نبض القلم
تخبرنا بعض كتب السيرة النبوية وكتب الحديث الشريف عن بعض الأساليب التربوية التي انتهجها الرسول (صلى الله وعليم وسلم) في تربية الناشئة، وهو ما يجعلنا نحتذي حذوه في معاملة الأطفال ومن يتولى خدمتنا منهم، لما تحققه تلك التربية من نتائج ايجابية.ومن ذلك ما حدثنا به ثابت عن أنس (رضي الله عنه) قال: أتى علي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، ثم بعثني رسول الله في حاجته، فأبطأت على أمي، فلما جئت، قالت: ما حبسك؟ فقلت: بعثني رسول الله في حاجته، قالت ما حاجته؟ فقلت إنها سر، قالت لاتخبرن بسر رسول الله أحداً، قال: أنس: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت.وإذا تأملنا في هذا الحديث فإننا نتعرف من خلاله على نمط من انماط التربية النبوية، فأنس رضي الله عنه كان وقتها غلاماً يتولى خدمة الرسول، والخادم عليه أن يكون ملازماً من يتولى خدمته، ولما كان الرسول قد احتاج لخادمه، فإنه لم يجده، لأن الغلام كان يلعب مع الصبيان. فخرج بنفسه للبحث عنه، فلم يجد غضاضة في البحث عنه، لأن ذلك لم ينقص من شأنه، ولم يحط من قدره، كما لم يستأ من رؤية الطفل يلعب مع الأطفال، في الوقت الذي كان بحاجة إلى خدمته، ولم يعنفه أو يعاقبه، كما يفعل بعض الناس في أيامنا عندما يفتقدون واحداً من خدمهم، لأن رسول الله كان يعرف حاجة الغلام إلى اللعب، لذا لم يغضب ولم يزمجر أو يتوعد عندما وجد غلامه يلعب مع الصبيان وهو بحاجة إليه، لأنه يعرف أن اللعب غريزة فطرية لدى الإنسان.قال أنس: فسلم علينا، هكذا فعل رسول الله مع الأطفال اللاهين، عندما رآهم يلعبون، سلم عليهم، ولم يفزعهم كما يفعل بعض الناس في أيامنا، الذين يمنعون الأطفال من اللعب، لأنهم يرون اللعب مضيعة لوقت الطفل (وهي رؤية خاطئة).وقال أنس: (فبعثني في حاجته) أي أن رسول الله خصه بين سائر الغلمان، وساره بحاجته، دون بقية رفاقه بما يعني أنه رأى فيه قدرة وتميزا ربما لا تتوافر في بقية رفاقه، وهذا ما يسميه رجال التربية الحديثة بمراعاة الفروق الفردية لدى الأطفال.فهل ياترى يحتذي المربون في أيامنا بالرسول (صلى عليه وسلم) في مراعاة الفروق الفردية لدى الناشئة، عند التعامل معهم؟لقد شعر الطفل أنس بثقة لا حد لها، حين رأى رسول الله قد وثق به وساره في أمر من أموره، ثم يبعثه في حاجة من حاجاته، فكان لهذا أثره في نمو شخصية الطفل، أنس بن مالك الذي أضحى فيما بعد من كبار الصحابة، ومن رواة الحديث المشهورين.وكان أنس قد أبطأ على أمه ـ كما يخبرنا الحديث ـ بما يوحي بأن مهمته استغرقت وقتاً طويلاً، خشي أن تحاسبه أمه أو تعاقبه على تأخره، ولكنه أحسن التصرف مع أمه حين اخبرها عن سبب تأخره، بأنه كان في مهمة عظيمة يؤديها خدمة لرسول الله، ولكنه لم يفصح عن نوع تلك المهمة، بل اكتفى بالقول: (كنت اقضي حاجة لرسول الله) لبيان سبب تأخره، ولما سألته أمه عن ماهية تلك المهمة قال: (إنها سر) والسر لا يجوز الافصاح عنه، أو إذاعته، كونه قد تربى في مدرسة النبوة التي تحث على ضرورة الاحتفاظ بالسر، فالسر أمانة، كما يقول المثل.وقد باركت أمه هذا السلوك الايجابي، ولم تعنفه على عدم الافصاح به، ولم تضربه لأنه كتم عنها سراً، بل عززت فيه هذا السلوك الايجابي، وشجعته على الاستمرار فيه، فقالت له: (لاتخبرن بسر رسول الله احداً) ليقينها أن ابنها قد صار محط سر رسول الله، وموضع ثقته، ولاتريد زعزعة هذه الثقة، وظل هذا السر مكتوماً لم يبح به أنس، طوال حياته التي امتدت إلى ما يقارب المائة عام، فلو كان أنس يريد الافصاح عن السر، لقاله لصديقه ثابت راوي الحديث، ولكنه قال له: (والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت) بما يعني ان السر يجب ان يبقى سراً، لا يعرفه أحد سوى صاحبيه ومن الأقوال المأثورة: (أملك الناس لنفسه أكتمهم السره).[c1]*خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان[/c]