كنت قد غادرت سوريا قبل أن تنفجر في العاصمة السورية سيارتان مفخختان بخمسة أيام. لتبدأ صفحة جديدة في مسيرة ما يسميه الغرب (الربيع العربي)، صحيح أن تفجير السيارات المفخخة أسلوب تعرفه المنطقة جيدا. وكان يستخدم غالبا للاقتتال الطائفي أو للمقاومة. رأيناه في الاقتتال الطائفي في الحرب الأهلية اللبنانية. ورأيناه في أعمال المقاومة داخل أراضي فلسطين المحتلة في حيفا وتل أبيب والقدس. ورأيناه على الوجهين في العراق المحتل. لكننا - أيضا - خبرنا هذا الأسلوب من قبل كبديل إستراتيجي يستخدم لتغيير مسار المعادلات على الأرض. تماما كما حدث في اغتيال الحريري في لبنان، وكما تابعناه على الشاشات في دمشق. أخيرا.في صباح يوم جمعة منحه بعض المعارضين السوريين اسم: بروتوكول الموت!
أسامة الدليل
الحقائق التي لا تجد من يفندها داخل سوريا وخارجها: الشعب السوري بكل قواه السياسية والاجتماعية منذ اندلاع الأحداث في 15 مارس الماضي لا يقاوم احتلالا، ولا يخوض اقتتالاً طائفياً. فهو - بكل طوائفه ومكوناته بما فيها رموز بالقيادة السياسية - في حالة احتشاد ضد الظلم الاجتماعي (الرشوة والفساد وندرة فرص الصعود الاجتماعي والاقتصادي وتآكل الطبقة الوسطى وتفشي البطالة وتنامي معدلات الفقر). هذا ما سمعته وشهدته وعايشته في دمشق وحلب وحمص وحتى في درعا. على مبعدة 3 كيلومترات من الحدود مع الأردن!التفجيرات الانتحارية في هذا السياق هي (إرهاب). وهو لاعب دولي بارز أسهم في تغيير المعادلات الجيوستراتيجية في العالم منذ 11 سبتمبر 2001. وحتى اليوم، لقد استقر الفكر الإستراتيجي الجديد على أهمية وخطورة ما يسمى اللاعبين الدوليين بلا دولة Non State Actors، وبالذات فيما يتعلق بآلية تغيير خرائط مناطق النفوذ الإقليمي في العالم. وفي حالة سوريا بالذات كانت إرادة (التدويل واستدعاء القوة الصلبة لحلف شمال الأطلنطي بالاستناد للاعبين الدوليين التقليديين في مجلس الأمن) قد تلقت هزيمة فادحة بتوقيع فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري، بروتوكول الجامعة العربية الذي يقضي بإيفاد مراقبين عرب لمراقبة الأوضاع على الأرض. البديل الإستراتيجي الذي تم اختياره بالمقابل - وبغباء نادر - من قبل الأطراف التي تضررت من هذا البروتوكول: استدعاء اللاعبين الدوليين بلا دولة إلى دمشق!صراع الإرادات على الأرض السورية يظهر بجلاء تام مجددا أن القوى التي تريد تغيير الخريطة السورية مصممة على مواصلة إدارة الصراع بالضغط من الأطراف لا من العمق، أى بالإعلام الدولي والإقليمي وتهريب السلاح والذخائر وتسلل المقاتلين الأجانب وتدفق التحويلات النقدية وأيضا. بالإرهاب الدولي!وكأنه خيار إستراتيجي: كل العنف يعمل من الأطراف. دمشق العاصمة السياسية وحلب العاصمة الاقتصادية لا ينطلق من داخل أي منهما أي صراع عنيف. العنف يأتي من أطراف الدولة. من درعا في الجنوب كما من إدلب على بعد كيلومترات معدودة من الحدود التركية. وحتى في المنطقة الوسطى في حمص وحماة. يحدث كل شيء من الأطراف لا من العمق. وقد كان ذلك العنصر جليا منذ بداية تفجر العنف في سوريا انطلاقا من الجنوب. وفي يوم وصولي إلى سوريا (السبت 10 ديسمبر) تم تفكيك وتفجير 8 عبوات ناسفة في دوما وحماة وقتل 3 بينهم فتاة واصيب 13 في أعمال عنف مسلحة في حمص في منطقة شنشار بريف المدينة وقرية طفس بأطراف مدينة درعا وقرية معردبسا ومدينة سراقب حول إدلب!اللعب من الأطراف يستدعي الذاكرة إلى الحالة الليبية التي سبق، وأن شهدتها وتفقدتها بنفسي في إبريل الماضي. كان العنف يندلع من بنغازي شرقا إلى قرب رأس جدير غربا، ومن مصراتة بالشمال إلى مزدة وجبل الغريان في الجنوب الغربي. طرابلس لم تكن تعاني شيئا من العنف المسلح للمتمردين في سياق الحرب الاهلية حتى تحت وطأة القصف من طيران الناتو المدعوم تركيا وقطريا وإماراتيا. وفجأة انفجرت العاصمة الليبية. لكن سوريا ليست ليبيا ولا حتى العراق، لم ينشق أحد من الحكومة السورية ليقود الثوار المسلحين لا وزير العدل ولا وزير الداخلية. وسيناريو حظر الطيران فشل في سوريا التي نادى بعض معارضيها لفرض منطقة عازلة بينهم وبين الدولة. والأهم أن سوريا لم تستخدم الطيران في صراعها من المتمردين المسلحين برغم أن منطق المواجهة في الأراضي الجبلية الوعرة في الأطراف يفرض هذا الخيار. لكن كل هذا لا يمنع أن العقل الذي خطط لتفجير ليبيا من الداخل. يستند إلى خبرته هنا في سوريا، بصرف النظر عن التاريخ والجغرافيا. وعلم الاجتماع الذي يؤسس لحقيقة أن المجتمعات البشرية ليست من نسيج واحد! [c1]أين لهيب الداخل[/c]
وعندما توجهت إلى درعا نهار الأربعاء 14 ديسمبر. اكتشفت أن هذه المدينة التي تشكل عاصمة للمحافظة الحدودية. تقع على أطراف المحافظة ذاتها. إذ لابد من خوض 80 كيلومترا من حدودها الإدارية للوصول إليها. وهناك تفقدت أهم 3 معالم للصراع الذي يدار بضراوة من قبل شاشات الفضائيات. المسجد العمري ومبنى الإذاعة والتليفزيون وساحة العدل (مجمع المحاكم). فاكتشف أن النار إنما تشتعل بشكل انتقائي ممنهج. في الجامع العمري العتيق بصحنه الداخلي المربع الذي تحيط به أقواس بنيت على أعمدة رومانية عتيقة. لا أثر للرصاص من خارجه ولا من داخله. الحجارة القديمة لا تحمل أثرا لدماء من أى نوع أو لطلقات الرصاص. والمئذنة المربعة التي تشمخ كالأبراج التي تقع خارج المسجد. لا تحمل أي أثر للاقتتال. المسجد يعتبر صغير الحجم إذا ما قورن بالجامع الأزهر في القاهرة أو بالجامع الأموي في دمشق. وإن كان يحمل الطابع المعماري ذاته. ولكنه يحمل برهانا صارخا على عراقته وقدم أحجاره. صحيح أن البنايات من حوله تشهد بوجود عنف ترتب على قذف الحجارة وسقوط زجاج المباني. لكن الرصاص فلا أثر له. والأدهى: أنه بمعاينة محيط الجامع وعلى دائرة لا يقل محيطها عن 300 متر. لا أثر للجنازير التقليدية للدبابات في المكان. فقط هناك مفارز لجنود الأمن تتخندق وراء نقاط من أكياس الرمل على النواصي. وهو برهان على وجود مواجهة سبق وقوعها في المكان استدعت هذا الوجود الدائم. ومن الجامع إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون المحلي في درعا. توجد حركة بناء نشطة للغاية. وهناك أبنية كثيرة تنتصب بأعمدتها الخرسانية ويظهر جليا أن أعمال العمارة بها تجري على مهل. إنها البيوت التي يبنيها أهل درعا العاملون في الخليج. بتحويلاتهم النقدية التي تصل لهذه المدينة في أغلبها من خلال فرع البنك السعودي الفرنسي. لا من قبل شركة ويسترن يونيون. كما هى الحال في إدلب بأقصى الشمال مثلاً!في مبنى التليفزيون الذي يجاور عددا من الكازينوهات وتقع من خلفه أرض فضاء تنحدر لتشرف على عدد من البنايات السكنية. اكتشفت أن اتجاه اللهب في الحريق كان من الداخل إلى الخارج. ما يعني أن الذين أحرقوا المكان اقتحموه أولا ثم أضرموا النار في محتوياته. تلك المحتويات لم أجد لها أثرا على الإطلاق. لا الكاميرات ولا وحدات التحكم ولا وحدات الإضاءة ولا حتى وحدة الاتصال بالقمر الصناعي SNG والتي لا يقل ثمنها بحال عن 200 ألف دولار. ومن خلال تفقد الأبواب الداخلية التي لم تأكلها النار (!). كان واضحا للغاية أن الذين نهبوا محتويات هذه المحطة الإقليمية قبل أن يحرقوها كانوا يعرفون جيدا طريقهم. أي أن هذا العمل (الثوري). كان يستهدف قطع الاتصال ما بين هذه المحطة ومبنى التليفزيون الأساسي في دمشق. فلا يتمكن من إرسال صور منتظمة للحياة وللناس في درعا إلى باقي الوطن. مجرد تغييب لقدرة الإعلام السوري على تقصي الحقائق وإنتاج صور منتظمة الإرسال لما يجرى في الشوارع الهادئة في درعا والتي تفقدتها بنفسي في طريقي إلى قصر العدل.
من شرفة قصر العدل في درعا. أطل جمال عبدالناصر على الجماهير السورية، المكان لا يزال يحتفي بتاريخ وحدة عربية حقيقية أضاعها التآمر الخارجي منذ ستينيات القرن الماضي. هذا المبنى المكون من طابقين بأسقف مرتفعة. احترق من داخله أيضا. والمثير في هذا الحريق أنه استهدف أرشيف وقاعات المحاكم الجنائية دون المدنية. والأعجب أن أحدا لم يمس خزينة صرف الرواتب وتلقي الغرامات بالطابق الأرضي أو غرفة المحامين بالطابق العلوي. والأدهى أن محكمة درعا كانت الأولى من بين كل المحاكم السورية التي تحظى بشبكة (إنترنت) مع باقي المحاكم السورية وكانت بطريقها لإحراز أرشيف إلكتروني للقضايا والأحكام القديمة. لكن كامل المنظومة الإلكترونية من الأجهزة الطرفية إلى الخادم (السيرفر) سرقت. من جديد أسلوب اقتطاع هذه المحكمة عن النظام القضائي السوري. لكن في الشق الجنائي فقط. القتل والسرقة والمخدرات والدعارة والتهريب!
عندما غادرت درعا كان جليا أن الشوارع والناس تحتفظ بذكرى أعمال شغب شملت قذف الحجارة على منشآت رسمية متعددة بما فيها سنترال المدينة. لكن القلب التجاري للمدينة بمحاله ومعارضه. فلا يوجد أدنى أثر لتضرره. البضائع التي تتنوع من المنسوجات إلى الحلويات والسكاكر وأنواع البن. لا يبدو أنها كانت شاهدة على أي شيء، وحركة الحياة طبيعية للغاية في هذه المدينة التي ترتبط شرايين الحياة فيها بحركة التجارة. ككل مدينة حدودية، لكن عندما غادرت المدينة كانت أشجار الزيتون تخفي في العمق حذرا من أشباح العنف. فالمفارز الأمنية التي تعترض حركة السيارات مدججة بسلاح خفيف (بنادق نصف آلية من طراز AK-47) هذا السلاح يستخدم غالبا في القتال القريب خفيف الحركة. وهو الأنسب عموما في حرب العصابات. عيار مقذوفه هو 7.62 ملليمتر، ومداه المؤثر القاتل يصل إلى 50 مترا.
وجود هذا السلاح بأيدي قوات الأمن يؤكد حقيقتين، الأولى: أنه لا وجود لمواجهة مع جماهير ضخمة. (هذه الحالة تستدعي عيارا أكبر يعمل من مدى أطول يستخدم من فوهات مدافع متوسطة كتلك التي تم استخدامها على عربات نصف نقل في ليبيا وقد تمكنت من إحراز بعض أعيرتها في زيارتي لليبيا في ابريل الماضي ولا تقل عن نصف بوصة) الثانية: أن هناك قتالا. وهو يدور من الأطراف مع مجموعات مسلحة خفيفة الحركة تستخدم المرتفعات والزراعات الكثيفة لا المناطق المكشوفة ولا الحضرية. لكن من أين يحصل المسلحون على الذخائر؟ من أين لهم بوسائل الإعاشة؟ أين توجد مراكز انطلاقهم؟ سؤال لا يريد السوريون من المحافظ (الذي كان لواء سابقا بالجيش السوري) إلى أبسط تاجر الإجابة عليه بوضوح. عموما: عند بوابة الحدود مع الأردن كان الجواب المنطقي يلوح لي ساخرا. ويشير أيضا إلى حدود سوريا مع لبنان. غير بعيد عن هذه المحافظة باتجاه الشمال. ولكن هذه قصة أخرى!.* عن / ( الأهرام العربي )