القاضي الدكتور عبد الملك عبد الله الجندارييمثل التعديل الجزئي لقانون السلطة القضائية النافذ خطوة إلى الأمام، لكنها لمّا تصل بعد إلى المستوى الذي عليه الدستور النافذ، إذ اقتصرت على التركيز على مواجهة بعض مخالفات هذا القانون لمبدأ استقلال القضاء كسلطة المقرر في المادة (149) من الدستور، لذا جاءت جُلّ التعديلات منصبّة على تغيير عبارة «وزير العدل» أو «الوزارة»، فلم يتم التنبه للخلل الذي شاب بعض النصوص المطلوب تعديلها، وما تضمّنته من خرق لمبادئ دستورية أخرى أو تعارض مع أحكام الدستور الواردة في المواد (41، 51، 150، 152)، فهذا العوار الدستوري في القانون سيبقى قائما حتى وإن استبدلت كلمتا «وزير العدل» و«الوزارة». لذا تجدر الإشارة إلى سبق التعليق على مشروع التعديل من قبل فضيلة الأخ العلامة د. محمد محمد الغشم مستشار مجلس القضاء الأعلى، ذلك التعليق الذي تضمّن ملاحظات مهمة جديرة بالاعتبار ينبغي الرجوع إليها، حيث تم نشرها في صحيفة الثورة (الأعداد: 17541، 17542، 17543) الصادرة خلال الفترة من 27 -29 نوفمبر 2012م، تحت عنوان «قراءة أولية في مشروع تعديل قانون السلطة القضائية». الأمر الذي يغنينا عن أن نعيد هنا ما تضمّنته تلك القراءة الدقيقة من ملاحظات، بيد أنّ الذي يهمّنا هنا ملاحظاته المنصبّة على المادة (8) والتي أشار إليها بقوله: «بل إنّ بعض الفقه يرى أنّ إنشاء المحاكم المتخصصة هو من المهام الدستورية المناطة بالمؤسسة التشريعية، وإنّ نص الفقرة (ب) بمثابة تفويض تشريعي»، وهو الرأي الذي نتبناه ونؤكد عليه هنا، لأنّ اختلال هذا النص عاد ويعود على المواطنين بعواقب وخيمة، ومن ثم لا يجوز السكوت عليه، لذا سنسعى هنا لبيان الأسس الدستورية والقانونية والواقعية التي تظهر مدة جسامة الخلل الناجم عن نص المادة (8/ب)، معلقين على النص النافذ، والنص المقترح من قبل الحكومة بشأن تعديله، والنص الذي أقره مجلس النواب، وذلك على التفصيل التالي:• ورد نص المادة (8) في القانون النافذ كما يأتي: أ ) لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية. ب) يجوز بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح من وزير العدل إنشاء محاكم قضائية ابتدائية متخصصة في المحافظات متى دعت الحاجة إلى ذلك وفقا للقوانين النافذة.• وورد نصها في مشروع التعديل المقدم من الحكومة كالآتي: أ ) لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية. ب) يجوز بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح رئيس هيئة التفتيش القضائي إنشاء محاكم قضائية ابتدائية متخصصة نوعية في المحافظات متى دعت الحاجة إلى ذلك وفقا للقوانين النافذة، ولا يسري هذا الاستثناء على المحاكم الجزائية المتخصصة.• أمّا النص الذي أقره مجلس النواب فكالتالي:أ ) لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية.ب) يجوز بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح رئيس هيئة التفتيش القضائي إنشاء محاكم قضائية ابتدائية أو شعب استئنافية متخصصة نوعية في المحافظات متى دعت الحاجة إلى ذلك وفقا للقوانين. وكما هو ظاهر فإن مجلس النواب قد أقر النص المقترح في مشروع الحكومة عدا الفقرة الأخيرة منه فقد تم حذفها. وإذا كان نص المادة (8) قبل تعديله، قد تضمّن تفويضا من البرلمان لغيره بإنشاء محاكم ابتدائية وتحديد اختصاصاتها، وهو أمر لا يملكه المقنن؛ كونه يمثل تفويضيا تشريعيا بالمخالفة لنص الدستوري الذي يقضي صراحة بأن «يرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها» (مادة 150)، أمّا بعد تعديله فقد توسَّع نطاق ذلك التفويض إلى حد يخل بمبادئ وأحكام دستورية أخرى؛ وهذا ما سيبين مما يلي: أولا: إنّ لجوء الأشخاص إلى قاضيهم الطبيعي هو حق كفلته كلّ الشرائع. لهذا استقر في ضمير الجماعة وجوب احترام حق أفرادها في التقاضي، وبالتالي لا يكاد يخلو دستور دولة من النص على هذا المبدأ؛ إما ضمناً بالنص على وجوب احترام حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، أو صراحةً بالنص عليه بصفة خاصة كما هو شأن الدستور اليمني؛ ويُفهم مبدأ «القضاء الطبيعي» من مُجمل النصوص الدستورية الآتية:• المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة (مادة 41).• يحق للمواطن أن يلجأ إلى القضاء لحماية حقوقه ومصالحه المشروعة (مادة 51).• القضاء سلطة مستقلّة قضائيا وماليا وإداريا... وتتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم (المادة 149) . • القضاء وحدة متكاملة ويرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها... ولا يجوز إنشاء محاكم استثنائية بأي حال من الأحوال (المادة 150).فما مدى توافق المادة (8) مع هذه المبادئ الدستورية؟ بالرجوع إلى الفقرة (أ) من هذه المادة نجدها تنص على أنّه: «لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية». وهذا النص مجرد نقل مبتور للمبدأ الدستوري الذي يقضي بأنّه « لا يجوز إنشاء محاكم استثنائية بأي حال من الأحوال»(مادة 150)، فقد حُذفت منه عبارة « بأي حال من الأحوال» ، في محاولة لتجاوز الحظر الدستوري؛ إذ أن قوله:» بأي حال من الأحوال»؛ يعني بأي صورة وتحت أي مسمّى، لذلك وفي محاولة لإضفاء المشروعية على المحاكم الخاصة القائمة قبل القانون( ) تم حذف هذا القيد ليتسنى إضافة الفقرة (ب) إلى المادة (8) والتي تنص على أنه: «يجوز بقرار من مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح من وزير العدل إنشاء محاكم قضائية ابتدائية متخصصة في المحافظات متى دعت الحاجة إلى ذلك وفقاً للقوانين النافذة». ولبيان مدى خلل إضافة الفقرة (ب) عقب الحظر الدستوري نقول: إنّ الدستور اليمني - كمعظم الدساتير - قد جزأ الولاية العامة بين مؤسسات دستورية ثلاث (تشريعية، وقضائية، وتنفيذية)، وأناط بكل منها مهام محددة، ومن ذلك نصه على أنّ «يرتب القانون الجهات القضائية ودرجاتها ويحدد اختصاصاتها» (مادة 150). فبهذا النص يصبح ترتيب طبقات ودرجات المحاكم وتحديد اختصاص كل منها، من المهام الأصيلة للمؤسسة التشريعية. فهل من بين الصلاحيات الدستورية للمؤسستين القضائية أو التنفيذية، ما يبيح لهما أو لأي منهما إنشاء محاكم وتحديد اختصاصاها بنظر منازعات بعينها؟ بل أيجوز أصلا للمؤسسة التشريعية أن تتنازل أو تفوض غيرها ببعض صلاحياتها الدستورية؟ الجواب بالنفي القاطع؛ فبتأمل الدستور اليمني نجده - كغيره من الدساتير - يقرر ويحدد المبادئ الأساسية العامة، ابتداء بأهم تلك الحقوق؛ وهو مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات (مادة 41). ثم أورد في نفس الباب المبادئ المتعلقة بأهم تلك الحقوق، ومنها مبدأ القضاء الطبيعي؛ أي حق المواطنين في التقاضي أمام ذات القضاء (مادة 50). وقد وردت هذه الحقوق ضمن «الحقوق الأساسية للمواطنين»، وهذا بديهي لتعلقها بالحقوق العامة اللصيقة بالشخصية؛ وبالتالي فقد استقر رأي فقهاء القانون على أنّه لا سلطان للمؤسسة التشريعية بشأن حق الأشخاص في الالتجاء للقضاء لأنّه حق عام لصيق بالشخصية؛ ومن ثّمَّ فإنّ البرلمان لا يملك المساس بهذا الحق عن طريق إصدار تشريعات تتضمن إهداره أو حتى إنقاصه. وفي هذا الصدد يقول الفقيه السنهوري: «إنّ كُلَّ حقٍّ عام وَكَلَ الدستورُ إلى المشرّع تنظيمه بقانون، قد رسم الدستور للقانون الذي يُنظمه غاية مخصصة لا يجوز الانحراف عنها، هي تنظيم هذا الحق على وجهٍ لا يُنقَضُ معه الحقُ ولا يُنتَقَصُ». ويقول د. محمد كامل عبيد: «إنّ المشرّع الدستوري إنّما يفوض المشرّع العادي في تنظيم الهيئات القضائية وتحديد اختصاص كل منها، لا في إهدار هذا الاختصاص أو الانتقاص منه أو الافتئات عليه، وإلا كان متجاوزا حدود التفويض ومخالفا للدستور. ومن ثم يكون القانون المنشئ لمحكمة خاصة أو استثنائية - تنتقص من الولاية العامة للقضاء وتسلبه اختصاصه - موصوما بعدم المشروعية» .وعلى هذا استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا في مصر إذ تقرر - في العديد من أحكامها - إنّه: ولئن نص الدستور على أن يتولى القانون ترتيب الجهات أو الهيئات القضائية وتحديد اختصاصاتها، فمعنى ذلك أن يقوم المقنن بتوزيع ولاية القضاء كاملة على تلك الهيئات على نحو يكفل تحقيق العدالة ويمكن الأشخاص من ممارسة حق التقاضي، فإنْ تجاوَزَ القانون هذا القيد الدستوري وانتقص من ولاية القضاء - ولو جزئيا - كان مخالفا للدستور . ومن هذا المنطلق إذا خوّل الدستورُ المقننَ سلطة تقديرية لتنظيم الحقوق والحريات، فإنّه يجب عليه في هذه الحالة ألا ينحرف عن الغرض الذي يهدف إليه الدستور، وهو كفالة هذه الحريات والحقوق العامة في حدودها الموضوعية، فإذا انتقص المقنن منها - وهو في صدد تنظيمها- كان ما يصدر عنه مشوباً بالانحراف؛ لأنه في هذه الحالة يسيء استعمال السلطة التي منحه الدستور إيّاها، فبدلا من أن ينظم الحق انتقص منه بحجة التنظيم . وخَلُصَ الفقه إلى أنّ جزاء الانحراف في استعمال هذه السلطة هو بطلان التشريع؛ فشأن هذا التشريع شأن التشريع الذي يُخالف الدستور مخالفة صريحة .وعليه وفي ظل مبدأ وحدة القضاء اليمني(مادة 150)، ولضمان عدم المساس بالحقوق الأساسية للمواطن قرر الدستور مبدأ عموم ولاية المحاكم بقوله: «تتولى المحاكم الفصل في جميع المنازعات والجرائم» (مادة 149)، وفق اختصاصاتها التي يحددها القانون (المادة 150). وليضمن المشرّع الدستوري عدم المساس بمبدأ عموم ولاية المحاكم في أي طبقة، نص في الدستور نفسه على اختصاصات المحكمة العليا مضمنا ذلك النص ما راءه من استثناءات على عموم ولاية المحاكم الابتدائية (المادة 153). ولتأكيد هذا المعنى حظر وبشكل قاطع «إنشاء محاكم استثنائية بأي حال من الأحوال» (مادة 150). ولاشك أنّ المَعْنِي بهذا الحظر هو المقنن؛ كونه المختص بترتيب المحاكم وتحديد اختصاصاتها - في كل مرتبة من مراتب المحاكم -أمّا المؤسستين القضائية والتنفيذية فليس لهما البتّة شيء من ذلك.ولمّا كانت قواعد النظام العام هي «القواعد التي تعتبر أساسا للقانون في الدولة»، فإنَّ النصوص الدستورية آنفة الذكر تمثل النظام العام للقضاء في اليمن، وبالتالي فإنشاء المحاكم وتحديد اختصاصها بحسب نوع الدعوى مسألة دستورية وليست تنظيمية إجرائية تخضع لتقدير الأشخاص في هذه المؤسسة أو تلك من مؤسسات الدولة، مما يجعل نص المادة (8/ب) من قانون السلطة القضائية مشوبا بعيب الانحراف بالسلطة، ومن ثمََّ فهو محل نظر كبير من الناحية الدستورية. والقول بخلاف ذلك يجعل المسألة رهنا بالمتغيرات بل وبالأهواء، وهذا غير وارد شرعا وعقلا؛ لارتباطها بحقوق الأفراد الأساسية التي نزلت الشرائع السماوية للذود عنها وجاءت التشريعات البشرية لضمان حمايتها . ولو أنّ الدستور- كعقد اجتماعي- يبيح إنشاء محاكم خاصة تحت أي مسمّى وبأي حال من الأحوال لنص على ذلك صراحة، لكنّه لم يفعل بل حظر أيّا من ذلك حظرا قاطعا، معبّرا عن ضمير ووجدان الشعب. ومع ذلك ونظرا لدواعي التطور والمتغيرات الاجتماعية - وليس السياسية أو الاقتصادية- فقد منح المقنن سلطة ترتيب المحاكم وتحديد اختصاصاتها، فإذا كان هناك فعلا حاجة ماسة وحقيقية لإنشاء محكمة خاصة(متخصصة) - وهذا غير وارد في ظل عموم ولاية المحاكم الابتدائية - فعلى المقنن أن يتحمّل مسئوليته الدستورية ويصدر قانونا خاصا بإنشاء كل من المحاكم التي يرى ضرورة إنشائها محددا اختصاصاتها في ضوء المبادئ والقواعد العامة، أو على الأقل أن ينص صراحة - في قانون السلطة القضائية - على إنشائها بالاسم، محيلا اختصاصاتها وما يتعلق بها إلى قانون خاص، كما فعل بالنسبة لمحاكم الإحداث (مادة 49 سلطة قضائية). أمّا أن يفوّض هذه الصلاحية الدستورية الخطيرة لغيره - بنص المادة (8) - فأمر غير مسبوق، لهذا نجد قانون السلطة القضائية المصرح ينص بشكل قاطع على أنّ «يكون إنشاء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية وتعيين دائرة اختصاص كل منها أو تعديله بقانون» (مادة 10), ولا يعفي المقنن اليمني من مسئوليته عن خرق الدستور بهذا التفويض التشريعي أن يذيل النص بعبارة «وفقاً للقوانين النافذة»؛ فإذا كان ثمّة قوانين نافذة بهذا الشأن فهي قانون السلطة القضائية(قانون القضاء) وقانون المرافعات(قانون التقاضي)، وكلاهما - كما سلف - يقرران عموم ولاية المحاكم الابتدائية واختصاص كل منها بالحكم ابتداء في جميع ما يُرفع إليها من دعاوى أيّا كانت قيمتها أو نوعها، ومع ذلك لم تُجْدِ عبارة «وفقاً للقوانين النافذة» - الذي ذُيل بها نص المادة (8) - فهي مُفرّغة من محتواها لأنّنّا هنا بصدد تفويض تشريعي؛ والقاعدة أن مثل هذا التفويض أمر محظور .ثانيا: قد يقال: إنّ المحاكم التي أجاز القانون لغيره أنشاءها ليست محاكم استثنائية(خاصة) بل مجرد محاكم متخصصة، وما دامت في إطار السلطة القضائية فهي ضمن القضاء الطبيعي. وردا على هذا نقول: إن الدستور اليمني - كما هو ظاهر من مجمل النصوص الدستورية آنفة الذكر - قد حدد مفهومه للقضاء الطبيعي، وهو المفهوم السائد في جميع الدول المتمدّنة، والمستقر في فقه القانون، لهذا ولئلا يتم الخروج - من قبل المقنن - عن مبدأ حق الشخص في اللجوء إلى القضاء الطبيعي عن طريق إنشاء محاكم استثنائية- خارج أو ضمن السلطة القضائية- فقد فرّق فقهاء القانون بين محاكم القضاء الطبيعي وبين غيرها، أو بين المحاكم العادية والمحاكم الاستثنائية التي قد ينشئها المقنن في هذه الدولة أو تلك. وبهذا الشأن يقول د. فتحي والي: «يقوم التمييز بين المحكمة العادية والمحكمة الاستثنائية على أساس المصالح التي يحميها قضاء المحكمة، فإذا كان يحمي المصالح العادية التي تهم عموم الأشخاص فهي محكمة عادية. أمّا إذا كان قضاء المحكمة يحمي مصالح خاصة ذات وصف محدد أو تتعلق بفئة معينة من الأشخاص فهي محكمة استثنائية» . ويضيف د. والي - نقلا عن الفقيه الفرنسي ليبمان - قائلا: «فالصلة بين المحكمة العادية والمحكمة الاستثنائية هي كالصلة بين القاعدة العامة والاستثناء»، ووفقا لهذا فكل محكمة خاصة هي محكمة استثنائية.ولاشك أنّ ثمّة مبررات يتم اللجوء إليها عند إنشاء أيّ من هذه المحاكم؛ كمبرر تنظيم الجهاز القضائي أو تخصص القضاة أو تشجيع وجذب الاستثمار أو الحفاظ على المال العام ومكافحة الفساد والإرهاب... إلخ. وبشأن هذا يقول د. فتحي والي : «من الملاحظ أنّ ما من مرّة يريد المشرّع الحديث تنظيم أحد أوجه النشاط الجديد في المجتمع أو إشباع حاجة من حاجاته إلا ويلجأ إلى إنشاء وتنظيم محكمة استثنائية تختص بمنازعاتها. وغالبا ما يلجأ المشرّع إلى تبرير هذا التنظيم الاستثنائي بأسباب مختلفة كطبيعة المسائل الفنية التي تتطلب معرفة فنية غير متوافرة في قضاء المحاكم العادية، أو الرغبة في أن يكون القضاء بالنسبة لبعض المنازعات الهامة بإجراءات مختصرة ونفقات بسيطة وهو ما لا يتوافر في القضاء العادي، أو الرغبة في محاولة التوفيق في بعض القضايا مما يدعو إلى إنشاء محاكم استثنائية لديها إمكانية هذا التوفيق أكثر من المحاكم العادية». وهذا التعليق من الفقيه د فتحي والي، ينصب على ما يُقدمه المقنن من مبررات لإنشاء المحاكم الخاصة. أي أنّه لا يتصور - وغيره من فقهاء القانون- أنّ المقنن قد يترك إنشاء هذه المحاكم لغيره، كما حدث في نص المادة (8) من قانون السلطة القضائية اليمني!!!وأيّا كانت الأسباب التي تُعطى لتبرير إنشاء المحاكم الخاصة، فإنها لا تبرر مطلقاً الخروج عن المبادئ والقواعد العامة للنظام القضائي للدولة، وما يترتب على ذلك من مساوئ وأضرار، ليس على المواطن فحسب، بل وعلى الدولة؛ فبالنسبة للدولة - كما يقول د. والي - «يؤدي إنشاء هذه المحاكم إلى اهتزاز الثقة في القضاء العادي مما يضعف من هيبة الدولة وبالتالي من سلطان القانون. وبالنسبة للمواطنين يؤدي تعدد المحاكم الاستثنائية إلى مشاكل متعددة إذ يُعقّد مشكلة تحديد المحكمة المختصة، وقد يوقع المواطن في الخطأ بالنسبة للإجراءات الواجب اتباعها أو المواعيد الواجب احترامها أمام المحكمة الاستثنائية، مما قد يؤدي إلى ضياع حقه أو على الأقل إلى ضياع الوقت والمصاريف. كما أنّ هذا التعدد - من ناحية أخرى - يقضي على فكرة المساواة بين المواطنين ؛ تلك الفكرة التي تدعو إلى قضاء واحد بالنسبة للجميع. أمّا ما يُقال من مزايا المحاكم الاستثنائية فيمكن تحقيقها بواسطة إنشاء دوائر ( هيئة حكم) متخصصة داخل المحاكم العادية.والتفرقة بين المحاكم العادية والاستثنائية قد تكون من الوضوح بحيث لا تخفى على أحد كما هو الحال بالنسبة للمحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة. إلا أنّ هذه التفرقة قد تخفى على البعض في أحوال كثيرة، خاصة عندما تكون هذه المحاكم في إطار السلطة القضائية، بحيث يُنشئ المقنن أو يُجيز إنشاء محاكم استثنائية بمسمّيات أو بأشكال تجعلها في صورة المحاكم العادية. لهذا وليتسنى التمييز بوضوح بين المحاكم العادية والاستثنائية فقد حدد الفقه من خلال النصوص الدستورية آنفة الذكر عناصر القضاء الطبيعي (العادي) وهي:1. أن يكون إنشاء المحاكم وتحديد اختصاصها بقانون. وهذا ما تقرره الدساتير بما فيها الدستور اليمني (مادة 150)، وكذلك الحال في الولايات المتحدة الأمريكية؛ «فإنّ الكونجرس- إضافة إلى الهيئات التشريعية في الولايات الخمسين - هي الجهات التي تحدد أنواع الموضوعات والقضايا التي سوف تنظر فيها المحاكم كل في نطاقها المنفصل». وعليه فوجود ما سمّي في اليمن بـ»المحاكم المتخصصة» محل نظر من الناحية الدستورية؛ فجميعها قد أنشئت وتحدد اختصاصها بقرارات إدارية وليس بقوانين.2. أن يكون إنشاء المحكمة قبل نشوء الدعوى؛ وذلك ليعرف كل مواطن سلفا من هو قاضيه، ومن ثم لا يجوز بعد نشوء الدعوى أو وقوع الجريمة انتزاع الشخص من قاضيه الطبيعي إلى محكمة أخرى أنشئت خصيصا من أجله وأمثاله. فإذا كانت المحكمة التي أنشئت حديثا - أو ذات الاختصاص الجديد - قد أنشئت أو تحدد اختصاصها بمناسبة دعاوى معينة، فإنه لا يمكن «الاطمئنان تماما إلى استقلالها أو حيادها، ولو كانت العقوبات التي تدخل في سلطتها هي بذاتها العقوبات المقررة أصلا للجريمة، كما أنّ إدخال الجرائم التي وقعت من قبل في اختصاص المحكمة الجديدة يعتبر من ناحية أخرى انتزاعا ضمنيا للدعوى من اختصاص المحكمة الأصلية... ولا يكفي أن تكون العقوبات المقررة للجريمة لم يمسها التغيير في القانون الجديد، ولا أن تكون الإجراءات واحدة في كلا المحكمتين؛ لأنّ طبيعة المحكمة واختصاصها أمر يتعلق باستقلال القضاء وحياده وهو ما لا يمكن التفريط فيه حمايةً للحريات». وعليه فنص المادة (8) من قانون السلطة القضائية على جواز إنشاء محاكم ابتدائية خاصة ببعض المنازعات (متى دعت الحاجة إلى ذلك)، نص محل نظر كبير؛ لأنّه يفتح الباب لإنشاء محاكم وتحديد اختصاصها بعد نشوء الدعاوى.3. أن تكون المحكمة دائمة؛ دون قيد زمني معين، سواء كان تقييد ولايتها بمدة معينة أو بظروف خاصة أو استثنائية كحالة الحرب أو حالة الطوارئ، ونحو ذلك من الظروف الخاصة، ولا ننسى أنّ ثمّة مطالبات ارتفعت في اليمن وغيرها بإنشاء ما سمّي «محاكم ثورية». فالمحاكم المؤقتة بزمن أو بظرف معين لا تُعتبر من قبيل القضاء الطبيعي. ومن ثم فتجويز إنشاء محاكم ابتدائية متخصصة (متى دعت الحاجة إلى ذلك)، يربط إنشاء هذه المحاكم بظروف خاصة، يُقدرها في الأساس فرد واحد (وزير العدل أو رئيس هيئة التفتيش) ويوافقه على ذلك بضعة أفراد (مجلس القضاء)، ومن ثم فما الذي يمنع في واقعنا وفي ظل هذا التفويض المطلق أن تنشأ محاكم لغاية معينة ثم تلغي بعد تحقق تلك الغاية.4. أن تتوافر في قضاتها ضمانات الكفاءة والحيدة والاستقلال؛ أن تُشكّل المحكمة بكاملها من قضاة تتوافر فيهم ضمانات الكفاءة للعمل القضائي والتفرغ له والانقطاع لواجباته، محصنين بضمانة عدم القابلية للعزل، وتتحقق لهم مقتضيات الحيدة والاستقلال باعتبارهم حماة الحقوق والحريات. لذلك فقد حرصت كل الدساتير - ومن بينها الدستور اليمني - على التأكيد بأنّ القضاء سلطة مستقلة، وبأنّ القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، مؤكدة بأنّه «لا يجوز لأيّة جهة -وبأيّة صورة - التدخل في القضايا أو في أي شأن من شئون العدالة» (مادة 149). وإنشاء محاكم خاصة - أيّا كانت الجهة التي تُنشئها - ليس سوى صورة من صور التدخل في شئون العدالة؛ ولو بصورة غير مباشرة؛ فوجود هذه المحاكم يخل بطريقة أو بأخرى بضوابط وضمانات تولية القضاة؛ فوجود معايير موضوعية مجردة - بشأن من يعمل من القضاة في أيّ من تلك المحاكم- أمر لا يمكن ضمانه، إذ ستكون تلك المعايير رهنا بالغاية من إنشاء هذه المحكمة أو تلك. وهذا ما قصده د. فتحي والي بقوله: «إذا كان قضاء المحكمة يحمي مصالح خاصة ذات وصف محدد أو تتعلق بفئة معينة من الأشخاص فهي محكمة استثنائية». ففي هذه الأحوال سيكون اختيار قضاة هذه المحكمة أو تلك محكوما بالمصالح الخاصة المراد حمايتها.5. أن يكون حق الدفاع مكفولا أمامها؛ كفالة حق الدفاع تبدأ باحترام الأصول العامة في التقاضي؛ كالبراءة وحسن النية ونحوهما، مرورا بحماية حق الدفاع وكفالة ضمانات المتقاضين، ومراعاة القواعد القانونية العامة المتعلقة بإجراءات المحاكمة وبالإثبات، وانتهاء بضرورة أن يكون القانون الإجرائي أو الموضوعي الذي تطبقه المحكمة ملتئما مع أحكام الدستور ومتفقا مع احترام حقوق الإنسان وكرامة المواطن. ولا يخفى أنّ من المحاكم الخاصة في اليمن ما لا تُراعى فيه الأصول العامة للتقاضي، كالمحاكم العسكرية والمحاكم الجزائية المتخصصة، لهذا ذُيلت الفقرة (ب) من النص المقترح من الحكومة للمادة (8) بقوله: «ولا يسري هذا الاستثناء على المحاكم الجزائية المتخصصة»، فالهدف من هذا العبارة إلغاء هذا الصنف من المحاكم على اعتبار أنها محاكم استثنائية ولا ينطبق عليها - في رأيه - وصف «متخصصة»، على اعتبار أن «الاستثناء من الاستثناء عودة إلى الأصل العام» وهو الحظر هنا، ولكن ورود هذه العبارة ضمن نص مختل دستوريا - على نحو ما أسلفنا - جعل النص مضطربا والقصد من هذه العبارة غامضا، الأمر الذي جعل اللجنة ترتأي حذفها، مع أن المسألة لم تكن تحتاج لمثل هذا الاستثناء أصلا؛ لأنّ إنشاء المحاكم - وفقا لهذا النص - مسألة جوازية مرتبطة بالحاجة، ومادام أنّ أنشاءها تم بقرار إداري فبالإمكان إلغاءها بقرار مماثل.
|
دراسات
المادة (8) من قانون السلطة القضائية وتعديله بين الدستور والقانون والواقع ( 2-1 )
أخبار متعلقة