الحرية على (فيسبوك) و(تويتر) قد تنقلب إلى كابوس إنساني
العالم الافتراضي هو جنة عشاق حرية التعبير، فهناك لا توجد قوانين ولا ضوابط ولا حدود جغرافية بل إنه يلقى حماية الدول والشركات الكبرى التي أرادت لسحر الحرية أن يجذب الناس إلى الإنترنت فتنمو الشبكة العنكبوتية وتغير موازين القوى في العالم.هذا ما قلته سابقاً، وقلت إن الشبكات الاجتماعية جاءت لتغير الصورة على مبدأ ما زاد عن حده انقلب إلى ضده. الشبكات الاجتماعية أوجدت نوعاً من الحيرة النظرية والحكومية في التعامل معها حتى في أكثر الدول حماية لأطر حرية التعبير (أمريكا وبريطانيا) وذلك لسببين رئيسين:الأول: أن حرية التعبير تختلف عن حرية التجمع والشبكات الاجتماعية أحدثت هذا التداخل لأول مرة في العالم الافتراضي، وإذا كانت حرية التجمع (أي تكوين مجموعات إنسانية لأي هدف من الأهداف) محمية ضمن مواثيق حقوق الإنسان وضمن الدستور الأمريكي إلا أنها يوماً لم تكن واضحة، وهناك أدلة كثيرة على اختراق هذه الأنظمة عندما تشعر الدول بخطر هذا التجمع سياسياً أو عسكرياً أو أمنياً، ورغم أن القانون والنظم الديمقراطية تمنع معاقبة الإنسان على التحاقه بمجموعة ما، فإن القضاء الأمريكي والبريطاني خالف ذلك في حالات كثيرة جداً مثل المجموعات ذات الفكر الإرهابي أو الانفصالي.الشبكات الاجتماعية سمحت بشكل غير مسبوق للتجمعات الإنسانية أن تتكون بسرعة انشطارية مذهلة، وهناك مجموعة دراسات حول هذا تعرضت لها في مقالات سابقة، كما أن التجمعات الافتراضية تتميز بسيولة عبر مختلف الحدود تجعل التعامل معها أصعب بكثير.هذه المسألة أوقعت كثيراً من المؤسسات الرسمية في حيرة حول العالم، فتحديد ما يقوله الناس وما لا يقولونه مختلف عن مسألة تكوين تجمعات لها تأثير فعلي على الأرض، وثورة مصر كانت الحالة التي كتبت فيها دراسات غربية كثيرة تشيد بالثورة، ولكنها تشير بخبث لما يمكن أن تفعله الجماهير من خلال الشبكات الاجتماعية.الثاني: أن الشبكات الاجتماعية أحدثت حالة تداخل بين الناس يفقد فيها الإنسان فرديته واستقلاليته. حرية التعبير هي جزء من فلسفة فردية غربية، والحرية محترمة ما لم تتجاوز الحدود الفردية وتضغط على حرية الآخرين، والشبكات الاجتماعية قتلت هذه الحدود وتداخلت الأمور فيها بشكل أثار حيرة الخبراء القانونيين والمؤسسات القضائية.ولكن عندما تتحدث مثلاً عن نسبة عالية من الشركات التي تعتمد حالياً الاطلاع على صفحة الشخص على فيسبوك وتويتر وتحليلها (باستخدام برامج كمبيوتر متخصصة) قبل توظيفه أو إعطائه بوليصة تأمين أو قرضاً بنكياً، فهذه الشركات وإن كانت لا ترتكب خطأ قانونياً مباشراً فهي تعتدي على حرية الأشخاص الفردية، وتعاقبهم على حياتهم الشخصية.لقد أعطت هذه المشكلات في طبيعة الشبكات الاجتماعية الحق الضمني للحكومات حول العالم (بلا استثناء) أن تشتري تلك البرامج المتقدمة وتكون جيوشاً إلكترونية تركز على رصد ومراقبة ما يكتبه الجماهير، ولأن العالم الافتراضي ليس فيه حدود، فهذا يعني أن تراقب كل الحكومات ما يقوله كل الناس دون أن يكون هناك شعور بأن هذا يخالف السيادة الوطنية لدولة ما، بل إن جهاز الـ (CIA)خالف لأول مرة بشكل واضح قانوناً أمريكياً يمنعه بوضوح من التجسس على الأمريكيين لأن الجنسية في العالم الافتراضي هي أمر ثانوي ولا يمكن تحديده.هذا كله أسهم من زيادة الاستثمارات في أنظمة الرقابة والرصد على الشبكات الاجتماعية، وسمح للحكومات أن تتحرك بصمت لمعاقبة أولئك الذين «يسيئون الأدب» على شبكة الإنترنت دون تحرك قانوني واضح لمنع ذلك في الدول الديمقراطية بسبب ضبابية الأنظمة حول حرية التجمع كما ذكرت سابقاً. هذا كله أحدث حالة من الذعر في أوساط الحركات السياسية في أوروبا وأمريكا وخاصة منها الراديكالي والليبرالي واليساري، الذين استمتعوا لعقود طويلة بحرية حركتهم، ليجدوا أنفسهم فجأة تحت رقابة الدول وعينها الساهرة، تدعمها تكنولوجيا مراقبة مذهلة في قدراتها التي لن يتخيلها معظم القراء الذين لم يطلعوا على هذه الأنظمة.هذا كله يعني أننا نعيش حالة تحول ضخمة في قضايا الحرية وحقوق الإنسان وهي حالة ستحدث كثيراً من الفوضى، وتؤثر على وضع شبكة الإنترنت وتغير العلاقة بين الأجهزة الأمنية أو القضائية وبين الناس.بل إنني أؤمن شخصياً أن حالة الرقابة المكثفة على الناس في كل مكان ستزيد ولن تنقص، وقد تكون هي النهاية الحقيقية للحرية التي استمتع بها الغربيون لقرون من الزمن.الشبكات الاجتماعية مثل (فيسبوك) و(تويتر) أعطت للإنسان قدرة غير مسبوقة على التواصل مع الآخرين، ولكن الثمن كما يبدو سيكون غالياً جداً.(نقلاً عن صحيفة الشرق السعودية)