المحامي محمد علي لقمان
ليس هناك ما يسعد الإنسان في خريف العمر أكثر من شعوره بالسعادة وهو يكتب أو يسرد ذكريات أيام الشباب في أجمل أيامه .. فالعمل في دار (فتاة الجزيرة) منذ اوائل الستينات حتى منتصفها من القرن الماضي اعتبره من أسعد أيام حياتي.فقد بدأت صلتي بصحيفة (فتاة الجزيرة) بكتابة واعداد بعض الموضوعات التي تهم الطلبة واسلمها للأستاذ فاروق لقمان الصحفي المبدع المتميز وبعد فترة قصيرة ابلغني بأنه تم اختياري بأن أكون محرراً لركن الطلبة في الصحيفة وشعرت بسعادة غامرة بهذا الاختيار وبعد فترة قصيرة عرض علي العمل في الصحيفة في فترة ما بعد الظهيرة والمساء في قسم ما يمكن تسميته (قسم الاستماع الخبري) حيث كنت أقوم بتسجيل نشرات الاخبار التي كانت تذاع من اذاعات عدن وصنعاء ولندن وصوت العرب .. ثم أقوم بنقل الاخبار التي تهم قراء الصحيفة وتقديمها للأستاذ فاروق أو والده الأستاذ لقمان ليقوما بالتعديل او الحذف أو الإضافة لتتلاءم مع مقتضيات النشر، إضافة إلى عملي كمحرر لركن الطلبة الذي اختار له الأستاذ لقمان عنوان: (نبني كما كانت أوائلنا تبني: جيلنا الجديد) واصبح الركن يصدر مرتين في الأسبوع[c1]الأستاذ لقمان تميز بفضيلتي حب العلم والعمل[/c]منذ الأيام الأولى في دار (فتاة الجزيرة) لفت انتباهي تميز الأستاذ لقمان بفضيلتي حب العلم والعمل، وبمرور الأيام اخذت قناعتي هذه تترسخ أكثر فأكثر حتى ايقنت بأن العلم عنده فريضة والعمل لديه عبادة .. إذ كنت الاحظ انتظام حضوره إلى مكتبه يومياً خلال فترة عملي يقرأ أو يكتب أو يعطي ملاحظاته للمحررين أو يطلع على (بروفات) صحيفة (فتاة الجزيرة) أو (إيدن كرونيكل) الصحيفة الانجليزية التي كانت تصدر عن (فتاة الجزيرة) ويقوم بتحريرها الأستاذ لقمان ونجله الأستاذ فاروق أو يقابل زواره على اختلاف مستوياتهم الثقافية والأدبية والعلمية والسياسية من مختلف انحاء اليمن والعالم العربي وبلدان اخرى، كما كان يقوم بالاشراف والمساعدة على تثقيف وتعليم ومراجعة دروس ابنته هدى لقمان الطالبة في كلية البنات حينذاك والمساهمة الدائمة بكتاباتها في ركن الطلبة (جيلنا الجديد) والذي خصص لها طاولة في مكتبه كانت تحضر معظم عصاري أيام الأسبوع .. ولقد ادركت مع مرور الأيام خلال تلك الفترة بأن الأستاذ لقمان غرس في اعماق ابنائه صفات فضيلتي حب العلم وعبادة العمل، فالقيمة الإنسانية للعلم تتجلى بالعمل به .. وقيمة الإنسان تبرز بأبهى صورها عندما تستند على العلم، كما ان الأبناء تشربوا هذه الصفات من خلال تحلي والدهم بهذه الصفات .. فالأستاذ فاروق لقمان كان شعلة متقدة من النشاط ومازال، فكان يقوم بالاشراف على تحرير صحيفة (فتاة الجزيرة) وأيضاً صحيفة (أيدن كرونيكل) ومراسل عدة وكالات أنباء عالمية .. وفيما بعد اصبح الصحفي الشهير على المستويات اليمنية والعربية والعالمية لديه العديد من المؤلفات القيمة، ومازال في قمة عطاءاته حتى اليوم متعه الله بوافر الصحة والعافية ومده بمزيد من النشاط.اما الأستاذ المرحوم علي محمد لقمان وهو النجل الأكبر للأستاذ لقمان فهو السياسي والشاعر والأديب والصحفي اللامع وصاحب صحيفتي (القلم العدني والأخبار) ومؤلف عدة دواوين شعرية بالفصحى والعامية وشاعر غنائي عملاق اثرى الأغنية العدنية ايما إثراء.اما الأستاذ المرحوم شوقي لقمان (طيب الله ثراه) الطالب حينذاك فكان عند عودته إلى أرض الوطن لقضاء الاجازات الصيفية يحضر منذ أول يوم وصوله أو ثاني يوم على الأكثر إلى دار الفتاة ليمارس أي عمل يمكن أن يقوم به وكذلك الأستاذ ماهر لقمان الطالب حينذاك (اطال الله عمره ومده بوافر الصحة والعافية) فكان يسلك مسلك اخيه المرحوم شوقي عند عودته إلى أرض الوطن لقضاء اجازاته الصيفية.[c1]الأستاذ لقمان وطيب تعامله وكرمه مع العاملين معه[/c]عند قيام ثورة 26 سبتمبر الخالدة دفعني حماس الشباب آنذاك إلى تأليف كتيب صغير بعنوان (بطل الثورة اليمنية) وعرضه على الأستاذ الذي تكرم وأمر بطبعه مقابل مبلغ رمزي للغاية .. وبعدها بفترة قصيرة دفعني تشجيع الأستاذ بتأليف كتيب آخر عن (اسرار الحب عند الشباب) وتكرم وأمر بطبعه بمبلغ رمزي ايضاً .. واثناء دراستي الثانوية بكلية بلقيس كلفت باعداد بحث عن هيئة الامم المتحدة نشأتها ومهامها ونشاط بعض منظماتها .. فاستعنت بالأستاذ لقمان الذي فتح لي مكتبته العامرة بالكتب العربية والانجليزية في منزله الواقع في منطقة صيرة خلف المعهد العلمي الإسلامي حينها.وعندما أصدر مؤلفه: (قصة الثورة اليمنية) اهداني وكذا محررو صحيفة (فتاة الجزيرة) نسخة منه وكتب الاهداء بخط يده فقد كان طيب تعامله وكرمه مع جميع العاملين في دار (فتاة الجزيرة) و(ايدن كرونيكل) والمترددين عليه مثار اعجاب وتقدير لجميع من عرفوه من قرب.[c1]الأستاذ لقمان التربوي البارز[/c]لم أكن أدرك في بداية عملي في (فتاة الجزيرة) لماذا يطلق عليه الجميع كلمة (الأستاذ) ولكني ادركتها فيما بعد .. فالأستاذ لقمان افتتح حياته العملية مدرساً ثم مديراً في مدارس مستعمرة عدن، وكتب في العشرينات منتقداً السياسة التعليمية في مستعمرة عدن في كتيب عنوانه (هل هذه قصاصة ورق؟) ثم كتب العديد من المقالات النقدية وغير النقدية التي تلقي الضوء عن ما كان عليه التعليم في مستعمرة عدن منذ مطلع القرن الماضي ونشرها في صحيفة (فتاة الجزيرة) في الاربعينات من القرن نفسه، فاصبحت تلك المقالات مرجعاً مهماً للمهتمين والدارسين لتاريخ التربية والتعليم في المستعمرة، فقد افادتني تلك المقالات في كتابة الفصل الثاني من رسالة الماجستير التي حصلت عليها من جامعة عدن عام 1983م، وافادتني اكثر عندما درست مادة تاريخ التربية منذ الاحتلال حتى الثمانينات من القرن الماضي لطلبة كلية التربية جامعة عدن ولجميع التخصصات الأدبية والعلمية للاعوام الدراسية 1984م ـ 1987م من القرن المنصرم.[c1]الأستاذ لقمان الرياضي المواظب[/c]خلال فترة عملي كنت أشاهد الأستاذ لقمان في بعض عصارى أيام الأسبوع يحضر إلى مكتبه في دار (الفتاة) وهو يرتدي ملابسه الرياضية الانيقة .. وهي عبارة عن قميص أبيض و (شورت) سروال قصير أبيض وجوارب بيضاء وحذاء شراع أبيض .. وفي يده اليمنى مضرب الكرة أبيض اللون أيضاً .. وكان يقوم بانجاز ما يمكن انجازه من الاعمال المتعلقة بصحيفتي (فتاة الجزيرة) و (ايدن كرونيكل)، ثم ذهب إلى ممارسة (الرياضة المحببة) لديه وهي لعبة كرة التنس الأرضي في نادي التنس العدني الواقع خلف مستشفى (الكنين)، فيما بعد (مستشفى الشعب بكريتر) ثم يعود لمواصلة عمله في مكتبه حتى لما بعد الساعة التاسعة مساء في بعض الاحيان.[c1]الأستاذ لقمان مظهراً وجوهراً[/c]في الأيام التي لا يمارس فيها الاستاذ لقمان الرياضة فقد كان يلبس البنطلون الأبيض أو الأسود مع قميص (شميز) ابيض غالباً، أو البدلة السوداء أو غيرها مع ربطة العنق الأنيقة واحياناً (بابيون) وذلك عندما تكون لديه ارتباطات عمل أو حضور اجتماعات أو مناسبات أو مقابلات داخل الدار أو خارجها .. وكانت نظارته الطبية تضيف إلى مظهره الأنيق دوماً مهابة وأناقة.باختصار لقد كان الأستاذ لقمان انيقاً في مظهره وأنيقاً في جوهره وكذا في فكره وفي كتاباته وفي تعاملاته مع جميع الذين عملوا كمحررين في (فتاة الجزيرة) آنذاك وأذكر منهم الأستاذ عبده حسين أحمد رائد اسلوب السهل الممتنع وكاتب عمود (كركر جمل) في صحيفة (الايام) حالياً والأستاذ محمد عبدالله مخشف اكبر رواد كتابة الخبر في اليمن والأستاذ المرحوم محمد عبدالله فارع شيخ النقاد الرياضيين والمذيع التلفزيوني اللامع الأستاذ محمد عمر بلجون والمحرر الفني الأستاذ أحمد مصطفى غانم والأستاذ عبدالوهاب عبدالباري الأستاذ الجامعي وكاتب الراوية المشهورة (الطبل) حينذاك ويعذرني من لم يحضرني اسمه الآن.[c1]الأستاذ لقمان اللغوي والأديب والعالم[/c]كان الأستاذ لقمان يعد المرجع اللغوي الحاسم باللغتين العربية والانجليزية وكذا في الجوانب الأدبية والعلمية الذي لا يستغنى عنه محرري (فتاة الجزيرة) و(ايدن كرونيكل) وهو المعروف بالمشاركة الفاعلة في تأسيس نادي الاصلاح وفروعه في انحاء مستعمرة عدن وهو في شرخ الشباب وكانت شدة ذكائه وذاكرته الحديدية محط دهشتنا وهو يقترب من عقد السبعينات من العمر آنذاك حسب تقديري.[c1]الأستاذ لقمان وزيارته لشمال الوطن وهيئة الأمم المتحدة والقدس[/c]خلال النصف الأول من عقد الستينات من القرن الماضي أذكر بأن الاستاذ لقمان قام بزيارته لشمال الوطن بعد قيام ثورة سبتمبر الخالدة فاستقبل من قبل قيادة الثورة اليمنية وعلى رأس تلك القيادة المشير عبدالله السلال استقبالاً كبيراً واحيط بحفاوة بالغة رسمياً وشعبياً وفي تلك الفترة وعلى ما اذكر زار مقر هيئة الامم المتحدة والقى هناك خطاباً مطولاً باللغة الانجليزية دام اكثر من ساعة طالب فيه بحق تقرير المصير .. كما زار القدس ومسجد قبة الصخرة الموجود في القدس العربية.[c1]دعابات الأستاذ لقمان مع العاملين في دار (فتاة الجزيرة)[/c]كثيرة هي دعابته مع العاملين في دار (فتاة الجزيرة) ولكن ما ثبت في ذهني حتى اللحظة دعاباته اثنتان هما:الأولى: في احد عصاري الايام وبينما كان الأستاذ لقمان خارجاً من مكتبه مرتدياً ملابسه الرياضية وبيده مضرب كرة التنس فإذا بالأخ علي عبدالباري كبير صفافي الحروف في المطبعة يدخل باب دار (فتاة الجزيرة) وهو يمضغ القات (مخزن) قادماً من الملعب البلدي (ملعب الحبيشي فيما بعد) حيث كان الأخ علي مولعاً ولعاً شديداً بمشاهدة مباريات كرة القدم وسرد تفاصيلها وانتقاد لاعبيها، وكان نحيف الجسم حينها، فقال الأستاذ لقمان: شوفوا الرياضي المخزن، فرد عليه الاخ علي عبدالباري: أنا رياضي ونص .. فقال له الأستاذ لقمان: يالله نتسابق ـ أنا وانت ـ جرياً من هنا حتى باب حقات وقهقه الأخ علي عبدالباري وهرول مسرعاً نحو قاعة المطبعة في الدار.الثانية: بعد مغرب أحد الايام خرج الاستاذ لقمان من مكتبه وأنا مار بالقرب من حارس دار فتاة الجزيرة (الأخ حمود) الذي كان جالساً على الكرسي بالقرب من الباب الرئيس للدار وهو (مخزن) ولجعته كبيرة تغطي النصف الأسفل من جفن عينه اليسرى فلفت هذا المنظر انتباه الأستاذ لقمان فقال للأخ حمود تعال يا استاذ (سيف الفرح) شوف لي فين السائق؟ فالفتت انتباهي هذه التسمية الجديدة للأخ حمود، فقلت للأستاذ متسائلاً: ما سر هذه التسمية الجديدة للأخ حمود؟فقال الأستاذ لقمان: كان الأستاذ سيف الفرح مدرساً للغة العربية في مدرسة السيلة بكريتر في العشرينيات من هذا القرن يقصد القرن (العشرين) وذات يوم زار مدير المعارف تلك المدرسة زيارة مفاجئة فشاهد الأستاذ (سيف الفرح) يدرس الطلبة وهو مخزن بطريقة الأخ حمود فهدده بخصم اسبوع من راتبه، فتمم الأستاذ سيف يا شيخ اخصم . ايش الديك .. وايش مرقه.[c1] ذكريات عابرة عن الأستاذ لقمان[/c]خلال فترة عملي في دار (فتاة الجزيرة) لم اشاهد الأستاذ لقمان يمضغ القات أو التمبل.. ولم أشاهده ايضاً يشرب الشاي أو القهوة في مكتبه ولم اشاهده يدخن السجائر.ـ في الأسابيع الاولى من عملي دهشت عندما عرفت بأن الشاعر والصحفي علي محمد لقمان طيب الله ثراه ـ هو ابن الاستاذ محمد علي لقمان لقد كنت طيلة الاسابيع اتصور بانه احد اخوانه وذلك لتقارب السن بينهما كما كنت اظن كما ظللت خلال تلك الاسابيع اخلط بين الاسمين.