قصة قصيرة
كانت حياته هادئة سعيدة في هذه الفيلا الصغيرة التي يعيش فيها مع شقيقته الوحيدة، وخادمتها الطيبة .. بعد أن انتقل أبوهما إلى العالم الآخر. لقد ظن الشاب أن الأقدار قد هادنته بعد حرب، ولم يعد يتوقع شيئاً جديداً .. فقد كفاه ما عاناه.انفصل أبوه عن أمه منذ سنوات بعيدة .. وغادرت أمه البيت إلى غير رجعة، وتركت شقيقته طفلة في أعوامها الأولى .. وقد اصبحت اليوم فتاة يافعة جميلة.كان قانعاً بحياته .. سعيداً بشقيقته التي يحبها أعمق الحب، والتي كرس لها حياته بعد وفاة أبيهما .. فلم يفكر في الزواج، وأشرف على تربيتها حتى شبت، وأصبحت زهرة يانعة.وها هو ذا أخيراً قد حقق أمله الوحيد في الحياة، امله العزيز الذي عاش من أجله، والذي وهب له كل جهده .. أن يهيئ لاخته بيتاً، ويختار لها زوجاً كاملاً يرعاها ويسعدها وعندما تحقق له هذا الأمل، ظن أنه قد قبض السعادة بيديه، لقد تصور انه ترك الماضي وراء ظهره .. وأن الزمن قد محا ذكرياته المحزنة .. ولكن هاهو ذا الماضي أمامه من جديد ليحطم أحلامه.عاد يذكر آخر مرة رأى فيها أمه، كان ذلك منذ سنوات مضت .. سافر إلى المدينة ذات صيف .. وحدثته نفسه أن يذهب ليراها، وعندما وقع بصره عليها، ارتجف وذهل .. كانت صورة بغيضة لامرأة مستهترة، ولم يعد لرؤيتها مرة أخرى.ومرت به السنوات وقد نسيها تماماً .. وشبت أخته الصغيرة وهي لا تعلم أن لها أماً على قيد الحياة.وبالأمس .. نعم بالأمس فقط وصلته رسالة منها تقول: (قرأت في إحدى الصحف خبر عقد قران، ابنتي يوم الخميس القادم، وسوف أحضر مساء ذلك اليوم لأرى ابنتي، وأحضر عقد قرانها).ودهسته الحيرة .. ماذا يفعل؟ وماذا يقول لأخته عندما تظهر أمه فجأة وهي تعلم ان أمها قد ماتت، وهي طفلة في أعوامها الأولى، وكيف يجابه خطيب أخته، .. وماذا يقول له .. وقد أخفى عنه أيضاً أن أمه على قيد الحياة؟ومرت به لحظات ثقيلة أحس فيها بأنه أتعس مخلوق على وجه الأرض .. وتمنى لو حدث شيء يعوقها عن الحضور .. ولكن أمه حضرت في الموعد المحدد، ووجد الابن نفسه أمام أمر واقع، وقد تفاقمت آلامه وكاد الدمع يطفر من عينيه، ولم يدر كيف يبدأ الحديث، ووقف أمامها جامداً يحدق في الظلام، فقال لها في نفاد صبر، وقلبه يخفق في صدره: اعذريني لو قلت لك إنك تركتينا من سنوات بعيدة، فلست أرى داعياً لحضورك الليلة، فبهتت لكنها سرعان ما قالت: (ماذا تقول؟ الليلة ستتزوج ابنتي، ولابد ان أحضر حفل زواجها)، فقال في اضطرب شديد (أرجوك لا تفسدي علينا حياتنا) فقالت في غضب: ما هذا الذي تقول؟ـ من فضلك أتوسل إليك.كيف تجرؤ على أن تطلب مني ألا أحضر حفل زواج ابنتي .. هل أنت مجنون؟ومسك بيدها قائلاً: (أتوسل إليك .. دعيها .. لا تهدمي سعادتها) فسحبت يدها بشدة، وتحركت خطوات. فقال لها وهو يتعلق بآخر أمل: اسمعي .. كلمة واحدة .. إنها لا تعرف انك على قيد الحياة، واستدارت نحوه في انفعال، وقالت في غضب عنيف: (قال لها أبوك إنني مت .. أليس كذلك؟ إنني اعرف أنه كان يكرهني، وقد نقل كراهيته إليك .. لكنني سأذهب إليها .. لا بد أن ارأها .. وسأقول لها أنني لم أمت، واثبت لها كذب أبيك وكذبك).يا أمي ارحميني وارحمي ابنتك وتشبث بيدها أرجوك أتوسل إليك .. استحلفك بأغلى شيء لديك .. ليس من داع لظهورك الليلة .. أن خطيبها أيضاً لا يعرف عنك شيئاً .. بربك عودي.دعني .. دعني وانطلقت صوب الفيلا ووقف جامداً كأنه شل في مكانه وهو يرى أمه تتقدم صوب البيت لتهدم بيديها سعادة أخته البريئة المسكينة التي لا ريب أنها تنتقل في البيت سعيدة ضاحكة.ورأى أمه وهي ترقى الدرج، فكاد قلبه يكف عن النبض وفي هذه اللحظة خرجت الخادمة إلى الشرفة، ورآها تقترب منها، وتتحدث إليها .. لا ريب أنها تسألها عن أخته، وتعرفها بنفسها .. وأحس بدوار شديد، وخيل إليه انه سيهوى في مكانه، ورأى أخته تخرج إلى الشرفة أيضاً ورآها تمد يدها إليها وتصافحها ورفع عينيه إلى السماء .. فقد ضاع كل شيء .. ولم يعد لديه سوى السماء .. وهي ملاذه الأخير .. وعندما أسترد بصره من الصفحة المظلمة المتألقة بالنجوم، وعاد يسدده صوب البيت، هاله أن رأى أمه تهبط الدرج وتغادر الفيلا.ولم يصدق عينيه .. وخيل إليه أنه يحلم .. وظل جامداً في مكانه كالتمثال .. واقتربت منه أمه، ثم قالت له: (لا تخف يا بني، فلن تراني مرة أخرى .. كنت فقط مشتاقة لرؤية ابنتي .. ورأيتها وقد عدلت، فلم اقل لها من أنا، وزعمت أنني ظللت طريقي، وأنني كنت أقصد بيتاً آخر).ثم تركت ومضت وظل يتبعها بنظراته حتى اختفت في ظلام الطريق، ثم غادر مكانه، واتجه نحو البيت، وعندما دخل البيت، بادرته أخته قائلة: أين كنت؟ لقد بحثت عنك في الحديقة ولم أجدك؟ فقال لها في صوت مرتعش حاول أن يجعله طبيعياً، (خرجت لا تمشى قليلاً) فقالت له في حنان: لماذا تبدو حزيناً .. هل أنت حزين لفراقي؟ فشعلها بنظرة حب وقال: (طبعاً حزين .. سوف تذهبين إلى زوجك وتتركيني وحيداً ..) فربتت عليه كما تربت الأم على طفلها، وقالت له: (لا تخف .. ستراني كل يوم .. لا تبد حزيناً هكذا فتثير أحزاني).من لحظات دخلت سيدة غريبة بيتنا خطأ فقد ظلت طريقها وقالت انها ذاهبة لزيارة ابنتها وكانت حزينة وقد ترقرق الدمع في عينيها، واحزنني مرآها .. وتذكرت امي التي لم ارها، وتمنيت لو كانت على قيد الحياة، فتشاركني سعادتي، هيا ابتسم يا عزيزي ولا تزد حزني حزناً .. فابتسم والدمع يلمح في عينيه.