إضاءة في صفحة من صفحات تاريخ الثورة اليمنية المجـــــــيدة لأيام هزت اليمن
في قرية الحمامي القريبة من صنعاء الضاربة جذورها في أعماق فجر التاريخ صافح مولود في فجر الثلاثينيات الحياة، وعندما كان في سن السابعة وهو عمر يكون فيه في أشد الحاجة إلى حنان الأم ودفئها اختطفها الموت وأحس إحساسا جارفا أنه يعيش في غربة موحشة. ولم يمض وقت طويل حتى رحل والده وأخوه الأكبر عن الدنيا. فغرق الطفل الصغير في عالم الأحزان.و رأى هذا الصغير المجاعة وهي تنشب أظافرها القاسية في أهل قريته والموت يطاردهم في كل مكان، ويتخطفهم أفرادا وجماعات، وقد خيم الأسى، والشقاء على البلاد والعباد. وعمل هذا الصغير في رعي الأغنام مقابل حبوب متعفنة من القمح. وعصفت به الأنواء، وتقلبت به الأحوال حتى ألقت به في مكتب الأيتام المدرسة الابتدائية الوحيدة في عاصمة المملكة المتوكلية اليمنية صنعاء.إنها قصة الأستاذ الدكتور محسن العيني رئيس وزراء اليمن الأسبق، وأول وزير خارجية في حكومة الثورة السبتمبرية. في الرمال المتحركةومن الصور الحزينة و الكئيبة التي شاهدها محسن العيني والتي حفرت في ذاكرته هي صورة رائد اليمنيين الحركة الوطنية و شاعر اليمن الشهيد محمد محمود الزبيري، وزميله محمد أبو طالب الخطيب المفوه في جامع صنعاء الكبير مقيدا بالسلاسل والأغلال يقودهما العكفة ( الحرس الخاص للإمام ) إلى سجون الإمام المظلمة المرعبة بسبب نقدهما للأوضاع الفاسدة والقهر والظلم التي خيمت على حياة اليمن في عهد الإمام يحيى المستبد الذي عزل اليمن عن محيطها العربي والإسلامي وكمم الأفواه ونشر الرعب والخوف في نفوس اليمنيين. وكان من البديهي أن تؤثر تلك الحياة الصعبة والشاقة على تكوين شخصية العيني تأثيرا واضحا فتكسبه الصلابة وقوة الاحتمال ورباطة الجأش، والجرأة، وتكره في نفسه الظلم والظالمين.وعندما شب عن الطوق وصار شابا يافعا حزم أمره ووقف بجانب الحركة الوطنية المناهضة للإمام وأركان نظامه الفاسد. وعندما بزغت أنوار فجر الثورة السبتمبرية المجيدة، وقف معها بكل جوارحه ومشاعره وبذل قصار جهده هو ورفاق دربه لترتقي اليمن سلم الرقي والازدهار، وأن يرفرف عليها لواء الحرية والعزة والكرامة، وأن تمضي في عملية البناء والنماء .ولقد أجمع الكثير ممن عرفوه وأحبوه بان مفتاح شخصيته هو حبه العميق لليمن والذي كان أول وزير للخارجية في حكومة الجمهورية العربية اليمنية الفتية في عهد المشير عبد الله السلال ، وتولى بعد ذلك رئاسة مجلس الوزراء أكثر من مرة في ظروف سياسية غاية في التعقيد، وكان أيضا من صناع القرار السياسي في اليمن أو من أصحاب القرار أو بالأحرى كان يمسك بخيوط اللعبة السياسية في كثير من الأحيان دون مبالغة. وفي كتابه القيم (( خمسون عاما في الرمال المتحركة )) يروي لنا في عن الأوضاع والظروف السياسية التي كانت سائدة في عهد النظام الملكي وخصوصا في عهد الإمام أحمد الذي تولى الإمامة بعد أبيه الإمام يحيى الذي لقي مصرعه على يد أبطال ثورة 1948م الدستورية، وكذلك يروي قصته مع الثورة السبتمبرية 1962م ويحكي حكاية صراعه الحاد الذي نشب في أروقة الأمم المتحدة مع النظام الملكي البائد. وهذا الذي عرضناه من كتابه المهم والخطير قليل من كثير وغيض من فيض. ولسنا نبالغ إذا قلنا أن هذا الكتاب بمثابة وثيقة سياسية نادرة يجب ويتوجب أن يتعرف عليها الجيل الحاضر وجيل المستقبل ليتعرفوا على دور اليمنيين الأحرار في الحركة الوطنية اليمنية الذين ضحوا بأرواحهم من أجل شروق شمس الحرية على ربوع اليمن ، وكيف عاش، وعايش رجالات الثورة السبتمبرية الأوائل أوقاتا صعبة وخطيرة، ولقي الكثير حتفهم من أجل أن تمخر سفينة الثورة عباب أمواج البحار المتلاطمة الشاهقة كالجبال الراسيات والعواصف العاتية إلى شاطئ الأمن الأمان والسلام والازدهار والتقدم، وكان ذلك بالفعل. صنعاء ترقد عند الغروبيصف الدكتور محسن العيني صنعاء القديمة في عهد الإمام يحيى، بأنها كانت مدينة تغلق أبوابها، وترقد عند غروب الشمس، وتستيقظ عند أول خيوط شعاع الفجر. كان يغشاها الظلام الحالك، مدينة تعيش في عالم آخر غير العالم الذي يمور بالحركة، والنشاط، والحياة. وربما هنا كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلام العيني :“ كانت صنعاء صغيرة محاطة بالأسوار، تقفل أبوابها السبعة عند الغروب، ولا تفتح إلا بعد الفجر عند الشروق. وتعيش في ظلام دامس، إلا دار الشكر، ودار السعادة، حيث يعيش الإمام وأسرته ... لم يكن فيها فنادق أو مطاعم، بل مجرد (( سماسر )) متواضعة ينزل فيها المسافرون مع دوابهم، ومخابز بسيطة “. ويستطرد، قائلا : “ ... حتى السيارات كانت محدودة معدودة ربما لا تتجاوز أصابع اليدين، حتى ليقال إن الإمام يحيى عندما قتل في سيارته في ضواحي صنعاء، لم يجدوا ما ينقلون عليه الجثمان إلا سيارة كبير اليهود حبشوش ... “. بصيص من النورو يروي محسن العيني في صفحات حياته أنه رأى بصيصا من النور والأمل يخترقان حاجز العزلة الخانق الذي ضربه الإمام يحيى ونظامه المستبد على اليمن واليمنيين، عندما تلقت أسماعه كلمات أيقظت روحه الوثابة، وكانت بمثابة الأرض المتعطشة لقطرات المطر وهى الحرية، التعليم، الإصلاح، والعدل، وشاهد رواد الحركة الوطنية الذين كان لهم دور مؤثر وفعال في انفجار ثورة 48م في وجه السلطة الإمامية أمثال أحمد المروني، أحمد الحورش، أحمد البراق، وجمال جميل الضابط العراقي معلم الجيش اليمني. وقبله وصل إلى صنعاء وتعز المدرسون المصريون، واللبنانيون الذين كان لهم الفضل الجليل والكبير في نشر نور العلم والمعرفة بين طلاب المدرسة المتوسطة والثانوية، وقد كان حضورهم إلى اليمن بإلحاح من رجالات العرب الواعين والمثقفين في جامعة الدول العربية الذين ضغطوا على سيف الإسلام عبد الله بن الإمام يحيى ـــ الذي كان حينئذ وزيرا للتعليم ــــ بضرورة نشر ضياء العلم والمعرفة في اليمن، وكانت تتسلل إلى صنعاء صحيفة المعارضة الصادرة في عدن والتي كان لها دور كبير في تعرية النظام الإمامي أمام اليمنيين. وفي هذا الصدد، يقول العيني : “ووصلت بالفعل مجموعة من المدرسين المصريين واللبنانيين للتعليم في المدرسة المتوسطة والثانوية في صنعاء ومثلهم في تعز. وانتعشت الحركة السياسية والفكرية في صنعاء، ووصل الأستاذ الفضيل الورتلاني المناضل الجزائري المعروف، والدكتور أحمد فخري عالم الآثار المصري الشهير، ووصلت سرا إلى صنعاء “ صوت اليمن “ التي كان يصدرها اليمنيون الأحرار في عدن “. ويضيف، قائلا : “ وسمعنا من أساتذتنا أحمد المروني، وأحمد حسن الحورش، وأحمد البراق، ومحمد الحلبي، ومن صديقيهم السيد أحمد الشامي والرئيس جمال جميل الضابط العراقي معلم الجيش اليمني. سمعنا كلمات الظلم، والطغيان، والاستبداد، والحرية، والتعليم، والإصلاح، والعدل “. وكان من البديهي أن توقد تلك العبارات الرائعة التي تسمو بإنسانية الإنسان في وجدان محسن العيني الشاب الممتلئ حيوية ونشاطا كبيرين جذوة الحرية التي باتت جزءا لا يتجرأ من نسيج حياته ومشواره السياسي الطويل المفروش بالشوك الذي امتد قرابة خمسين عاما والتي ناضل من أجلها .في عدنوفي طريقه إلى الدراسة في لبنان ـــ في أواخر الأربعينيات ـــ يذكر العيني، كيف هو وزملاؤه انبهروا بمدينة عدن التي كانت تموج بالحركة ، والنشاط، والحياة، وكانت الأضواء تحيط بها من كل مكان والسيارات لا تنقطع عن الحركة، وكيف شاهد لأول مرة في حياته هو ورفاقه السينما، وكانت تعرض فيلم عنتر وعبلة. وكيف قضوا ليلتهم في مدرسة جبل الحديد التي كانت لأبناء سلاطين المحميات. وفي عدن التقوا أيضا بالمناضل الشهيد الشاعر محمد محمود الزبيري، والأستاذ نعمان لأول مرة وجها لوجه اللذين كانا ينقدان النظام الإمامي ، ومن عدن توجهوا بالسفينة إلى السويس بمصر. وفي هذا الصدد، يقول العيني : “ وفي عدن نزلنا بمدرسة جبل جديد التي كانت خاصة بأبناء أمراء المحميات وحكامها، وكانت خالية من الطلاب بمناسبة العطلة الصيفية. وقد فوجئنا فور وصولنا بوجود الأستاذين أحمد محمد نعمان، ومحمد محمود الزبيري، زعيمي تنظيم اليمنيين الأحرار. وقد سبق أن سمعنا عنهما ، وقرأنا ما يكتباه شعرا ونثرا، تنديدا بالإمام وحكمه وظلمه ودعوة إلى الإصلاح، واستنهاض الشعب وإيقاظه “. ويمضي في حديثه، قائلا : “ وقد ذهبنا معهما إلى دار السينما للمرة الأولى في حياتنا، وشاهدنا فيلم (( عنتر وعبلة ). ولم ننم بعد ذلك أياما إعجابا وذهولا. وشاهدنا مدينة عدن، وهى تسبح في أنوار الكهرباء طوال الليل، والسيارات تسرح وتمرح في شوارعها المعبدة، بعد الظلام الدامس في صنعاء وتعز والحديدة ومدننا وقرانا في الشمال “ .في القاهرة ولم يمض وقت على بقاء العيني في صيدا بلبنان حتى انتقل هو وزملاؤه للدراسة في القاهرة بسبب غضب الإمام أحمد من الحكومة اللبنانية التي منحت حق اللجوء السياسي لأحد الذين حرضوا اليمنيين الأحرار على الثورة الدستورية 48م والذي كان له اليد الطولي في مصرع والده الإمام يحيى وهو الفضيل الورتلاني الجزائري .وفي القاهرة تفتحت وترعرعت واتسعت مداركه السياسية بسبب التيارات السياسية المتنوعة من الأحزاب وعلى رأسهم حزب الوفد الذي كان يمتلك قاعدة شعبية عريضة في مصر والذي كان دائما في صراع مع الملك والإنجليز من ناحية والصحف المصرية التي كانت تنتقد فيها نظام أركان الملك فاروق بشجاعة نادرة وجرأة كبيرة من ناحية أخرى. ويذكر العيني كيف كانت جامعة القاهرة في الأيام الأولى من فجر ثورة يوليو عام 1952م تمور بالحياة السياسي، وكيف كانت فيها مختلف المشارب السياسية، وفي هذه السنة نفسها التحق العيني بكلية الحقوق في جامعة القاهرة ويروي عن تلك الأيام قائلا : “ كانت جامعة القاهرة تعج بالنشاط السياسي المصري للشبيبة الوفدية وشباب الإخوان المسلمين و (( مصر الفتاة )). وفي ساحة الجامعة تكثر التظاهرات وبخاصة في الأشهر الأولى للثورة وقبل إعلان الجمهورية”. ولقد تأثر العيني بعدد من كبار أساتذة الجامعة أمثال محمد أبو زهرة، عبدالمنعم بدر، حامد سلطان، عبد الله العريان، ورفعت المحجوب وغيرهم. والحقيقة أن استعراضنا السريع للحياة السياسية الذي مر بها الأستاذ العيني هو لأنها كانت لها بصمات واضحة في تكوين فكره السياسي أو بالأحرى نهل من ينابيع من تلك الحياة السياسية والتي كانت له معينا في مشواره السياسي الطويل. الزبيري وعودة الروحبعد أن فشلت الثورة الدستورية في سنة 1948م، تمكن الإمام أحمد من القبض على الكثير والكثير جدا من رواد الحركة الوطنية فمنهم من قضى عليهم، ومنهم من زج بهم في غياهب السجون المظلمة ، ومنهم من تشرد كالشهيد الشاعر رائد الحركة الوطنية محمد محمود الزبيري الذي توجه إلى الباكستان وعاش فيها حياة غاية في الصعوبة. وعندما بزغ فجر الثورة المصرية في يوليو 1952م، والتي كان من أهدافها ومبادئها مساعدة حركات التحرر في الوطن العربي وفي ظل هذا المناخ السياسي الصحي وجد الزبيري أن الوقت مناسب لإعلان النضال ضد النظام الإمامي المستبد في اليمن من مصر عبد الناصر، وتعرية نظامه الذي يقوم على القمع والقسوة، وتكميم الأفواه. وكان من أثر ظهور الزبيري في القاهرة أن أحدث صحوة سياسية بين صفوف الطلاب اليمنيين المتعطشين للتغيير والرافضين لأساليب الحكم الإمامي الذي أدخل اليمن في نفق العزلة المظلم. وفي هذا الصدد، يقول العيني : “ وصول الأستاذ الزبيري إلى القاهرة كانت نقطة البداية من جديد لنضال اليمنيين الأحرار بعد ركود طويل إثر فشل ثورة 1948م. فقد بدأ اتصالاته مع رجال الثورة المصرية والشخصيات العربية في القاهرة، وتجمعات اليمنيين في عدن والسودان وأثيوبيا وبريطانيا وفرنسا. وبدأت إذاعة (( صوت العرب )) وكان لليمن فيها نصيب الأسد من ساعاتها الأولى “. وبمعنى أخر لقد اشتعلت مرة أخرىجذوة الثورة التي كانت تحت الرماد من فترة طويلة بعد فشل الثورة الدستورية أو بالأحرى كان وجود الزبيري بين الطلاب واليمنيين الأحرار بمثابة عودة الروح للنضال الوطني من جديد .انقلاب 1955مويكشف العيني لأول مرة عن مهمته السرية والخطيرة وهي أن يلتقي بالمقدم أحمد الثلايا، عندما كانت تعز تعيش أحداث الانقلاب على الإمام أحمد سنة 1955م. وقد حمل الزبيري العيني في مصر رسالة إلى الثلايا. وعندما وصل العيني وزميله جغمان إلى عدن، وجد أن حركة الثلايا، قد تم القضاء عليها. وعندما وجدا أن الأمور انقلبت رأسا على عقب. قررا أن يتحدثا مع الأستاذ أحمد نعمان، والقاضي عبد الرحمن الإرياني حول السبب الحقيقي وراء مجيئهما إلى تعز. فيقول : “ في دار الضيافة التقيناهما وأخبرناهما عن مهمتنا الحقيقية، وأننا كان المفروض أن نصل إلى تعز، وهي تعيش الانقلاب، ونقابل المقدم الثلايا الذي نحمل إليه رسالة، لكننا واجهنا التغيرات. ودعينا للوصول فلبينا “ .السفر إلى باريسيذكر العيني أن الإمام أحمد، قد أمره أن يدرس في باريس بدلا من القاهرة بحجة تعلم اللغة الفرنسية، ويشرح السبب الحقيقي وراء ذلك هو أن الإمام كانت غايته إبعاده عن القاهرة التي كانت تمور بالحركة الوطنية الموجهة ضد نظام حكمه. ولقد حاول العيني مع الإمام أن يشرح له بأن الدراسة في القاهرة أسهل من الدراسة في باريس ولكنه أصر على ذهابه. “ وطلب من القنصل ترتيب كل ما يلزم، واستدعى الشيخ أحمد حسين الوجيه لتسديد مصروفات السفر والدراسة، ورفض أي مراجعة في هذا الموضوع“. وربما هنا كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلامه، فيقول : “ وكما أبعدنا من صنعاء عام 1954م إلى القاهرة مع ابنه البدر، أبعدنا هذه المرة من القاهرة إلى باريس عام 1955 تفاديا لأي نشاط كان يتصوره “ .في حي الحريةويذكر العيني كيف كان نسيم الحرية يرفرف على الحي اللاتيني في باريس ــــ في الوقت الذي كانت اليمن تعيش في دياجير الجهل والظلام في عهد الإمام ـــ وقد كان مسرحا للتيارات السياسية و الفكرية المتنوعة التي كانت تطرح آراءها بكل حرية وجرأة دون خوف من السلطات الفرنسية، وفي هذا الحي التقى بعدد كبير من العرب من شمال أفريقيا، والشام، ومصر. وفي أثناء ذلك قطعت عليه وعلى زميليه جغمان، والرعد المنحة الدراسية بسبب وصول معلومات إلى الإمام أحمد بأنهم مازالوا على اتصال بالحركة الوطنية في القاهرة. ويصف العيني المحنة التي عاشوها في باريس بسبب قطع المنحة الدراسية عنهم ـــ على نحو ما سبق وذكرنا، فيقول : “ ولم نعد نعطي أي أهمية للدراسة في باريس، فوجهنا رسالة إلى عدد من كبار الطلاب في القاهرة، تركت أثرها الإيجابي في القاهرة والسلبي في باريس، فقد قطعت عنا المنحة الدراسية، وكان علينا أن نواجه البؤس والمتاعب في باريس ... ورغم الظروف القاسية التي تعرضنا لها فقد آثرنا الاستمرار والصمود وعدم العودة حتى لا تتأثر معنويات زملائنا الطلاب في القاهرة. وقد أمضينا عامي 1955 و 1956 في باريس والتحقنا في الصيف بـ (( الأليانس فرانسيز )) وتعلم اللغة بالسوربون وتسجلنا في كلية الحقوق “. ويعقب العيني الذي رأى الحرية الحرة تطل برأسها في كل مكان من الحي اللاتيني، فيقول : “ الحي اللاتيني بمفاهيمه ومكتباته، وفنادقه الصغيرة، مقاهيه وميادينه وشوارعه وأزقته وحديقة اللوكسمبور والبانثيون أو مقر الخالدين ... وصحف “ لوموند “ و “ فرانس سوار، و “ فرانس أو بزرفاتور “ و “ الاكسبريس “ عالم يندر أن تجد له مثيلا في أي عاصمة أخرى “. مع الشيخ سالم البيحانيوفي يوليو 1959م، نال العيني شهادة الحقوق من جامعة القاهرة، وكان من الخطورة العودة إلى اليمن في ظل حكم الإمام أحمد المتربص به الدوائر بعد أن عرف أن العيني مازال متصلا باليمنيين الأحرار. وكيفما كان الأمر، فقد التقى في القاهرة بالشيخ محمد سالم البيحاني واتفقا على أن يدرس في المعهد العلمي الإسلامي بعدن. وقد قام بتدريس مادتي التاريخ والتربية الوطنية، وكان معه عدد من شخصيات الحركة الوطنية البارزة والتي التي كانت تدرس في هذا المعهد، ويذكر العيني أنه درس لعدد من الطلبة الذين أصبحوا لهم شهرة واسعة وعريضة في ميداني السياسة والفن. وفي هذا الصدد، يقول : “ وقد تزاملت مع أستاذي السيد أحمد حسين المروني، وعلي السلامي، وسالم زين، وجعفر علي عوض، ومن تلاميذها كثيرون من برزوا في ما بعد في الحياة السياسية والفنية أمثال سالم صالح، وعبد العزيز عبد الولي، وفؤاد طه الفتيح، وأيوب طارش وغيره “ .في نقابة المعلمينوفي أثناء تدريس العيني في المعهد العلمي الإسلامي، تم انتخابه أمينا عاما لنقابة المعلمين التي كان يرأسها الأستاذ عبد الله فاضل فارع وبذلك صار عضوا في المجلس التنفيذي للمؤتمر العمالي. ويوضح العيني أن قضية اليمن بشماله وجنوبه كان شغله الشاغل، وهاجسه، وهمه الأول والأخير، وكان في نشاطه وعمله النقابي لا يفرق بين قضايا الجنوب وقضايا الشمال، وقضايا الوطن العربي بصورة عامة. ويروي العيني أن الأوضاع في الحكم الإمامي كانت تترنح من جراء انتفاضات بعض القبائل من خولان، القبيطة، واليوسفيين، وقد وصل إلى عدن بعض زعمائها “ وكان أبرزهم سنان أبو لحوم، وعلي بن علي الرويشان، وأحمد علي الزايدي، ومحمد أحمد الحباري، وعلي أبو لحوم “. رياح الثورة وفي إحدى زيارات العيني إلى القاهرة التقى العقيد محمود عبد السلام، وكان أحد المختصين والمسئولين في ملف اليمن، وقد فوجئ العيني بأن المصريين يقومون باتصال مع الضباط الأحرار في صنعاء، واتصلوا أيضا ببعض اليمنيين الأحرار والسياسيين. وقد صرح له العقيد عبد السلام أن الثورة ستندلع قريبا في اليمن. ولكن الذي لفت نظر العيني هو قول عبد السلام بأنهم تجنبوا الاتصال بالزبيري، والأستاذ أحمد نعمان. وعلى أية حال، لقد بلغ العيني كل من الأستاذ أحمد نعمان، والزبيري تلك المعلومات الخطيرة. وفي هذا الصدد، يقول : “ ... توجهت إلى منزل الأستاذ الزبيري وقلت له إن الجماعة يعدون لحركة وراء ظهر الجميع، وعلينا أن نباركها، ونتمنى لها النجاح. وخوفنا فقط هو أن يخطئوا أو تفشل “.مع الزعيم عبد الكريم قاسمفي 28 أيلول ( سبتمبر ) 1962م، وصل محسن العيني إلى بغداد في عهد عبد الكريم قاسم وكانت العلاقات متوترة بين القاهرة، وبغداد، وفي تلك الأوضاع السياسية، تم استدعاؤه إلى مقابلة اللواء قاسم والذي أطلعه بأن الثورة انفجرت في اليمن، وأنه عين وزيرا للخارجية في حكومة الثورة. ويقول العيني : “ وبينما كنت أتناول العشاء ضيفا على اتحاد عمال العراق مساء الجمعة 28 أيلول سبتمبر 1962، إذا بسيارة اللواء عبد الكريم قاسم تصل لتنقلني لمقابلته في وزارة الدفاع حيث كان يقيم ويعمل. وقد ذكر لي أن ثورة قامت في اليمن، وأسمعني ما سجلته وكالة الأنباء العراقية من بيانات أذاعها راديو صنعاء، بينها بيان بتشكيل الحكومة التي عينت فيها وزيرا للخارجية “. ولقد طلب العيني من الزعيم قاسم أن يؤجل الاعتراف بالثورة والجمهورية قبل أن تعترف مصر عبد الناصر بها حتى لا يثير ذلك حساسية عند الأخيرة. وربما هنا كان مناسبا أن نقتبس فقرة من كلامه:“ وعند مغادرتي لمكتبه، لاحظت اندفاع مصورين وصحافيين، فالتفت مباشرة إليه وقلت له : سيادة الزعيم، أرجو إعفائي من أي مواجهة معهم، أو حديث. فلا أرغب في ممارسة أي عمل ... بمجرد خبر في الإذاعة عن تعييني وزيرا للخارجية. فوافق، وكنت أشعر أنه كان يعتزم إعلان اعتراف العراق بالجمهورية اليمنية. ويمضي في حديثه، فيقول : “ وقد فعلت هذا رغبة مني في تفادي إثارة أي حساسية مع القاهرة التي لا شك في أنها تحرص على أن تكون أول دولة تعلن الاعتراف بالثورة والجمهورية في اليمن، وكان الخلاف على أشده بين القاهرة وبغداد. وكيفما كان الأمر، فقد وعد الزعيم قاسم، العيني على تقديم كافة المساعدات والعون للثورة والجمهورية الفتية .صراع في الأمم المتحدةومن أهم المشاهد التي ذكرها محسن العيني في ثنايا صفحات كتابه أو مذكراته السياسية، وإن كانت كلها مشاهد وصور غاية في الأهمية هي مشاهد عن نضاله الوطني وصراعه الحاد والقاسي الذي اشتعل أواره مع الوفد الإمامي الذي تولى مقعد اليمن في الأمم المتحدة قبل قيام الثورة بعشرة أيام واستخدم الأخير كل الوسائل والسبل من أجل منع الوفد الجمهوري اليمني من شغل مقعده في الأمم المتحدة. ولكن العيني والذي كان المندوب الدائم للجمهورية في الأمم المتحدة ومعه عدد من الشخصيات العربية السياسية المؤمنة بالتغيير والثورة وقفت بجانبه تدعمه وتسانده حتى تم طرد الوفد الإمامي من الأمم المتحدة، وتمكن الوفد الجمهوري أن يحتل مقعد اليمن في الجمعية العمومية في الأمم المتحدة وبذلك ارتفعت راية الجمهورية اليمنية الفتية في ساحتها إلى جانب أعلام دول الوطن العربي، والعالم الإسلامي والدولي. ويروي العيني الصعوبات والعراقيل الكثيرة التي كانت عقبة كأداء إزاء تلك القضية الهامة والخطيرة. فيقول : “ وكانت مهمتنا صعبة، لأن الوفد المكي سبقنا وأحتل مقعد اليمن في الجمعية العمومية التي بدأت في منتصف أيلول ( سبتمبر )، أي قبل ثورتنا بعشرة أيام، كما أننا بدون وفد دائم في نيويورك، فقد كان وفد الجامعة العربية هو الذي يحمل أسم وفد اليمن ... “. الرئيس بن بللا ويذكر العيني أنه فوجئ باعتذار رد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية عن أي تعاون من ممثل الجامعة العربية مع قضية شغل الجمهورية مقعدها في الجمعية العمومية بدلا من الوفد الملكي، فيقول:“... لأن عددا من الدول العربية لم تكن قد اعترفت بالنظام الجمهوري، والأمين العام لا يريد أن يزج بجامعته في قضايا لا تزال محل خلاف ونزاع“. ويذكر العيني أن الدور الكبير البارز الذي أداه الرئيس الجزائري بن بللا، إلى جانب عدد من رؤساء الدول والوفود التي كانت في نيويورك كان له الأثر الكبير بأن يحتل الوفد الجمهوري مقعد اليمن في الجمعية العمومية، ومن ثم طرد الوفد النظام الملكي منها وأجرى العيني ــ أيضا ـــ العديد من الاتصالات مع الشبان اليمنيين الذين يدرسون أو يعملون في الولايات المتحدة الأمريكية وفضلا عن ذلك أجرى اتصالات واسعة ومتعددة مع الأمانة العامة للأمم المتحدة، ومع جميع وزراء الخارجية ورؤساء الوفود. وقد شرح قضية الثورة وأسباب قيامها للخروج باليمن من نفق العصور الوسطى إلى رحاب التقدم والازدهار، فيقول : “ ما عانته اليمن من ظلم وتخلف وعزلة وحرمان، وما قام به الشعب اليمني من نضال طوال ربع قرن حتى تمكن من إعلان الجمهورية، وما ينتظرنا من أعمال ومشاق لنرفع مستوى المعيشة، ونحطم العزلة، ونعيد بناء الدولة والحياة التي تتفق مع تطور العالم في النصف الأخير من القرن العشرين “. وانتصرنا في الأمم المتحدةويذكر الدكتور والأستاذ محسن العيني، كيف أقرت لجنة أوراق الاعتماد اعتبار الوفد الجمهوري ممثلا شرعيا لليمن، وكيف استقبل الوفد الجمهوري استقبالا حارا وكبيرا من قبل مندوبي الجمعية العمومية. وفي هذا الصدد، يقول : “ وفي 19 كانون الأول ( ديسمبر ) 1962، وبعد اعتراف عدد كبير من الدول وبينها الولايات المتحدة الأمريكية بالنظام الجديد في صنعاء أقرت لجنة أوراق الاعتماد اعتبار الوفد الجمهوري ممثلا شرعيا لليمن “. ويسترسل قائلا : “ ... وما أن نطق السيد محمد ظفر الله خان رئيس الجمعية العمومية لتلك الدورة ورئيس وفد باكستان، أن وفد الجمهورية العربية اليمنية هو الممثل الشرعي لليمن، حتى توجهنا وسط تصفيق حاد من معظم المندوبين إلى مقعد اليمن بينما انسحب الوفد الملكي “. الهامش : الدكتور محسن العيني ؛ خمسون عاما في الرمال المتحركة، الطبعة الثانية، أيلول 2000، دار النهار للنشر، بيروت .