مــقــاهـــي عـــــــــدن:
أحمد حسن العقربيظل المقهى تاريخيا في عدن القاسم المشترك ونقطة الربط بين مختلف أماكن العيش الخاصة والعامة بين أمكنة الترفيه وأمكنة الإقامة والاستقرار والسكن. وظل المقهى يلعب دورا حيويا في إرساء التواصل بين الأفراد وخروجهم من ملل الحياة اليومية. وبات مصطلحا مألوفا في الحياة اليومية.ولعل المقهى العدني يضاهي في الزمان مختلف الأمكنة الأخرى مثل موقع العمل والمنزل، إذ أن المقهى لا يعتبر عنصرا هامشيا كثيرا ما يكون لتبديد الوقت، وإنما هو مكون ثقافي واجتماعي وسياسي ومهني وعنصر رئيسي في البنية المعمارية للمدينة الحديثة. [c1] مقاهٍ تحتضن الوطنيين [/c]بالرغم من عراقة بعض المقاهي التقليدية، كمقهى;سكران ومقهى زكو في مدينة عدن، فقد رافق ظهورها إبان الاحتلال الإنجليزي لعدن ظهور المقهى الأوربي الذي يعود تأسيسه إلى ما قبل عام 1881م وتحديدا سنة 1870. وأصبحت وظيفة المقهى في عدن لا تنحصر في الاكتفاء بشرب القهوة والشاي كما لم يكن حكرا على بعض الفئات مثلما هو حاصل في بعض المقاهي العربية، وإنما ظل حاضنا للأديب والمثقف والسياسي والرياضي والنقابي والطلاب دون استثناء. وإن ظهرت في الوقت الحالي المقاهي الجديدة والمطاعم التي تتنوع فيها المشروبات إلى جانب القهوة والسندويتشات، لكنها تحمل نكهة التاريخ للمقاهي التقليدية. وحتى مقاهي الانترنت وهي شكل جديد من المقهى، ولكنه لا يحمل عبق التاريخ وذاكرة الشعب. وحتى إن استطاع هذا النوع من المقاهي الجديدة خرق أنظمة المجتمع في التواصل التقليدي الذي يتم بين مجموعة من الأفراد بطريقة مباشرة وجها لوجه وذلك عن طريق تبادل الحديث وإثارة القضايا، إلا أن الركيزة الأساسية للتواصل عبر مقهى الانترنت هو جهاز الحاسوب الذي كثيرا ما يعتمد عليه كأداة للتعامل مع نصوص منشورة على الشبكة أو التعامل مع أشخاص لا تتوفر لهم حالة تواصل سابق فيما يتعلق بالشتات. والذي عاصر مراحل التاريخ الوطني لعدن هو شاهد عيان على تلك المقاهي التي كانت مفضلة للقاء أعضاء الأحزاب السياسية والتنظيمات السياسية والأدباء والرياضيين وأصحاب المهن وحتى البدو الرحل أو الجمالة الذين يوردون الفحم النباتي والأغنام إلى سوق السيلة التاريخية في الشيخ عثمان.وللغوص في أعماق تاريخ هذه المقاهي أذكر منها على سبيل المثال أعرق مقهى في كريتر: مقهى سكران نسبة إلى صاحبه الذي يدعى بهذا الاسم، وكما عرفت من حفيده أن هذا المقهى شكل منهلا وطنيا لرموز الحركة الوطنية والثوار. والحقيقة، حينما بدأت أستعيد خيوط ذاكرة الطفولة ذكرت حينما كنت أرافق والدي - رحمة الله عليه- وكان حينها جنديا بحريا لمكافحة التهريب في السواحل في تلك الفترة، وكان يحرص قبل أن يذهب إلى التواهي أن يشرب من أعرق مقهى في الشيخ عثمان مقهى القميري، هذا المقهى الذي كان يرتاده مثقفو وسياسيو وأدباء الشيخ عثمان، أمثال الأديب والشاعر الوطني البارز إدريس حنبلة، وقائد الأمن العربي الكمشنر صالح عبد الله العقربي إبان الاحتلال البريطاني إلى جانب فارسي كرة القدم الرياضيين حربش والقيراط. [c1] تحدي نوائب الدهر [/c]أعود إلى ذكر مقهى سكران الذي أسسه المرحوم عبد الله سكران عام 1910 في مبنى محمد الفقيه، ثم نقله ابنه عام 1944 إلى جوار مسجد الاهدل في شارع الزعفران ثم جاء بعده مقهى زكو وهو من أقدم المقاهي التاريخية إلى جانب مقهى عبدان ومقهى كشر ومقهى سيلان في كريتر ومقهى القميري و الشجرة في الشيخ عثمان ومقاهي الجرك و الحجازي و الدبعي و عبد الجبار ثابت في التواهي، وبعض هذه المقاهي ما زال موجودا حتى اليوم. وهناك مقاه انتهت عبر الزمن واختفت مثل مقاهي أصحاب المهن كبيع الأغنام والفحم النباتي ما كان يطلق عليها بمقهى الجمالةفي السيلة أو مقهى بائعي الفحم في كريتر حيث كانت تقدم هذه المقاهي للناس القهوة المرة مع التمر والبن المحروق والبن المطري والبن الوادعي والقهوة المزغولة وحليب البقر. وكانت القهوة منتشرة في البيوت والمقاهي على حد سواء، ثم تراجعت القهوة وحل محلها الشاي، ولم يبق مقهى الآن يقدم القهوة غير مقهى واحد أمام مسجد الاهدل في كريتر ومقهى القهوة المر في سوق البلدية القديم في الشيخ عثمان حيث كانت هذه المقاهي تعد ملتقى الأصدقاء وأصحاب المهن الواحدة ومن مختلف شرائح المجتمع، حيث كان يرتادها السياسيون والفنانون وكبار التجار أمثال محمد عبد القادر مكاوي وحسن جاوي ومحمد علي باشماخ وعلي محمد حاجب وحسين علي بيومي وشاعر لحج الأمير احمد فضل القمندان والفنان عمر غابة وعبد الله غالب عنتر، وكثيرين ممن كانت تجمعهم منتديات الأدب والفن والفكر. كما لعبت المقاهي في عدن دورا كبيرا خلال حركة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني. وكما عرفت من بعض الشخصيات الاجتماعية المسنة التي عاصرت التاريخ الوطني لهذا المقهى أن جميع منتسبي الحركة الوطنية التي ناضلت ضد المستعمر البريطاني والإمامة ولدت من نادي الأدب العربي الذي أسسه عبد الله المحضار والسيد علوي الجفري وسالم باسويد سنة 1947 وانضم إليه الشيخ الحبشي سنة 1950 ومن هذا النادي انبثقت الجبهة الوطنية وحزب الشعب العربي الاشتراكي سنة 1952 وحزب البعث سنة 1954 وحركة النقابات الست ورابطة أبناء الجنوب سنة 1956 وحركة القوميين العرب 1957 وكذا حزب الشبيبة بقيادة عبد الله عبد الرزاق باذيب ومنظمة علي عبدالله السلفي. وبعض المقاهي كان لأصحابها أدوار نضالية مثل علي عبدان ومحمد سكران الرجل (الوحيد الذي ما زال حيا) حيث شارك في ثورة 26 سبتمبر 1962 في تعز والتحق بالفرقة 13 صاعقة بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب ثم التحق بالجبهة القومية عام 1964 في ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن، ثم أصبح أمينا عاما لجبهة التحرير في 13 يناير 1966. وكانت المقاهي التاريخية في عدن مكانا للاجتماعات السرية للقوى الوطنية مثل نادي الاعبوس ونادي البحارة ونادي الذباحنة ونادي أبناء رداع ونادي الندوة العدنية. بعد ذلك احتلت الرياضة مساحة كبيرة في مقاهي عدن. أما في رمضان فقد كان يتلى على الناس في هذه المقاهي السيرة النبوية من كتاب الهجرة والمخطوط وبعدها القصص الشعبية مثل فتوح الشام وحدائق الزهور في بدائع الدهور و ابو زيد الهلالي المقداد بن الأسود و الزير سالم وكان المداحون يتواجدون بجوار المقاهي. وإن بدأت مقاهي الانترنت تحتل مكانة هذه المقاهي لكنها لم تطمس هوية المقاهي الشعبية فكل منها لها مرتادوها وزبائنها.[c1] دور المقهى في الحركة الفكرية [/c]وحينما يتطرق الحديث لدور المقاهي في الحركة الفكرية والسياسية كما عرفت من بعض المناضلين القدامى فهناك شخصيات شهيرة في العمل الوطني كانت تتردد على مقهى سيلان التاريخي في عام 1968 الذي ما زال يقدم الشاي على الطريقة العدنية وان كان الزحام لم يعد كما كان في السابق. من هذه الشخصيات السياسية التي كانت ترتاد هذا المقهى أمثال المرحوم محمد علي هيثم رئيس الوزراء السابق في الشطر الجنوبي من الوطن حينها، وسيف الضالعي وزير الخارجية السابق في حكومة ما بعد الاستقلال، والرئيس السابق المرحوم سالم ربيع علي الذي كان يطلق عليه شعبيا سالمين وغيرهم. كما عرفنا أن مقهى كشر في عدن كان ملتقى الأحرار وكان يملكه السيد هاشم عبد الله السقاف، حيث كان الناس يذهبون بعد صلاة الفجر إلى هذا المقهى لسماع صوت العرب وإذاعة الـ بي. بي. سي من جهز الراديو في هذا المقهى. وكان يطغى على خدمات هذه المقاهي وجبة الخمير الحلو أو المقصقص مع أنواع الشاي:الجرو العصملي الدبل ، و النص الذي يكثف فيه الحليب البقري. وكان عبد الله هاشم قد قدم الكثير للحركة الوطنية والرياضية حيث جعل من المقهى وسطحه سكنا للأحرار في بعض الأحيان، وأنفق على ذلك أمواله ومن ثمن حظائر الأبقار التي كان يملكها والكثير من الوطنيين اعتقلوا داخل هذا المقهى إبان الاستعمار البريطاني، وكانت مقاهي عدن ذات تاريخ مشهور وشاهد على التاريخ وما زالت تشكل جزءا من بنية الإنسان اليمني العدني الثقافية وموروثه النضالي والاجتماعي. [c1] المزماز ومقهى الشجرة [/c] أما الحديث عن مقهى الشجرة في الشيخ عثمان فهو حديث مليء بالذكريات. الفنان المزماز وهو شخصية معروفة كان ولا يزال يقود فرقة الليوة الراقصة الشعبية أفادنا بأن هذا المقهى من المقاهي العريقة والشهيرة التي كان يملكها المرحوم الحاج عبده مكرد عزعزي وكذلك مقهاية القميري وهما مشهورتان ببيع الشاي و خبز الطاوة وموئل كتاب عرض الحالات الذين يقدمون خدماتهم داخل هذه المقاهي وقال: ما زال مقهى الشجرة ملتقى للأدباء والفنانين والشعراء والرياضيين والتربويين وذكر من الرياضيين المشهورين قيراطومن الشعراء الشاعر المرحوم محمد سعيد جرادة والمرحوم إدريس حنبلة اللذين كانا يرتادان هذا المقهى، فضلا عن أن هذا المقهى يجذب الكثير من الناس المسنين والكهول لسماع الأغاني العدنية واللحجية والأبينية والحضرمية والصنعانية واليافعية التي كان يغنيها فنانون مخضرمون أمثال الفنان فضل محمد اللحجي واحمد قاسم ومحمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبد الله والعطروش وأيوب طارش والدباشي وابن حمدون واحمد يوسف الزبيدي، وهي أغان ارتبطت بالنهضة الفنية التي شهدتها عدن وميزتها عن دول المنطقة والخليج. أما المقهى الذي تأسس في عام 1955 فقد عرف بمقهى الرياضيين لفريق الشباب الرياضي الذين كانوا يحتفلون بانتصاراتهم، وكانت تدور فيه أغلب النقاشات السياسية، وكان مفتوحا على مدار الساعة، يقدم لزبائنه الشاي والخمير. أما رواده المشهورون أمثال إبراهيم صعيدي قائد نادي الشباب الرياضي عضو مجلس الشورى حاليا الذي كان يطلق عليه عابر القارات وسفيرنا السابق في الصين، إلى جانب المناضل صادق حيد من قيادة الجبهة القومية، والمرحوم والأديب الصحفي الوطني الكبير عمر الجاوي أمين عام حزب التجمع الوحدوي، وعبد الرزاق باذيب أمين عام حزب اتحاد الشعب، والفنان محمد عبده زيدي وغيرهم. [c1] تساؤل [/c]تأسيسا لهذا الاستعراض لمقاهي عدن ودورها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي نتساءل: هل يمكن اعتبار المقهى العدني واليمني عموما إفرازا هامشيا لمجتمعنا اليمني والإنسان المعاصر؟ لا شك أن المقهى التاريخي في عدن بالرغم من انتمائه إلى الفضاءات المخصصة لأوقات الفراغ وللمعاملات غير الرسمية والشكلية فإنه استطاع أن يلعب أدوارا مهمة في أحداث وطنية سياسية ونقابية وثقافية ورياضية وفي الترويج أيضا للأفكار والأيديولوجيات وللأدب والفنون وفي عقد الصفقات الهامة على درجة كبيرة من الأهمية في تاريخ اليمن. كما قدم بعض المقاهي خدمات أخرى أمثال كتاب عرض الحالات. وباتت تشكل هذه المقاهي موضوعا للإبداع والأدب والفن والسينما والمسرح. وهو في الواقع نتاج لحراك اجتماعي وتاريخي عاشه اليمن وعدن على وجه الخصوص في إطار إجاباتها على الأسئلة التي كانت كثيرا ما ترتبط بالحاجات البشرية والمادية والمعنوية المتجددة وهي تعيش التحولات الديمقراطية التي يعيشها المجتمع اليمني بأسره يتأثر بها ويؤثر فيها بشكل أو بآخر.