دراسة تكشف إبداعه الشعري والروائي
القاهرة/ متابعات: جابر أبو حسين .. من أشهر شعراء السيرة الهلالية في العالم العربي، كان موهوبا لديه القدرة على أن يحفظ مليون بيت شعر من القصيدة، بدأ الناس التعرف عليه أكثر حين قدمه الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في الإذاعة ليقص شيئا من السيرة الهلالية، كما أن أحد الباحثين الأميركيين، وهو جون رينولدز، سجل له مئات من الساعات للسيرة.ولد جابر عام 1913 بقرية أبار الوقف، مركز أخميم بمحافظة سوهاج. وأقام على فترات بقرية الكوم الأصفر لدى عائلة المعاتيق، وأقام هناك العديد من الحفلات وهو من كبار مؤلفي السيرة الهلالية. وقد ظهر في السبعينيات من القرن الماضي، عندما أخذ يقص علينا السيرة الهلالية.. والسيد الضوي، ولن يستطيع أحد أن ينسى مقولة الأبنودي الشهيرة (قول يا عم جابر)، فقد كان شاعرا وروائيا ومؤديا للسيرة، من خلال ممارسته الطويلة، وتعمقه في مواقفها، وغوصه في معانيها النفسية، من خلال تقمصه لشخوص السيرة.. لذلك سيظل جابر أبو حسين علامة مميزة في تاريخ الإذاعة المصرية والسيرة الهلالية.[c1]أعظم رواة السيرة[/c]ويعتبر جابر أبو حسين - كشاعر شعبي - من أعظم رواة السيرة الهلالية، فهو يقدم دراما شعبية أو مونودراما (الممثل الواحد) قبل ظهور هذا الشكل في المسرح المصري، وهو راو يقدم تصويرا فنيا للأحداث، وعند أدائه للسيرة يقوم بتطويع صوته وفقا لمتطلبات التعبير عن طريق الأداء الصوتي المتنوع.ذلك هو مدخلنا لكتاب(جابر أبو حسين شاعر الهلالية) الملقب بـ (هوميروس العرب)، الصادر عن موسوعة سوهاج التراثية، للشاعر والمخرج والباحث أحمد الليثي وشاركه في الإعداد محمد عبد الرحمن. يقع الكتاب في ثلاثمائة وخمس وأربعين صفحة من الحجم الكبير، ويعد إضافة كبيرة في مجال السيرة الشعبية، وخصوصا السيرة الهلالية، فهي من أهم السير الشعبية التي عرفها موروثنا الشعبي، والدليل على ذلك استمرارية هذه السيرة في التداول والتناقل عبر الأجيال حتى يومنا هذا.وقد بذل الباحث جهدا كبيرا؛ من أجل إنجاز وتوثيق هذا الموروث الشعبي الكبير، وتسجيله من رواته الأصليين، من خلال جولات ميدانية عبر قرى ونجوع محافظة سوهاج. ومن كل المشاهدات والملاحظات التي تثبت مدى تغلغل السيرة الهلالية في كل شرائح المجتمع السوهاجي من مثقفين إلى عوام الناس، فمنهم من يستطيع أن يروي لك سيرة (بني هلال) وغيرها من السير كـ (سيرة الزير سالم)، على نمط الحكم الشعبي.ومنهم من يحترف روايتها وأداءها شعرا ونثرا بغرض كسب العيش، ومنهم من يقوم بروايتها على ربابته التي يحتضنها تحت إبطه أينما ذهب، قريبة من قلبه كأعز ما يملك، يحملها كمن يحمل سلاحه الوحيد، يجوب بها القرى والنجوع والمسالك والدروب، يروي لجموع الناس سيرته المعشوقة التي تربط بينه وبينهم، وهم يحوطونه بالحرارة والدفء ويؤازرونه ويدعمونه بصيحات الاستحسان والقبول، حيث إنهم يحتفظون بها رسوما شعبية اعتزازا بأبطالها، ويعلقونها على جدار دورهم، ويدقون وشما على أيديهم وصدروهم ليحتفظوا بها مدة طويلة، إعلانا لمدى الرجولة والفحولة والشهامة.ومنهم من يحتفظ داخل (خزانته الطينية) بالكتب القديمة الصفراء والحمراء، التي ورثها عن آبائه وأجداده، والتي سوف يورثها لأبنائه وأحفاده، فهي مليئة بأخبار السير العربية والحروب الهلالية، ومنها ما هو منسوخ بخط اليد ويعتبر مخطوطا نادرا لقدمه وعراقته، ومنها ما هو نتاج المطابع القديمة في بداية دخولها إلى مصر كـ (سيرة العرب الحجازية - الريادة البهية - تغريبة بني هلال - سيرة بني هلال).والسير الشعبية عنصر من عناصر الأدب الشعبي، والذي هو بدوره نوع من أجناس الفنون الشعبية، أو ما يطلق عليه مصطلح (الفلكلور)، وهو من إبداع الجماعة الشعبية.[c1]نشأة جابر أبو حسين[/c]قسم الباحث كتابه إلى خمسة فصول، الفصل الأول: ويشمل نشأة جابر أبو حسين، ورحلة المواليد والتغريبة، وشاعريته وارتحاله في الليلة الهلالية، والفصل الثاني: ويشمل السيرة الهلالية في مصر وسوهاج، والفصل الثالث: يتحدث عن أثر جابر أبو حسين في شعراء السير، الفصل الرابع: ويتحدث عن السيرة الهلالية ولغتها وملحمتها وأسطوريتها، الفصل الخامس: ويتحدث عن الفنون الشعبية في صعيد مصر، ويشمل فن الواو، وملاحق الرواة والصور.ولد جابر أبو حسين لأبوين مصريين، واسمه الحقيقي جابر حسين أحمد آدم، وشهرته (جابر أبو حسين)، التي أطلقها عليها عبدالرحمن الأبنودي. وكان مفتونا منذ صغره بالغناء الشعبي، وكان يواظب على الحضور بين يدي شيخ (الكتاب) حتى سن عشر سنوات، وحفظ القرآن الكريم وبعض الألفيات القديمة، التي كانت تتلى عليهم في كتاب القرية، وكان يعشق المديح النبوي، ويحضر مع المنشدين في ليالي القرية ومجاوراتها ليردد وراءهم ما يقولون من ابتهالات وتواشيح، حتى لفت الانتباه صوته العذب الجميل وذاكرته القوية في الحفظ، وكان يعجب به مداحو القرى ويصطحبونه معهم في الليالي والموالد. رحلة التغريبة والريادة.إلى أن أحس ابن عمه ويدعى (أحمد بخيت)، أن جابر بدأ يسلك مسالك القوالين، أو الشعراء كما يسمونهم في الصعيد، وهم جماعة يعزفون على آلة الربابة، ويجوبون البلاد يغنون قصص السيرة الهلالية ليكتسبوا بها لقمة العيش، أنذره ابن عمه بأن يترك المشي وراء هؤلاء الناس، ويلتفت إلى حياته إلا أن جابر أصر على ما نوى عليه، وعقد العزم على المضي في نفس الطريق، وزادت المضايقات، وكان قد بلغ من العمر 16 عاما، فترك القرية وتوجه إلى الإسكندرية، وعمل بأحد الأفران ليوفر لنفسه مقومات الحياة والمعيشة في غربته.[c1]الشاعر الجوال[/c]وبدأ جابر يتردد على المقاهي التي يوجد بها الشاعر الشعبي الذي يروي السيرة الهلالية أو غيرها بواسطة كتاب يقرأ منه على الناس، وكان يدعى الشيخ (محمد الطباخ)، وهو من المداحين لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حيث إنهم يجيدون الاستهلال الديني الذي حفظوا مادته من الأذكار والأوراد والقصائد العربية الشهيرة في المديح النبوي الشريف.وحذا حذوهم جابر أبو حسين في استهلاله للسيرة فانظر إليه، وهو يقول: (أصلي على النبي الهادي/ خد النبي نادي/ أنا قصدي ومرادي/ أشاهد ولد عدنان/ صلاتي على النبي العربي/ طه عالي النسب/ مرادي ومقصدي وطلبي/ أشاهد صفوة الرحمن).وكانت رحلة جابر أبو حسين بمثابة (الريادة) في طريق السيرة الهلالية، فقد استمع وتعلم وعرف واستطاع أن يزود نفسه بالعلم عن رحلة الهلالية في رحيلهم من الجزيرة العربية، قاصدين تونس الخضراء، مارين بمصر وصعيدها، والتي تركوا بها أنسابا وجذورا لبني هلال، ولا تزال تعرف حتى الآن في بلاد الصعيد.وكانت رحلة الإسكندرية فرصة جيدة للتعلم الفني في الأداء والغناء على يد أهل الخبرة والدراية لسنين طويلة، حتى استطاع أن يحفظ السيرة بأكملها من الألف إلى الياء، واستوعبها فصلا فصلا، وقصة قصة، واختزنها في مخيلته وذاكرته المتقدة، حيث تعلم فن الأداء والمقامات اللحنية على يد المشايخ الذين يجيدون فن التجويد في الأداء الصوتي، والتلوين لحفظهم القرآن الكريم وقراءته، وحفظهم للشعر العربي القديم، ومعرفتهم بفنون التدريب الصوتي. [c1]أبوحسين والأبنودي تجربة ثرية[/c]وعاد جابر أبو حسين إلى آبار الوقف بأخميم، بعد أن مكث في الإسكندرية خمسة عشر عاما، خبر فيها السيرة كاملة، محملا بموروث الوجه البحري شكلا ومضمونا، مدونا للسيرة الهلالية، عاقد العزم على المضي قدما في نفس الاتجاه، ولكن بما يتفق وطباع أهل الصعيد بلغاتهم ولهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم.وعكف على تحويل ما حفظه إلى مربعات شعرية على غرار “فن الواو”، واستمر يؤدي فنه وعلا شأنه في سائر محافظات وسط وجنوب الصعيد، وكان استشهاد ابنه عبدالعظيم في حرب أكتوبر المجيد محطة مهمة في حياته.ويروى أنه أحيا ليلة، وكان الجرح لا يزال باقيا لم يندمل بعد، أبكى فيها جميع الحاضرين، وتكاد تلمح الحزن والأسى في أدائه، وهو يتمثل غربته واستشهاد ابنه، وهما محطتان مهمتان في تكوين شخصيته، وتأثيرهما على إبداعه وأدائه العبقري الذي يقترب من أداء أغاني العديد والحجيج في بلاد الصعيد، حيث استوعبه من كثرة جولاته وارتحاله ومعرفته بالبلدان والناس وغوصه في أعماقهم وقدرته على هضم فنون هذه المناطق.وكان الرجل يتميز بأذن حساسة جدا، وأنه طبيعة شفافة عالية تصل به في بعض الأحيان إلى حد التصوف.[c1]دور الأبنودي[/c]واستمر جابر في مشواره وعطائه الفني حتى عام 1977 إلى أن حضر إلى (آبار الوقف) الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وضيفان من الأجانب الذين يدرسون السيرة الهلالية في مصر، واصطحبوا معهم العمدة، وكان له تأثير قوي على جابر ليقنعه ليذهب معهم إلى القاهرة ليسجل الهلالية في الإذاعة قبل أن يموت وتموت معه السيرة، فرفض كما رفض من قبل حين عرض عليه (زكريا الحجاوي)، نفس العرض في الستينيات.ومع ضغط العمدة، وتحمس الأبنودي كشاعر معروف ومحبوب، ومكث الأبنودي وعطيات الأبنودي (بآبار الوقف) لمدة ثلاثة أشهر يسجلون السيرة الهلالية بأكملها من جابر أبو حسين، واستطاع الأبنودي بذلك الصنع أن يحتفظ للأدب الشعبي في مصر بسيرة شعبية صعيدية لمبدع شعبي صعيدي، حيث استطاع جابر أن يضمن نصوص السيرة كل معطيات وإبداعات من (درر التراث الشعبي) في صعيد مصر، ومفرداته وألفاظه، وصوره وخيالاته، وأمثاله وحكمه، أغانيه وحكاياته، والتي استوحى منها مقاماته اللحنية، وتراكيبه اللفظية الموسيقية البسيطة. وظلت الهلالية تذاع بصوت جابر، حيث أصبحت مصر كلها وكأنها قرية واحدة، وسامر شعبي واحد حول الإذاعة المصرية إذاعة الشعب في تمام الساعة السادسة والنصف من كل يوم.[c1]صوت جابر[/c]وبعد ذلك بدأت أشرطة التسجيل تغمر سوق الفن في مصر بصوت جابر أبو حسين شاعر الهلالية، وقام الأبنودي بنشر نصوص السيرة لجابر وغيره من شعراء الصعيد في خمسة كتب (بأخبار اليوم)، وهي تحوي الرحلة الأولى للسيرة الهلالية، هي رحلة المواليد، ولا يزال الأبنودي يحتفظ ببقية السيرة التي سجلها بأكملها من جابر أبو حسين، وهي رحلة اليرادة، التغريبة، الدواوين، الأيتام.ورحل جابر أبو حسين عن عالمنا عالم 1997، وتوفي في بلدته ودفن بمقابر عائلته، وترك للحياة الشعبية إرثا عظيما وملحمة عربية تفوق كل ملاحم المدنيات الأخرى. رحل جابر أبو حسين وترك لنا السيرة الهلالية بصوته تعيش معنا حتى يومنا هذا، فلو رفض وأصر على رفض تسجيلها ما تم تخليدها، فهما من أجمل ما ترك أبو حسين، وهنيئا للأبنودي بها، فهي محطة يعتبرها من أهم محطات حياته التي حقق فيها النجاحات الكثيرة. [c1]* وكالة الصحافة العربية[/c]