دلت الحالات والنماذج الشعرية والغنائية الموسيقية التي تحدثنا عنها في كتاباتنا الفنية النقدية عن الفنانين والشعراء الذين تناولنا بعض أعمالهم الشعرية والغنائية على وعــيــ نظري وفكري بالجمال، ولدى عــدد آخر ممن لم نأت على ذكرهم ، ولما كان الشعر وسيلة الشاعر للتعبير عن إدراكه بأهمية الجمال ، فقد انشغل بالقصيدة أو الأغنية ومنحها أقصى إهتمامه ، ويظهر ذلك جلــياً في اشتغال البعض على اللغة وعلى اللهجة من ناحية، ومن ناحية أخرى من خلال اشتغال البعض الآخر على الكلمة - المفردة ومشتقاتها ،والمستعمل منها والمهمل، أو الاشتغال عليهما معاً، والا هتمام بالصورة وبالمكان والزمان وغيرهما من المضامين التي لا يمكن أن تنهض القـصـيـدة - الأغـنية بدونها. ويبدو واضحاً وجلياً إهتمام الموسيقار أحمد قاسم وإدراكه بضرورة الارتقاء في تطوير وإبراز النواحي الموسيقية الدالة على معانٍ وصور تعبيرية تصويرية ذات رؤى هندسية معمارية فــلسفية وجمالية في ألحانه وأغانيه ذائعة الصيت المنتشرة والرائجة على امتداد الجزيرة العربية والخليج والوطن العربي بأسره. نجح الموسيقار أحمد قاسم في تعاطيه مع الشعر الغنائي بتفوق واقتدار غير مسبوق مدعماً بإشتغالات واعية تستند على أهمية إضافة أبعاد إبداعية جديدة مسموعة ومرئية موسيقية علمية أكاديمية في أعماله وألحانه تضاف للنص الغنائي وترتقي به إلى مدارات تحمل مضامين معرفية ثقافية كونية غير متناهية، ما سنتطرق إليه نموذج يؤكد حالة من حالات التوحد الإبداعي الفكري بين قطبين هامين شكلا (ثنائية غنائية) وبصمة هامة في مسار تاريخ الغناء اليمني الحديث والمعاصر: الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم والأديب الشاعر لطفي جعفر أمان، في قراءة نقدية لهذا العمل الفني البديع ( أغنية في جفونك).في الواقع يعتبر المرحوم الشاعر الكبير لطفي جعفر أمان خير مثال للاشتغال الشعري على اللهجة والمفردة معاً من خلال حرصه على جمال الكلمة وعنايته بها لفظاً ومعنى ومبنى مما يمكن تشبيهه بالصناعة الدقيقة المبنية على عذوبة المنطق ومراعاة النسب اللفظي بين الحروف. في أ غنية (في جفونك) من الحان وغناء الفنان أحمد قاسم ،نجد مثالاً على هذا الاشتغال الفني على اللهجة والمفردة والصورة الموسيقية المتكاملة:((في جفونك مرود السحر استوىيا مكحل بالــهوى ..شوف ما سويت في القلب استوىوهوى .. وهوىمن عيونك .. من عيونك))فنحن نرى في هذا النص الشعري الغنائي على رغم أن كلماته تبدو عادية في القراءة الأولى، لكن في القراءة الثانية سنجد (الصورة الفريدة لديناميكية الحب وكيميائيته) التي أعطت للنص (رفعة وطاقة دياليكتكية) ما يجعلها (الأبيات) والاشتغال النغمي الموسيقي بمصاف نـص بصري ، فنحن لا نقرأ النص أو نسمعه هنا فقط، بل نرى ذلك (التفاعل الكيميائي لذلك القلب العاشق) ، وقد انتقلت إليه شحنة الحب ودبيبها من قلب الحبيب المكحل بالهوى، ونحس خفقانه، وإشتعال نار الغرام فيه.إن أغنية (لطفي /أحمد قاسم) تتميز دائماً بفنها الرفيع، جماليتها، ونسيجها اللغوي، وصياغتها الشعرية واللحنية الحساسة مع ما تحتويه من أناقة لفظية ونغمية ومعانٍ سامية تنسجم وتتناغم مع شاعر بحساسية ورهافة وأناقة وتناغم لطفي أمان مع روحه وذاته ونصه الشعري، وملكات وفذاذة ورومانسية الموسيقار العبقري أحمد قاسم. ونلحظ في الأبيات التي جئنا على ذكرها، كيف أورد المفردة ((مـــرود)) وفي أي سياق شعري استخدمه وكيف وظف هذه الكلمة (المهملة) التي نادراً ما تستخدم فجعلها ( أيــقــونة ) في مطلع الأغنية (في جفونك مرود السحر استوى).إن هذا المطلع الساحر يدل على أن لطفي أمان وأحمد قاسم كان لديهما وعي واضح بقضايا الجمال والأسس الدقيقة في إدراكه والإحساس به ، كما تمتعا في نفس الوقت بذات القدر من الوعي بجمال اللغة العربية فحرصا على (تصوير المعاني في الأغنية) بالألفاظ التي بها وتدل عليها. فبعد أن حدد (لطفي) مكنون السحر في جفون الحبيب فإنه يفيد من المعنى الذي يكمن وراء ذلك المعنى الذي أراده فيخرج به من حيث المألوف والمعتاد إلى استشفاف معنى جديد من اللفظ السابق للارتقاء به ((يا مكحل بالهوى)) الذي يثير الدهشة في نصه الجمالي، فلو قال أن حبيبه مكحل بما تكتحل به النساء أي (الكحل) لما أصبحت معشوقته ذلك النموذج للجمال الساحر أو لسحر الجمال، ولما استدعى منه ذلك أن يتغنى بها طالما هي كسائر النساء في جمالها وفي زينتها ما لم يكن الشاعر نفسه هو الذي يسمو بها في شعره إلى مصاف جمال لم تبلغه النساء من قبل (! ). التحليل المقامي والإيقاعي :أبدع الموسيقار الراحل أحمد قاسم في لحن الأغنية على مقام (السوزناك)، ثم ينتقل في الكوبلية إلى مقام آخر في هذه الأبيات :((با أهب لك كل ما تشتي وأكثر /يا حلا في كأس كوثر/ بس قلي يا قمر ملفوف بعنبر/ يا مشدر إيش أهب لك؟ با أهب لك)) مستخدماً مقام (الحجاز على درجة الصول) ثم يعود إلى المقام الأساسي (السوزناك) ، وكان موفقاً للغاية في إستخدام إيقاع (الرومبــا ) الذي يكتب (4/4)، وفي هذه الأبيات الرائعة يصف الشاعر معشوقه فهو حلا في كأس كوثر، وهو قمر ملفوف قوامه البديع بعنبر،( والمشدر) الذي لا يمكن أن يحجب فتنته شيء بل يزيده فتنة ودلالاً، وفي الحقيقة أن المستمع للأغنية ومطلعها في (المذهب) بصوت أحمد قاسم الجهوري (الذهبي) يدرك ماهية ووظيفة فن الغناء والأداء العميق في أبهى صوره وتجلياته في هذه الأبيات: (في جفونك مرود السحر استوى/ يا مكحل بالهوى/ شوف ما سويت بالقلب استوى/ وهوى .. وهوى/ من عيونك .. من عيونك) ،حوار وسيناريو لغوي بلاغي موسيقي نغمي ترجمه بتألق موسيقارنا الخالد واستطاع توصيل أحاسيسه ومشاعره وخلجاته للمستمع المتلقي، فهو يحترق لوعةً وصبابةً وهياماً في مخاطبة المعشوق الحبيب الذي يرى في جفونه وعيونه العالم بأسره ولا يستطيع حياله إلا التضحية بنفسه وحياته مهما كانت النتائج وعواقبها.((كوبليهات من الأغنية))يا معطر يا الذي بانك علاكلما تخطر دلاخطرتك في القلب نشوى وسلايا حلا .. يا حلازيد تخطر.. يا معطر***شوف جروحي نظرتك أم بسمتكقتلت ؟ أم خطرتك ؟آه يا قاتل ومحيي ميتـكفديتك .. فديتكشوف جروحي.. كل روحي
|
فنون
الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم .. قراءة نقدية في أغنية (في جفونك)
أخبار متعلقة