قراءة/ جيهان عثمان لم أكن قد سمعت عن الشاعر العربي السوري عمر بهاء الأميري - من قبل ! وكغيري - ربما - من القراء الشباب الذين ( يدعون أنهم قراء للشعر العربي الحداثي )، إلى أن وقعت في يدي قصيدة اعتبرتها اكتشافاً لي أن أقرأ مثل هكذا ( شعر ) امتاز برقية وعذوبة ألفاظه وسحر بيانه!.. فقليلون من الناس وجماهير المسلمين هم الذين يعرفون الأستاذ الأميري شاعراً مطبوعاً رقيق اللفظ في جزالة .. عميق الفكرة في وضوح.. غزير الإنتاج في غير تبذل أو إسفاف.. مبدعاً فيما يسيل من مشاعره وأحاسيسه المرهفة على الورق ليعلن عن شاعر كسبته دنيا السياسة وخسرته دنيا القلم والفكر والجمال.. هكذا وصف الأديب الأستاذ يوسف العظم الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري. الأميري سوري الأصل ولد عام 1920م ونشأ وأتم دراسته في الأدب والعلوم والفلسفة في حلب، ودرس الأدب وفقه اللغة في السوربون بباريس، والحقوق في الجامعة السورية بدمشق.. مارس الأميري المحاماة في نقابة المحامين في حلب وترأس المعهد العربي الإسلامي بدمشق ورحل إلى المغرب أستاذاً لكرسي الإسلام والتيارات المعاصرة في دار الحديث الحسنية في الرباط عام 1955م وزائراً ومحاضراً في جامعات الرياض والإمام محمد بن سعود والأزهر والجزائر والكويت وصنعاء وعدد من الجامعات الإسلامية في باكستان وتركيا واندونيسيا. وقد كان سياسياً إسلامياً مخلصاً، شارك في الدفاع عن ( القدس ) وحمل السلاح مجاهداً مع جيش الإنقاذ خلال حرب فلسطين عام 1948م، وأسهم في تأسيس حركة ( سورية الحرة) وكان رئيساً للجانب السياسي فيها ومثل سورية وزيراً وسفيراً في وزارة الخارجية، وتوفي رحمه الله عام 1994م، ودفن بالمدينة المنورة. [c1]شاعرية الأميري: [/c]الأميري شاعر منذ بواكير عمره، يحكي عن نفسه قائلاً “.. بدأت أقول الشعر وأنا طفل في التاسعة، وأحرقت ديواني الأول وأنا ابن اثنتي عشرة.. “ وعن شعره قال العقاد: (دعاء يتكرر ويتجدد ولايتغير، يطالعه القارئ، فيسعد بسحر البيان كما يسعد بصدق الإيمان). ويتحدث عن شاعريته وإسلاميته الإمام الراحل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي - رحمه الله - فقال: ( الشاعرية في شاعرنا الأميري قوية مشبوبة موهوبة جياشة تستند إلى حفظ من البيان العربي غير قليل وثروة من اللغة محيطة بالمعاني وإن لإيمان صاحبنا الوزير الشاعر وتقواه وتربيته الدينية ومحافظته على الشعائر دخلاً كبيراً في تكوين شاعريته وإضفاء جلال الدين عليها..).[c1]آثار الأميري الفكرية : [/c]كان الأميري مثار اهتمام الأوساط الأدبية - محلياً ودولياً - وقد وصفه أكثر من ناقد وأديب بـ ( إقبال العرب ) إشارة إلى شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال - رحمه الله- وقد وضع الأستاذ محمد قطب ( الأميري ) في كتابة الرائع ( منهج الفن الإسلامي ) ضمن خمسة، أربعتهم سكينة بنت الحسين وابن الرومي وطاغور ومحمد إقبال، وذكره الشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي في كتابه ( علاقة الأدب بشخصية الأمة ) على رأس قائمة من الشعراء والأدباء والإسلاميين الذين غرسوا في تربة الأدب الإسلامي روائع إبداعاتهم. وإليكم قصيدة رائعة للشاعر الأميري من ديوان: ( أبوة .. وبنوة ) قصيدة ( أب ) كان الشاعر مع أولاده الثمانية، وعدد كبير من أفراد أسرته في مصيف (قرنايل ) في لبنان ، ثم سافروا جميعاً، بسبب افتتاح المدارس ، وبقي وحده، في خلوة شعرية خصبة، كانت طليعتها القصيدة التصويرية الوجدانية التالية، التي لا نعرف لها نظيراً في الأدب العربي. أين الضجيج العذب والشغب ؟ أين التدارس شابه اللعب أين الطفولة في توقدها ؟ أين الدمى في الأرض والكتب ؟ أين التشاكس دونما غرض ؟ أين التشاكي ماله سبب ؟ أين التباكي والتضاحك، في وقت معاً، والحزن والطرب ؟ أين التسابق في مجاورتي شغفاً، إذا أكلوا وإن شربوا ؟ يتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوا يتوجهون بسوق فطرتهم نحوي إذا رهبوا وإن رغبوافنشيدهم ( بابا ) إذا فرحوا ووعيدهم ( بابا ) إذا غضبوا وهتافهم ( بابا ) إذا ابتعدوا ونجيهم ( بابا ) إذا اقتربوا ****************بالأمس كانوا ملء منزلنا واليوم - ويح اليوم - قد ذهبوا وكأنما الصمت الذي هبطت أثقاله في الدار إذ غربوا إغفاءة المحموم هداتها فيها يشيع الهم والتعب ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهم في القلب، ماشطوا وما قربوا إني أراهم أينما التفتت نفسي وقد سكنوا، وقد وثبوا وأحس في خلدي تلاعبهم في الدار، يصيبهم نصبوبريق أعينهم، إذا ظفروا ودموع حرقتهم إذا غلبوا في كل ركن منهم أثر وبكل زاوية لهم صخب في النافذات، زجاجها حطموا في الحائط المدهون، قد ثقبوا في الباب، قد كسروا مزالجه، وعليه قدرسموا وقد كتبوا في الصحن فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا في الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء التي سكبوا إني أراهم حيثما اتجهت عيني كأسراب القطا سربوا بالأمس في ( قرنايل ) نزلوا واليوم قد ضمتهم ( حلب ) ****************دمعي الذي كتمته جلدا لما تباكوا عندما ركبوا حتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلباً بهم يجب ألفيتني كالطفل عاطفة فإذا به كالغيث ينسكب قد يعجب العذال من رجل يبكي، ولو لم أبك فالعجب هيهات ما كل البكا خور إني وبي عزم الرجال، أب قرنايل في 27 أيلول 1957م
|
ثقافة
الأميري الشاعر الذي كسبته دنيا السياسة وخسرته دنيا القلم والفكر والجمال
أخبار متعلقة