي و التاريخي و الفني، مؤشرة على إيماءات المجموعة القصصية وعلى مرجعها. هكذا، يهدي (حسن الرموتي) مجموعته إلى الوطن، وطن هو شبيه بالمرأة باعتبارها معادلا رمزيا للأرض و للوطن الهارب، و المفقود باستمرار ( رحيل البحر).الواقع في كتابة الرموتي :إذا كان الأدب هو إعادة تشكيل الحياة، فهو و لا ريب يغرف مباشرة من الواقع، و هو أيضا بحث مستمر عن واقع مفقود و ضائع..و الكتابة بما أنها لغة لا يمكنها أن تتحدث إلا عن الواقع و لا شيء غير الواقع، فاللغة و الكتابة عموما تتضمن واقعا معينا، إما أن يكون واقعا معاشا ينقله المبدع للمتلقي، و إما أن يكون واقعا متخيلا يصنعه القاص.و لا غرو أن الأدب في أعرق معانيه، قد فهم مع (أفلاطون) و (أرسطو ) على أنه ( محاكاة) للطبيعة بما فيها الإنسان و مشاعره، و أفكاره و سلوكياته.من هذا المنطلق ، لا يمكن أن يكون الأدب إلا واقعيا، و لا يمكن أن تستمد الرواية عناصر تشكلها و بنائها إلا من العالم الحي المعيش، بأشيائه و شخصياته و أحداثه و وقائعه و فضاءاته.فمن البدهي، إذن، أن يكون القاص المغربي (حسن الرموتي) قد وجد في واقعه مجالا ثرا يغرف منه تيماته و شخصياته و فضاءاته السردية. إنه يعمد إلى تعرية ما يعتمل في هذا الواقع من ظواهر اجتماعية مؤرقة و مقلقة في آن معا. فما عساه أن يمنح اليومي الطافح كلوحة و ابتئاسا للكاتب غير الانخراط في فعل الكتابة، كتأثيث للخواء المجتمعي، و الفراغ العاطفي و السياسي و الثقافي و الأخلاقي، كتعرية واقع يئن تحت وطأة عنف العذابات و الإحباطات. لذلك تشتغل التيمات الحكائية داخل النسيج السردي وفق نظرة يوجهها القاص إلى هذا المجتمع بكل ظواهره و حيثياته.التيمات السيكولوجية تيمة الحلم/ السراب إن الانفتاح على آفاق حلمية متخيلة بإمكانها أن تكشف عن دواخل الإنسان، و عن تطلعاته و انكساراته و أحلامه، مما جعل المجموعة القصصية شهادة على ضياع الإنسان، و أزمته في واقع الرتابة و الجهل و الموت البطيء.تيمة الفراغ و التيه :تعاني منه كل الشخصيات، و يسبب لها أحبطا و اختناقا يجثم على ( الجوانح مثل صخرة سيزيف) *2. هذا الفراغ الذي من المفروض أن تتم معالجته بشكل يجعل الإنسان ينخرط في مجريات الحياة الاجتماعية و الثقافية. نجده و قد ملئ بفراغ أكبر و أشمل، الأمر الذي يدفعه إلى قصد العرافة التي ذاع صيتها في الحي قصد التخفيف من معاناته..و يضطر إلى انتظار دوره في الطابور الكبير (كباقي المنتظرين نساء و شيوخا ..يحملون هم العالم ) *3.إن الفراغ، هنا ، فراغ اجتماعي و ثقافي و سياسي، و للتخفيف من وطأته، يتم اللجوء إلى الشعوذة كدليل على انتشار الفكر الخرافي وكأحد تجليات التخلف الذي يرزح تحته المجتمع المغربي، عوض مواجهة الحياة بالعمل و الفعل الموقف الإيجابي..إنها إشارة ذكية و لمحة فنية تعبر عن الانتظارية القاتلة للفعل كلحظة زمنية لا تني تتكرر.تيمة الانتظار كثيرا ما تتردد عبارة (الانتظار ) في المجموعة القصصية، و الانتظار كما هو معلوم، يحمل دلالة سلبية، إنه انتظار الذي لا يأتي. فالحياة تتغير من حولنا يوميا، فيما نحن نعيد و نكرر لحظات حياتنا في حركة دائرية لا يمكن الخروج من جهنميتها بفعل تغييب الإرادة، و إرادة التغيير..إن الانتظار شل للحركة و رمز للعجز الذي يعيشه الإنسان المغربي المعطوب بأحزانه و آلامه و معاناته ( و ما زال ينتظر ) !..تيمة الفقر و الوحدة :تيمة مركزية في المجموعة القصصية تجعل الإنسان يتآكل مثل تآكل الأشياء من حوله ك : (طاولات قديمة ، و كراسي متهالكة ) *4 في مقهى يبدو زبائنه كأشباح في مقبرة بعيون( غائرة، أجساد منهكة، أتعبها الجوع و الجنس و أشياء أخرى ..) *5 إنها صورة قاتمة تؤشر على الموت الرمزي الذي يحياه الإنسان في هذا الواقع السديمي الحالك حد التخمة.جدلية الموت و الحياة :إنها ثنائية يحضر فيها اليأس و الإحباط كمقابل للفرح و الخراب كمقابل لإعادة البناء. من خلال ما تمتلكه اللغة الحلمية من قدرة على صياغة الواقع المر و الرديء، و عبر الشوق إلى المطر كرمز للحياة و الخصب.و تكرار كلمة ( المطر) في النص يوحي بالرغبة في العودة إلى رحم الأم، حيث الاحتواء و الدفء اللامتناهيين.و قد توسل (القاص حسن الرموتي) لغة بسيطة سلسة و واضحة لتبليغ محكيه إلى المتلقي دون أن يبذل ، هذا الأخير ، عناء التعمق و التفكير بغية الوصول إلى معاني الملفوظات.و بما أن الواقع الاجتماعي المأزوم و المتأزم يشكل الإطار العام للمجموعة القصصية، فإن القاص يمرر للمتلقي ، من خلال حوارات شخصياته المتخيلة، مجموعة من القضايا الاجتماعية الناطقة حد الصراخ بالقلق الوجودي . من هنا، ترتبط الكتابة بالقلق و الاكتئاب، و يتلازم القلم بالألم. ناهيك عن هيمنة ( الحوار الداخلي) ( المونولوغ ) في النص كمؤشر دال على اضطراب و توتر نفسية الشخصيات، و انعدام التواصل في ما بينها، من جهة، و مع الواقع المر، من جهة ثانية. مما يدفعها إلى الاحتماء بالحلم و الحوار الداخلي كملاذ و متنفس. المراجع*1_بشير ضيف الله : “ سيمياء العنونة في رواية (سيدة المقام ) لواسيني الأعرج، مجلة علامات، ع 32، سنة 2009، ص 139.*2_حسن الرموتي، (مملكة القطار) قصص ، ط 1 سنة 2011، التنوخي للطباعة و النشر و التوزيع، ص 33.*3 نفسه، ص 33.*4 نفسه، ص 45.*5_ نفسه، ص 45.