سماح تمام -1 رجل وسيارةالساعة الواحدة والنصف فجرا. نسمة باردة جعلتها ترتجف. قامت لتغلق النافذة. رأت رجلاً يتحرك بصعوبة شديدة حول سيارة واقفة أسفل العمارة المواجهة لها ويمسح السيارة.عندما دققتْ النظر تبينت أنه جارها الذي لا تكاد تراه سوى خمس أو ست مرات في العام. لم تردْ إحراجه، رجعت برأسها إلى الوراء قليلا.ينقل قدميه بصعوبة ويمسح سيارته، عيناها تلتهبان. الرجل تجاوز الستين، ولم ينجب. ما الذي جعل قلبها يدقّ بسرعة وما الذي جعل عينيها تلتهبان بدمعتين مالحتين رفضتا أن تطفرا؟هل رأت نفسها في الواحدة والنصف من فجر يوم ما وهي تنقل أقدامها بصعوبة شديدة ممسكة بقماشة وتدور بها بصعوبة أشد حول سيارتها؟ربما!-2 ثلاث سيداتقال لها المشرف على رسالتها: اذهبي إلى هذه المصحة النفسية فقد تجدين بها من الحالات ما يساعدك في إعداد بحثك. ذهبتْ الباحثة الشابة، واختارتْ ثلاث حالات على أمل أن يكون في حديثهن شىء من التعقل.طرقت الباب بحذر، وانبعث صوت من الداخل يأذن لها، فولجت إلى الحجرة وجلست تنصت إلى محدثتها وهي تقص حكايتها:- دائي الوحيد هو سنوات عمري، فهي تعاندني. كنت أسير وراء اليقين ووراء الخرافة بالثقة نفسها. وعندما أخبروني أن هناك سيدة تجعل النساء حوامل عندما ينظرن إلى عينيها، ذهبت ونسيت أنه لم يكن بي داء لكي أذهب لها.لم يكن عندي اختيار أو حرية اتخاذ قرار، وعندما رحل جنيني قلت لأمي: اذهبي لنساء القرية وأبلغيهم أنني عدت خالية الوفاض. ومع كل يوم يرحل أتذكر رحمي الخالي وأجد بداخلي طاقة حقد أودّ معها أن أنزع أفواه الأطفال من أثداء أمهاتهم، وأشعر أن كل نساء الأرض لسن جديرات بأطفالهن وأنني وحدي الأحق.لم أكن أدري على من أصب غضبي، ولم أجرؤ أن أبوح بما في داخلي لأحد، فلم أجد سوى التحدث مع نفسي. كنت أجيد التحدث معها، فظنوا أن بي مسا من الجنون وأتوا بي إلى هنا. كنت أحيانا أصرخ ويشقّ صراخي الفضاء ليصل إلى القمر لعله يتنازل ويرد لي طفلي الذي توهمته جالسا فيه.تركتها السيدة وذهبت إلى النافذة تتطلع إلى السماء وتهمهم بكلمات غير مفهومة، فانصرفت الفتاة إلى الحالة الثانية، وجلست تنصت لصاحبتها:- كنت دائما أحذّر ابنتي من النار، وكان التحذير يذكرني بعلبة الثقاب التي حرصت دوما أن أنقلها معي من حياة إلى حياة. كان والدي يخبرني أن النار مثل الأيام لا يمكن الاطمئنان لها أو الوثوق بها.كنت أحمل نفسا ثائرة وكانتْ الثقاب قريبة مني أشعلها وقتما أشاء. كم حذروني من النار، ولكنني كنت أصمّ أذني وأسير معصوبة العينين إلى العود أشعله وتشتعل معه قطعة مني.انظري.. العلبة ليست فارغة تماما. كلّ الأعواد بها ولكنها لم تعد صالحة، فما سبق اشتعاله لن يشتعل ثانية ولن يخلف وراءه سوى رماد مثل رماد الذكريات والندوب التي بقيتْ في قلبي وفي روحي بعد كل عود أشعلته.يا ابنتي.. قتلني الانتظار وجعلني أشعل في كل يوم من ألمي ووحدتي وشوقي عود ثقاب.أتمتْ حديثها وأشاحتْ بوجهها عن الفتاة وذهبت تفتح حقيبتها وتخرج منها مجموعة من أعواد الثقاب، تتحدث معها وتناجيها مناجاة الحبيب.طرقتْ باب المرأة الثالثة، فوجدتها تتأمل قلّامة أظفار وضعتها أمامها، ودون أن تسألها بادرتها السيدة بالحديث:- أنا بإرادتي قلمت أظفاري، كانت هذه هي الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بمن أحب. كنت كالفرس الجامح، وعندما كدت أن أفقده اشتريتها، وأصبحت كلما سمعت حفيف أقدام الفرس يقترب، أمسك بها لأنزع بعض الأظفار التي قد يفقدني وجودها إياه. ويوما بعد يوم، صرت مثل هرة تآكلت مخالبها فلم تعدْ تجد ما تدافع به عن نفسها.لم أكنْ أريد سوى ما يريده هو، ولم أكن أعرف أنني عندما أصبح مقلّمة الأظفار هكذا سوف أفقد أيضا جنوني واندفاعي في حبه، فالفرس لم يكن جامحا في غضبه فقط ولكنه في حبه كان أشد جموحا.لم أعد أعرف أيهما أصدّق وأيهما أريد: من كنت أم من أصبحت.توقفت المرأة عن الحديث ونظرتْ إلى الفتاة نظرة فاحصة ثم قالت: هل تستطيعين أن تعيدي أظفاري هذه إلى أصابعي مرة أخرى لأعود كما كنت؟ انصرفت الفتاة تاركة خلفها امرأة تحاول دون جدوى أن تعيد أظفارها، ومع كل محاولة فاشلة تلقي باللوم والغضب على قلامة الأظفار.أنهت الباحثة الشابة مهمتها، وفي طريق العودة شردت وراحت تسأل نفسها: أي قدر قاد هؤلاء السيدات الثلاث إلى ذلك المكان وأبقانا نحن خارجه؟مزقت أوراقها وابتسمتْ ساخرة وأخرجتْ من حقيبتها أعواد ثقاب.. بعضها سبق اشتعاله.
|
ثقافة
قصص قصيرة
أخبار متعلقة